كتب
- العراق وعبد الناصر
- مناقشات نقدية في مذكرات امين هويدي
من أجل الكشف عن حقائق تاريخية جديدة –
أ. د. سيار الجميل ( مؤرخ عراقي وخبير دولي)
الحلقة 11
- الحلقة الاخيرة من الرهانات والمحاولة الناصرية الفاشلة
- مصر قطعت علي العراقيين أي مشروع للحكم المدني إثرَ مصرع عارف
- لابد من ادانة اولئك الذين أخطأوا بحق تاريخ العراق المعاصر
تساؤلات تبحث عن اجابات
ماذا يمكنني ان اعّلق أكثر مما علقّت، وماذا يمكنني ان اقول أكثر مما قلت.. ماذا نسّمي اذن كل هذه الصورة التي رسمت مصر عبد الناصر من خلالها مستقبل العراق حتي تلك اللحظة التاريخية المريرة؟ انصدّق ان كل ذلك يجري تحت ما اشيع وما زال يشاع، تحت مظلة القومية العربية؟ اتسمح القومية العربية بهكذا تدخلات سافرة؟ وبقي الامر مستمرا، وبقيت اللعبة قائمة.. وسوف لن تهدأ ابدا، فستبقي مصر تعمل من اجل ان يكون العراق (منسجما) ــ كما وصفوه ــ ولا اقول (تابعا) ــ كما اتهموه ــ مع سياسة مصر، وبقيت مصر تحلم بمجيء الناصريين فقط الي حكم العراق، ولكن ذلك لم يتحقق ابدا، اذ نجحت رهانات اخري ومن نوع آخر كانت لها اصحابها ومخططاتها ونزعاتها وعملياتها.. وعليه فلقد ذهب العراق في طريق آخر العام 1968 الي ايدي البعثيين فاسقط بيد عبد الناصر، وبدأ صراع سياسي واعلامي شديد الصيغة واللهجة بين مصر والعراق لم ينته الا بوفاة عبد الناصر العام 1970.
لعبة جديدة
ولابد لنا ان نسأل اذن نحن ابناء العراق من المختصين والمؤرخين بشكل خاص: ماذا كان عبد الناصر يتطلع من وراء لعبته الجديدة؟ انها رهان سياسي جديد علي العراق! وماذا كان يرمي من وراء محاولته تنصيب عبد الرحمن عارف رئيسا؟ واذا كان الرجل مثار سخرية عبد المجيد فريد وامين هويدي منذ اللحظة الاولي، وان مصر تدرك اذن حجم العراق وثقله وتعقيداته كالتي وصفه هويدي في مذكراته، وتدرك مصر بالوقت نفسه من يكون عبد الرحمن عارف! فهل يا تري ان مصر عبد الناصر ادركت بأن الرجل يصلح لأن يقود العراق؟ ام انها كانت تخطط لمرحلة انتقالية تضعف فيها الدولة بشكل أكبر يؤهلها لأن يتسلم الناصريون حكم العراق ويتحقق حلم عبد الناصر!! وصدق عبد الرحمن البزاز في تبريكاته الوفد المصري عند وداعه انهم جاءوا ليوطدوا الحكم العسكري اثناء حدوث الفراغ السياسي اثر مصرع الرئيس العراقي عبد السلام عارف.. واذا كان هناك من يقول: واين كان العراقيون من هذا كله؟ اين كان المجلس الذي ضم العديد من العسكريين العراقيين رفقة عبد الرحمن البزاز باعتبارها اعلي هيئة تشريعية في البلاد؟ ولماذا وافق العراقيون علي كل الاملاءات المصرية التي فرضها عبد الحكيم عامر عليهم؟
أقول: ثمة أسباب كانت وراء ذلك كله، منها: الصدمة المفاجئة التي ألمت بجميع العراقيين الذين فقدوا رئيسهم فجأة من دون اية توقعات، كما ان نظام الحكم لم يستقر ابدا مع غياب المؤسسات الدستورية وغياب الدستور الدائم لحكم البلاد في ظل حكم عسكري انفرادي.. وسواء كان العراقيون مع عبد السلام ام انهم كانوا ضده، فان اسم الرجل كان قد اقترن بيوم خلاصهم من الملكية الهاشمية التي وصفوا عهدها باشنع الصفات! فهو ثاني اثنين قاما بالثورة علي العهد القديم، وهو اول من دخل بغداد علي رأس اللواء التاسع عشر واللواء العشرين وهو اول من اذاع البيان رقم (1) وهو اول من دعا الناس للهجوم علي قصر الرحاب وهو اول من دعا الي ان يستبيح الثوار كل ما انجزه العهد السابق. وهو اول من اطلق علي العهد الملكي تسمية (العهد المباد) مستعيرا هذه العبارة من عبد الناصر وصوت العرب.. وهو أول من وضعه القوميون في العراق علي رأسهم بمختلف اتجاهاتهم مذ بدأ الخلاف بينه وبين عبد الكريم قاسم.. ولقد اختلف الزعيم قاسم عن الرئيس عارف في واحدة من اهم قضايا العراق السياسية ، فالزعيم قاسم لم يقبل على نفسه ابدا ان يجعلها العوبة بايدي الاخوة المصريين امثال الاخ امين هويدي والذين يحركهم الرئيس جمال عبد الناصر ، في حين غدا عبد السلام عارف منذ الايام الاولى للثورة العوبة بايدي الناصريين ومن ثم البعثيين والحركيين .. حتى احس على نفسه بعد محاولة عارف عبد الرزاق الانقلابية عليه .. اذ يقول أحد الذين عرفوه في ايامه الاخيرة انه كان قد تعّلم عن تجاربه العاطفية مع كل الفئات القومية .. واذا كان قاسما عراقيا قحا في هويته وانتمائه وكان فوق كل الميول الدينية والطائفية والمحلية التي يحتاجها العراق ، فان عبد السلام عارف لم يكن كذلك ابدا ، اذ اضاع نفسه بين عواطفه وميوله والقومية خصوصا ، وكان ضحيتها ! ويبدو لي كمؤرخ عراقي متواضع – وربما كنت مخطئا – بأن عبد الكريم كان قد تعلم كل ذلك عن مدرسة نوري السعيد ، فقد كان من مدرسته العراقية الصرفة ، في حين كان عبد السلام قد خلط الدين بالسياسة بالقومية بالوطنية بالمذهبية وكان جمال عبد الناصر مثله الاعلى حتى محاولة عارف عبد الرزاق الانقلابية ، لينقلب على كل ما آمن به ولكن بعد فوات الاوان !! المهم تاريخيا ، ان الاثنين عبد الكريم وعبد السلام كانا من ضحايا سوء العلاقات العربية العراقية التي ادارها الرئيس جمال عبد الناصر بكفاءة عالية .. فهل يمكن للعراقيين ان يتعلموا من هذا الدرس في ايامنا هذه الاشياء والمعاني الكثيرة .. فالعراق يمر اليوم بمخاض تاريخي يشابه الى حد كبير المخاض الذي عاشه اثر ثورة 14 تموز / يوليو 1958 التي نحرها سوء التوجهات العربية اعلاميا وسياسيا !
وماذا ايضا ؟
سبب آخر يمكننا رصده في قبول العراقيين بالاملاءات المصرية عليهم في تلك اللحظة الحرجة انهم كانوا منقسمين علي انفسهم، انقسام بين العسكريين والمدنيين، وانقسام في صفوف العسكريين.. فالعسكريون العراقيون الذين كان العراق بايديهم لم يقبلوا ان يأتي رجل مدني مثل الدكتور عبد الرحمن البزاز كي ينصّب رئيسا للدولة، وسعيد صليبي رجل بغداد المؤتمن من قبل عبد السلام لا يميل ابدا لوزير الدفاع عبد العزيز العقيلي الذي كانت له جماعته القومية واغلبها من المدنيين.. ولقد حدثني الاخ الصديق الدكتور محمد رشيد الفيل استاذ علم الجغرافية وكان واحدا من اعضاء جماعته بأن العقيلي كان رجلا عسكريا مثقفا صلدا وقويا وكانت له سمعته كواحد من اعضاء الضباط الاحرار في الاجتماع الذي عقد لانتخاب الرئيس، ولكن لم يحصل علي الاصوات بفعل تأثير عبد الحكيم عامر اولا واشاعة ان العقيلي ضد القومية العربية واتهم بالشوفينية العراقية علما بأن الاكراد لا يريدونه لأنه صاحب مشروع عسكري قاس ضد توجهاتهم وحركات تمردهم.. وهناك من يضيف سببا أخر يكمن في موصليته التي لم يكن مرغوبا بها في اوساط المجتمعين واغلبهم من غربي العراق! وعليه، فلقد تمت الموافقة علي التصويت لعبد الرحمن عارف والذي فاز بالكعكعة الرئاسية لوحده علي حساب من كان يتمتع بالقدم العسكري والتاريخ السياسي والسمعة العربية والدولية!
عارف عبد الرزاق والانقلاب الثاني
يؤكد اولئك الذين احبطوا المحاولة الانقلابية الاخري لعارف عبد الرزاق علي عهد الرئيس عبد الرحمن عارف بأن مصر قد قطعت علي العراقيين اي مشروع للحكم المدني اثر مصرع عبد السلام عارف واتت بأخيه عبد الرحمن من اجل ان يغدو الوضع ضعيفا جدا يسهل جدا حدوث اي انقلاب يأتي هذه المرة بعارف عبد الرزاق علي رأس الحكم في العراق بطريقة سهلة.. ولدي تفصيلات تاريخية واسرار من المعلومات التي زودني بها بعض الضباط العراقيين القدماء الذين احبطوا الانقلاب الفاشل الاخر لعارف عبد الرزاق ومنهم الاخ العميد المتقاعد صديق اسماعيل الكتبي الذي قبض علي عارف عبد الرزاق في مطار الموصل واعتقله وارسله مع جماعته الي بغداد، ولكنني أؤجل الحديث في التفاصيل عنها الي حين تبرز معلومات اخري عن مصر، وهي تحدد دورها الذي استمر بالتدخل في الشؤون الداخلية العراقية، وساقصر معلوماتي علي ما هو مختصر.
حدثني الاخ صديق اسماعيل الكتبي وكان من خيرة الضباط العراقيين وحوكم امام محكمة المهداوي عقب فشل حركة عبد الوهاب الشواف بالموصل العام 1959 وحكم عليه بالاعدام الذي خفض الي الاشغال الشاقة المؤبدة، وكان أبوه الشيخ اسماعيل الكتبي صديقا حميما للرئيس عبد السلام عارف. قال لي الاخ صديق بأن المحاولة الثانية قد انطلقت في مطار الموصل وحاول عارف عبد الرزاق مع جماعته ان يسيطروا علي المطار بعد وصولهم اليه خلسة من مصر، من اجل ان يقود سربا من الطائرات ويقصف بغداد، ولقد قمنا في اللواء الخامس المتمركز في الموصل بتطويق المطار، وقد استسلم لي عارف عبد الرزاق واقتدته مع جماعته والتفت الي قائلا بأنني لو نجحت في محاولتي اليوم لعلقتك مشنوقا يوم غد في قلب بغداد، ولقد ارسل الانقلابيون الي بغداد بسيارات عسكرية واحتجزوا هناك في غرفة واحدة، وتدخل عبد الناصر بشكل مباشر وسافر وسريع من اجل تسفيرهم الي مصر، فوصلوها واعلن في راديو بغداد عن محاولة انقلابية فاشلة بطلها عارف عبد الرزاق من دون ان يتم التعريف بمن كان وراءها.
وربما يقول قائل: واين دور العراقيين انفسهم؟ اقول، نعم لابد من ادانة اولئك الذين اخطأوا كثيرا بحق تاريخ العراق المعاصر.. وقد قال الدكتور عبد الرحمن البزاز عن هذا الموضوع لواحد من اصدقائه رجال القانون في العراق بأن دور الرئيس جمال عبد الناصر كان كبيرا في احداث العراق، وكانت مصر وراء اقصائي من رئاسة الجمهورية وعن ابعاد العراقيين عن اي حكم دستوري ومدني. وان عبد الناصر كان يعرف البزاز منذ ان عمل سفيرا للعراق في مصر، واكتشف كفاءته في مباحثات الوحدة اذار (مارس) ــ نيسان (ابريل) العام 1963. ولم يذكر امين هويدي كل ذلك، ففي الوقت الذي كان فيه هويدي سفيرا لمصر في العراق، كان البزاز سفيرا للعراق في مصر، فكيف يأتي هذا السفير وهو من ابرز رجال القانون في العراق كي يشكل حكما مدنيا مستقرا في العراق؟
استنتاجات آخر المطاف: هل
من صفحة جديدة من اجل المستقبل؟
لقد اطلعتنا مذكرات الاستاذ امين هويدي في ما يخص العراق علي معلومات غاية في الاهمية، وبرغم انه اكتفي بسرد ما يعرفه، ولكنه ــ كما اعتقد ــ قد أخفي المزيد من المعلومات التاريخية الغاية في السرية عن العراق وحجبها عنّا لأسباب هي معروفة لنا كونها معلومات تخص دور مصر علي عهد جمال عبد الناصر في العراق الجمهوري، وخصوصا تلك المعلومات التي تتعلق باسرار مصرع عبد السلام عارف واخبار تتعلق بالانقلاب الناصري الاول الذي قاده عارف عبد الرزاق ضد عبد السلام عارف.. كما انه اخفي بعض اسماء الشخصيات العراقية التي كانت علي صلة وثيقة به ولم يوضح ابدا علاقة الناصريين العراقيين ابان تلك الفترة بالسفارة المصرية، ودور تلك (السفارة) في السياسة العراقية سواء قبيل محاولة الانقلاب المذكور ام بعيد حدوثه؟ وكم اتمني علي الرجل ان يوضح بكل صراحة، تفصيلات ما كان يراه عبد الناصر في الشخصيات العراقية التي كان يتعامل معها بدءا بعبد السلام عارف وانتهاء باولئك الذين كان يستقبلهم في مكتبه وبيته من العراقيين الذين أحبوه حبا جما لا يقدر بثمن.. ودخلوا من اجل الرئيس جمال عبد الناصر في نضال سياسي وصراع ايديولوجي ضد بقية التيارات السياسية الاخري في العراق بدءا بالشيوعيين وانتهاء بالبعثيين علي امتداد عشر سنوات كاملة.
دور مصر السياسي
كم كنت اتمني ان يسجل الاخ امين هويدي لنا العلل والاسباب لمعظم ادوار مصر السياسية في العراق علي غير ما جاءت ونشرت عليه، فكم يا تري نحن بحاجة الي المزيد من الصراحة والامانة في توضيح ما الذي كان يريده جمال عبد الناصر من العراق بالذات بعد ان اطلعنا بما فيه الكفاية علي الاحداث والادوار وخفايا تلك التدخلات السياسية السافرة. انني عندما احلل بعض الكتابات والتحليلات والمذكرات التي يكتبها بعض الساسة والمحللين والمؤرخين، فليس هناك عندي الا التوصّل الي المزيد من الحقائق بعيدا عن اي تكريس لتوجهات سياسية او ايديولوجية.. وعندما نتكلم عن احداث وادوار وشخوص ووقائع.. فلابد ان نستفيد من تجارب عاشت وانتهت من اجل ان نستفيد منها. وبرغم كل ملاحظاتي النقدية وتعليقاتي فاننا نشيد بمذكرات امين هويدي كثيرا وعلي عواطفه ازاء العراق الذي احبه فعلا من اعماقه واحب اهله وارضه، اذ لابد ان نذكر ذلك ونشيد به فالرجل يرعي المعروف وله ذكرياته الخصبة في كل مكان من العراق وهناك حتي الان من يزجيه التحيات من بغداد لأنه يذكر ايامه معه التي لا تنسي ابدا.. متمنين عليه ان يكون متسعا صدره لما كان قد قرأه من تعليقات وملاحظات ونقدات من حقنا ان نكتبها وننشرها بحثا عن حقائق التاريخ مع تمنياتنا له بالصحة والتوفيق. (وملاحظة أخيرة أود تسجيلها للقاريء الكريم، ذلك انني استخدمت في كتابة هذا النقد التاريخي العديد من الوثائق التاريخية المهمة والنادرة ستكون مرفقة لاحقا بالموضوع عندما يجد طريقه قريبا للنشر في كتاب بحول الله). ودعوني في الحلقات القادمة اعالج ردود الفعل وتشريح بعض الروايات التاريخية في الرد على امين هويدي ..