|
الهيمنة الثقافية في ظل الديمقراطية: تحليل غرامشي واستراتيجيات النضال
حميد كشكولي
(Hamid Kashkoli)
الحوار المتمدن-العدد: 8043 - 2024 / 7 / 19 - 00:18
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
يمارس المجتمع السياسي في ظل الديكتاتوريات، سيطرة إيديولوجية قمعية، بينما في "الديمقراطيات" الغربية، ينظم المجتمع المدني الهيمنة الثقافية من خلال المؤسسات الرأسمالية إذ توفر حرية التعبير في "الديمقراطيات" الغربية مساحة للنقاش والاختلاف، إلا أنها تخفي أيضاً هيمنة ثقافية تمارسها المؤسسات الرأسمالية التي تسعى، بدافع الربح، إلى نشر محتوى يتوافق مع مصالحها، بغض النظر عن قيمته الفكرية أو الاجتماعية. إنّ التركيز على النضال الثقافي الطبقي أمرٌ ضروريٌّ لمواجهة هذه الهيمنة. و كما أوضح غرامشي، فإنّ هذا النضال يجب أن يتمّ أولاً في إطار المجتمع المدني، مستخدمين هامش الحرية المتاح.
تقدم أفكار غرامشي إستراتيجيات قيّمة للنضال الثقافي: • استخلاص الأفكار التقدمية وتطويرها: يجب على اليسار العمل على بلورة أفكار تقدمية تتناسب مع سياق المجتمع المعاصر، ونشرها عبر مختلف الوسائل. • العمل في "الفجوات": يجب استغلال الفرص المتاحة في هامش المجتمع المدني، مثل الفعاليات الثقافية والمؤسسات التعليمية، لنشر الأفكار البديلة. • "النمل الأبيض": التأثير التدريجي على المجتمع من خلال العمل الدؤوب ونشر الأفكار بشكل هادئ ومستمر. • مواجهة مثقفي الطبقة الحاكمة: مناقشة ومواجهة أفكار مثقفي الطبقة الحاكمة، وتعريضها للنقد. • اختراق وسائل الإعلام واحتلال الفضاء الفكري: السعي للوصول إلى الجمهور العريض من خلال وسائل الإعلام المختلفة، ونشر الأفكار البديلة. • غزو اللغة اليومية: استخدام لغة بسيطة ومباشرة للتواصل مع الناس، ونشر المصطلحات الجديدة المرتبطة بالقضايا الطبقية. • فرض الموضوعات والمفاهيم في الخطاب العام: المساهمة في النقاشات الأكاديمية والمجتمعية، والترويج للمواقف والأفكار التقدمية.
ومن التحديات التي تواجه تطبيق هذا البرنامج أنه يتطلب موارد مادية وفكرية قد تفتقر إليها الطبقة العاملة. ومن المهم هنا التأكيد على ضرورة التنوع والشمولية في النضال الثقافي. ويجب على اليسار أن يبني تحالفات مع مختلف الفئات الاجتماعية المهمشة والمضطهدة إذ إن النضال الثقافي عملية طويلة الأمد تتطلب الصبر والمثابرة. وتبرز هنا عند تحليل مفاهيم غرامشي حول الطليعة والنضال الثقافي في سياق الأنظمة الرأسمالية البرلمانية تساؤلات هامة حول جدوى هذه الأفكار في عصرنا الحالي. كما نواجه إشكالية "البيضة والدجاجة" التي تواجهها الثورات في ظلّ الأنظمة البرلمانية. فمن ناحية، تُشير أفكار غرامشي إلى ضرورة قيادة طليعية ثورية للطبقة العاملة نحو السيطرة على السلطة، بينما تُظهر تجارب التاريخ صعوبة تحقيق ذلك من خلال الانتخابات البرلمانية، التي غالباً ما تُسخّر لصالح الطبقة الحاكمة في ظل هيمنة الرأسمالية على المؤسسات الثقافية والإعلامية، ممّا يُعيق جهود الطليعة في نشر أفكارها وكسب التأييد الشعبي. ويجب الإقرار بنقطة مهمة، وهي صعوبة تفكيك "الدولة الرأسمالية" من الداخل، حتى في حالات فوز اليسار بالانتخابات حيث تُظهر تجارب مثل اليونان وإسبانيا كيف أنّ الضغوطات المؤسسية والآليات الرأسمالية تُجبر الحكومات اليسارية على اتباع سياسات تُخالف مبادئها الأصلية. فبينما يتمتع اليمين المتطرف بقدرة أكبر على التكيف مع الأنظمة البرلمانية، ومن هنا تبرز تساؤلات حول جدوى استراتيجية الثورة البرلمانية في ظلّ هيمنة الرأسمالية على المؤسسات.
تطرح هذه التساؤلات بدائل أخرى للنضال الثوري، مثل الثورات الشعبية إذ قد تلجأ بعض الحركات اليسارية إلى ثورات شعبية تُواجه فيها الدولة مباشرةً أو العمل خارج النظام إذ قد تُركز بعض الحركات على العمل خارج النظام الرسمي، لبناء هياكل موازية تُمثل مصالح الطبقة العاملة أو التنوع في الاستراتيجيات حيث تتبنى بعض الحركات نهجًا مزدوجًا، يجمع بين العمل داخل النظام وخارجه.
إنّ النقاش حول هذه الأفكار ضروريٌّ لتطوير استراتيجيات ثورية فعّالة في عصرنا الحالي. ويجب على اليسار أن يُقيّم نقاط قوّته وضعفه بعناية، ويُحدّد أفضل السبل لتحقيق أهدافه. و من التحديات الكبيرة هي أنه لا توجد إجابة سهلة على معضلة الطليعة، لكنّ تحليل مختلف وجهات النظر يُساعدنا على المضيّ قدمًا.
مفارقة غرامشي: استيلاء اليمين المتطرف على أفكاره تُعدّ ظاهرة تبنّي اليمين المتطرف لأفكار غرامشي، المناضل اليساري ضد الفاشية، مفارقةً مدهشة. فبينما تُشير أفكاره إلى ضرورة سيطرة الطبقة العاملة على السلطة من خلال النضال الثقافي، نجد أنّ اليمين المتطرف يستخدمها اليوم لكسب التأييد الشعبي والوصول إلى الحكم إذ يُعدّ تصريح ساركوزي عام 2007 مثالاً صارخاً على هذه الظاهرة. فاعترافه باعتماده على تحليل غرامشي يُظهر بوضوح أنّ اليمين المتطرف يُدرك أهمية الأفكار في كسب المعركة الانتخابية.
ولا يقتصر الأمر على ساركوزي، بل سبقه تيار "اليمين الجديد" في تبني أفكار غرامشي وتطويرها بما يتناسب مع أيديولوجيته. ففي السبعينيات، برز مفهوم "الغرامشية اليمينية" على يد آلان دي بينوا، الذي دعا إلى استخدام الصراع الثقافي للسيطرة على السلطة. وقد ركّز "اليمين الجديد" على استراتيجية "ما وراء السياسة"، التي تقضي باختراق المؤسسات الثقافية ونشر أفكارهم من خلال المنشورات والفعاليات. وهدفهم من ذلك هو "تفجير أسس الأفكار التقدمية" والاستيلاء على "السلطة الإيديولوجية". ويُمكن القول إنّ اليمين المتطرف قد نجح في تبني بعض جوانب أفكار غرامشي بفعالية. فكما ركز غرامشي على أهمية الثقافة في الصراع الطبقي، يُدرك اليمين المتطرف ضرورة التأثير على الرأي العام من خلال الأفكار والقيم. ومع ذلك، تختلف أهداف اليمين المتطرف عن أهداف غرامشي بشكل جذري. فبينما سعى غرامشي إلى تحرير الطبقة العاملة من قيود الرأسمالية، يسعى اليمين المتطرف إلى تعزيز قوّته ونشر أفكاره المتطرفة. وتُظهر ظاهرة تبنّي اليمين المتطرف لأفكار غرامشي تعقيد الصراع الأيديولوجي في عصرنا الحالي.
إنّ فهم أفكار غرامشي وتحليلها بشكل نقديّ ضروريٌّ لمواجهة خطاب اليمين المتطرف. ويجب على اليسار أن يُطور استراتيجياته الخاصة للصراع الثقافي، وأن يُركّز على نشر أفكاره وقيمه بطرق فعّالة إذ إنّ المعركة على الأفكار هي معركةٌ مستمرةٌ، ولا يمكن حسمها بشكلٍ نهائيّ.
والجدير بالملاحظة هنا، إن ماريون ماريشال وإيريك زمور يروجان لفكرة الهيمنة الثقافية، وهي استراتيجية تهدف إلى التأثير على الرأي العام والسيطرة على وسائل الإعلام والتعليم . فتؤكد ماريشال على أهمية المعركة الثقافية قبل المعركة الانتخابية، مشيرة إلى ضرورة إنشاء مدارس وصحف ومراكز تدريب لنشر أفكارهم. تستند هذه الاستراتيجية إلى أفكار أنطونيو غرامشي، الذي اعتقد أن السيطرة على الثقافة هي خطوة أساسية لتحقيق الهيمنة السياسية. ماريشال وزمور يريان أن أفكار اليسار قد تغلغلت في المجتمع، ويعتقدون أن الوقت قد حان لمواجهة هذه الأفكار والانتصار في معركة الرأي العام. نعم، ماريون ماريشال وإيريك زمور يروجان لفكرة الهيمنة الثقافية، وهي استراتيجية تهدف إلى التأثير على الرأي العام والسيطرة على وسائل الإعلام والتعليم. ماريشال تؤكد على أهمية المعركة الثقافية قبل المعركة الانتخابية، مشيرة إلى ضرورة إنشاء مدارس وصحف ومراكز تدريب لنشر أفكارهم. تستند هذه الاستراتيجية إلى أفكار أنطونيو غرامشي، الذي اعتقد أن السيطرة على الثقافة هي خطوة أساسية لتحقيق الهيمنة السياسية. ماريشال وزمور يرون أن أفكار اليسار قد تغلغلت في المجتمع، ويعتقدون أن الوقت قد حان لمواجهة هذه الأفكار والانتصار في معركة الرأي العام. لقد كانت أحداث مايو 1968 في فرنسا فترة من الثورة المدنية التي بدأت في مايو واستمرت حوالي سبعة أسابيع. بدأت الاحتجاجات بإضرابات طلابية ضد الرأسمالية والنزعة الاستهلاكية والإمبريالية الأمريكية، وتطورت لتشمل إضرابات عامة واعتصامات في الجامعات والمصانع. في ذروة الأحداث، توقفت حركة الاقتصاد الفرنسي تقريبًا، ووصلت الاحتجاجات إلى درجة أثارت خوف القادة السياسيين من حرب أهلية أو ثورة. فرّ الرئيس شارل ديغول سراً من فرنسا إلى ألمانيا لفترة قصيرة. أدت هذه الحركة الاحتجاجية إلى تغييرات كبيرة في المجتمع الفرنسي، حيث تُعتبر نقطة تحول ثقافية واجتماعية وأخلاقية في تاريخ البلد. على الرغم من أن العنف تلاشى بسرعة، إلا أن تأثير هذه الأحداث استمر لفترة طويلة. وقد كان للثقافة والفن دور كبير في حركة مايو 1968 في فرنسا. كانت هذه الفترة مليئة بالإبداع الفني والثقافي، حيث استخدم الفنانون والمثقفون وسائلهم للتعبير عن الاحتجاجات والمطالب الاجتماعية والسياسية. لقد شهدت الحركة إنتاج العديد من الملصقات والرسومات الجدارية التي أصبحت رموزًا للحركة. كانت هذه الأعمال الفنية تعبر عن روح التمرد والتغيير، وكانت تُستخدم لنقل الرسائل السياسية والاجتماعية بشكل مباشر وجذاب. كما لعب الأدب والمسرح دورًا مهمًا أيضًا، حيث تم تنظيم العديد من العروض المسرحية والقراءات الأدبية التي تناولت قضايا الحرية والعدالة الاجتماعية. كان هناك تفاعل كبير بين الفنانين والجمهور، مما ساهم في تعزيز الوعي السياسي والاجتماعي¹². وكانت الموسيقى جزءًا لا يتجزأ من الحركة، حيث استخدم الموسيقيون أغانيهم للتعبير عن الاحتجاجات والمطالب. كانت الأغاني تعبر عن روح التمرد والتغيير، وكانت تُستخدم كوسيلة لتحفيز الجماهير ونقل الرسائل السياسية¹². بشكل عام، كانت الثقافة والفن جزءًا أساسيًا من حركة مايو 1968، وساهمت بشكل كبير في نشر الأفكار والمطالب وتعزيز الوعي السياسي والاجتماعي.
#حميد_كشكولي (هاشتاغ)
Hamid_Kashkoli#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكلمة سلاح ذو حدّين: بناءً وتدميرًا
-
حديقة ليلى
-
النقابات العمالية في ظل الديكتاتورية الاقتصادية
-
الكتاب الذي خدع العالم: مراجعة نقدية لرواية -أرخبيل غولاج- ل
...
-
الناخبون البريطانيون عاقبوا حزب المحافظين
-
فرانز كافكا نبيّ العصر البرجوازي
-
اليمين المتطرف آخذا الزمام
-
العائلة في ظل الاشتراكية
-
فلسفة أنطون تشيخوف حول الجنس والنساء والأدب
-
صراع القيم في رواية تشيخوف -عنبر رقم 6-
-
عن أدب تشيخوف المتميز خلال قصته -الوحشة-
-
أوهام الإصلاحات في ظل ولاية الفقيه المطلقة
-
أبو العلاء المعري: رهين المحبسين وفلسفته حول الزواج
-
قراءة في مذكرات سفيتلانا، ابنة ستالين- الجزء 3
-
فوائد الهجرة
-
بحر الأرواح
-
فيكتور هوجو: نجمٌ ساطعٌ لم يخفت بريقه
-
حوار المؤلف والقارئ والنص في الأدب
-
قراءة في مذكرات ابنة ستالين- الجزء 2
-
قراءة في مذكرات سفيتلانا ستالين- الجزء 1
المزيد.....
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
-
شولتس أم بيستوريوس ـ من سيكون مرشح -الاشتراكي- للمستشارية؟
-
الأكراد يواصلون التظاهر في ألمانيا للمطالبة بالإفراج عن أوجل
...
-
العدد 580 من جريدة النهج الديمقراطي
-
الجبهة المغربية ضد قانوني الإضراب والتقاعد تُعلِن استعدادها
...
-
روسيا تعيد دفن رفات أكثر من 700 ضحية قتلوا في معسكر اعتقال ن
...
-
بيان المكتب السياسي لحزب النهج الديمقراطي العمالي
-
بلاغ صحفي حول الاجتماع الدوري للمكتب السياسي لحزب التقدم وال
...
-
لحظة القبض على مواطن ألماني متورط بتفجير محطة غاز في كالينين
...
-
الأمن الروسي يعتقل مواطنا ألمانيا قام بتفجير محطة لتوزيع الغ
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|