|
العقيدة البوذية في نشوئها وفلسفتها
عضيد جواد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 8037 - 2024 / 7 / 13 - 16:21
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
البوذية هي ديانة غير سماوية (لا يوجد إيمان بإله خالق ) ، وتعتبر أيضاً فلسفة ونظاماً أخلاقياً. نشأت وانتشرت في مناطق الهند الحديثة وخارجها خلال القرنين السادس والخامس قبل الميلاد. وكان مؤسسها الحكيم سيدهارثا گوتاما (عام 563 - 483 قبل الميلاد) الذي وحسب الأسطورة كان أميراً هندوسياً . قبل أن يتخلى عن منصبه وثروته ليصبح ناسكاً روحياً، عاش سيدهارثا اقطاعياً متنعماً مع زوجته وعائلته، ولكن بمجرّد ما أن عرف حجم معاناة الناس ، شعر بأن عليه إيجاد طريقة ما لتخفيفها عنهم . لذا فقد اتبع قواعد سلوك روحية صارمة متحولاً إلى كائن مُستنير يعلّم الآخرين الوسائل التي يمكنهم من خلالها الإفلات من السامسارا ( عجلة المعاناة والولادة والموت ) .
طوّر بوذا نظام المعتقدات في وقت كانت فيه الهند القديمة بخضم إصلاح ديني وفلسفي كبيرين . وكانت البوذية في البداية مجرّد واحدة من المدارس الفكرية العديدة التي تطورت استجابة لما كان يُنظر إليه على أنه فشل العقيدة الهندوسية المتشددة في تلبية مطالب واحتياجات الناس . واستمرّت كمدرسة ثانوية نسبياً حتى عهد الملك أشوكا الكبير (عام 268-232 قبل الميلاد) من الإمبراطورية الموريانية (عام 322-185 قبل الميلاد) الذي اعتنق هذه العقيدة ونشرها ليس فقط في جميع أنحاء الهند؛ بل شملت أيضاً وسط وجنوب شرق آسيا.
يمكن تلخيص الفكرة الرئيسية للبوذية في أربع قواعد من "الداهماپادا" التي هي أحد أكثر النصوص قداسة : ــ "حياتنا تُخلق من خلال عقولنا. نلاقي بما نفكر به. المعاناة تتبع الفكرة الشريرة كما تتبع عجلات العربة الثيران التي تجرّها." ــ "حياتنا تُخلق من خلال عقولنا. نلاقي بما نفكر به. السعادة تتبع فكرة نقية كالظل الذي لا ينزاح أبداً ." ــ "من الرغبة يأتي الحزن، ومن الرغبة يأتي الخوف؛ مَنْ تحرر من الرغبة لا يعرف الحزن ولا الخوف." ــ "التعلّق بالأشياء المرغوبة يجلب الحزن ، والتعلق بالأشياء المرغوبة يجلب الخوف؛ الشخص المتحرر من التعلّق لا يعرف الحزن ولا الخوف." (ص.212-213 ـ ج16) لقد فهم بوذا أن الرغبة والتعلق يسببان المصاعب في الحياة ، وأن البشر يقاسون لأنهم كانوا يجهلون الطبيعة الحقيقية للوجود. وقد أصّر الناس على حالات ثابتة في الحياة وقاوموا التغيير، وتشبثوا بما عرفوه، وحزنوا على ما فقدوه . وفي بحثه عن وسيلة للعيش دون معاناة؛ أدرك بوذا أن الحياة هي في تغيير مستمر ولا شيء يدوم، ولكن يمكن للمرء أن يجد السلام مع نفسه من خلال الالتزام الروحي الذي يعترف بالجمال في انتقالة الحياة ، ويمنعه أيضاً من الوقوع في فخ التعلّق . كما تركزت تعاليم بوذا على الأشياء والأشخاص والمواقف غير الدائمة، وتطبيق مجموعة الحقائق الأربع النبيلة ، بالإضافة إلى مفهومي "بهاڤاچاكرا ـ أو عجلة الحياة"، ومجموعة "المسار الثماني النبيل" لتشكيل أساس الفكر البوذي . وقد استمر اتباع هذه النهج لدى المدارس البوذية المختلفة إلى الآن .
الخلفية التاريخية كانت الهندوسية ( ساناتان دهارما ـ بمعنى "النظام الأبدي") هي الديانة السائدة في منطقة الهند الحديثة خلال القرنين السادس والخامس قبل الميلاد عندما اجتاحت البلاد موجة من الإصلاح الديني والفلسفي . ويرى البرفيسور جون .م . كولر كيف أن ؛"التحول الاجتماعي الكبير من الحياة الزراعية إلى التجارة والتصنيع الحضريين كان جارياً، مما أدى إلى التشكيك في القيم والأفكار والمعتقدات القديمة" ( ص46). وكانت الهندوسية قد ارتكزت في عقيدتها على تبنيّها للكتب المقدسة المعروفة باسم "الڤيدا" ، والتي يُعتقد أنها انبثاقات أبدية من الكون "سمعها" الحكماء في زمن معين من الماضي دون تدخّل البشر في خَلقِها. تم "إسماع" الڤيدا بتلاوتها من قبل الكهنة الهندوس باللغة السنسكريتية ، وهي لغة لم يفهمها الناس!. وبدأ العديد من المفكرين الفلاسفة حينئذ في التشكيك بهذه الممارسة وصحة أساس المعتقد . كما يُذكر إن العديد من المدارس الفلسفية المختلفة قد تطورت في ذلك الوقت (معظمها قد اندثر)، والتي انقسمت بين مؤيد ومعارض للڤيدا. وإن أولئك الذين أيّدوا وجهة النظر الهندوسية المتشددة والممارسات القائمة كانوا يعرفون باسم ؛"آستيكا" (هناك وجود) ، أما الذين عارضوها فكانوا يعرفون باسم "ناستيكا" (لا وجود). والمدارس الفكرية الثلاث من الـ ناستيكا التي بقيت مستمرة من تلك الفترة ؛ الچارڤكا ، اليانية (الجاينية) ، البوذية. اعتبرت الهندوسية أن الكون يحكمه كائن أسمى يُعرف باسم "براهمان"، وهو الكون نفسه. وهذا الكائن هو الذي نقل الڤيدا إلى البشرية. وكان الغرض من حياة الإنسان هو العيش وفقاً للنظام الإلهي من خلال الـ "دارما" (الواجب) ، والـ "كارما" (السلوك) ؛ وذلك من أجل العثور في نهاية المطاف على سبل التحرر من حلقة الانبعاث والتلاشي ( السامسارا ). وعند هذا المنعطف ستحقق روح الشخص الاتحاد مع الروح العليا ( أتمان ـ وتعني الذات ) لخوض تجربة التحرر والسلام المُطلَقَين . رفضت الـ چارڤكا هذا الاعتقاد وعرضت المادية بدلاً من ذلك . وقد زعم مؤسسها "برهاسپتي" (عام600 قبل الميلاد)، أنه من السخافة أن يقبل الناس ادعاء الكهنة الهندوس على أن اللغة الغير مفهومة هي لغة الإله !. فهو قد أوجد مدرسة فكرية أساسها الفهم المباشر في إثبات الحقيقة ، والسعي وراء الملّذات باعتبارها الهدف الأسمى في الحياة . أمّا "ماهاڤيرا" (المعروف أيضاً باسم ـ ڤاردهامانا ،عام 599-527 قبل الميلاد) ؛ فقد بشّر بالـ يانية (الجاينية) التي أساسها الاعتقاد في أن ضبط السلوك والالتزام الصارم بالقواعد الأخلاقية يؤدي إلى حياة أمثل ، وبالتالي التحرر من السامسارا عند الموت. بيد أن بوذا قد أدرك في أن كلا المسارين يمثلان النقيضين ، وأسس ما أسماه بـ "الطريق الوسط" بينهما .
سيدهارثا گوتاما حسب الأعراف البوذية، ولد سيدهارثا گوتاما في لومبيني (النيپال حالياً) فقد نشأ وهو ابن ملك. وبعد أن تنبأ أحد العرّافين بأنه إما أن يصبح ملكاً عظيماً، أو زعيماً روحياً إذا شهد العوز أو الموت . كان والده معصوماً من حقائق الوجود القاسية. وقد تم تحضير ولده سيدهارثا ليخلفه كملك. وذات يوم ، أخرجه الحوذي ( سائق عربته) من القصر الذي قضى فيه أول 29 عاماً من حياته . وعند رحلته الأولى تعرّف سيدهارثا ما يُطلق عليه بالمشاهد الأربعة : (رجل عجوز) ؛ (رجل مريض) ؛ (رجل ميّت) ؛ (ناسك).. مع الثلاثة الإوَلْ؛ سأل سيدهارثا الحوذي : "هل أنا أيضاً سأكون هكذا؟"، أجابه الحوذي : "من المؤكد أن الجميع يتقدمون في السن، والجميع يمرضون في يوم أو بآخر، ومن ثمّ يموت الجميع حتماً! " . انزعج سيدهارثا عندما أدرك أن كل من يحبه سوف يفقده، وكل الأشياء الجميلة سوف يفتقدها، وأنه هو نفسه سوف يُفقد يوماً ما. غير أنه عندما رأى ناسكاً حليق الرأس يرتدي ثوباً لونه أصفر ومبتسماً على قارعة الطريق؛ سأله "لماذا هذا الشخص ليس كسائر الرجال؟" أجابه الحوذي : "هذا الناسك يعيش حياة مسالمة مليئة بالتأمل والرحمة والموّدة وعدم التعلّق بالرغبات". وبعد زمن قصير من هذا اللقاء، تخلّى سيدهارثا عن ثروته ومنصبه وعائلته ؛ ليتبع حياة الزُهد .
في البداية، لجأ إلى معلم مشهور تعلّم منه طرق التأمل، لكنها لم تحرره من القلق والخوف. ومن ثم عند معلم ثان علّمه كيفية كبت رغباته وكبح فضوله ، لكن هذا لم يكن حلاًّ أيضاً ؛ لأنه لم يكن في حالة وعي مستقر. كما حاول أن يعيش مثل النسّاك الآخرين، مُتبعاً ما يُرجّح عقيدة الـ يانية في ضبط السلوك الصارم، لكن حتى هذا لم يكن كافياً بالنسبة له. أخيراً؛ قرر رفض احتياجات جسده عن طريق تجويع نفسه، وتناول حبة أرز واحدة فقط يومياً، حتى أصبح هزيلاً للغاية لدرجة أنه لم يعد من الممكن التعرّف عليه. وحسب إحدى نسخ الرواية عند هذه المرحلة، تفيد بأنه قد ترنّح وهو في النهر تلقّى وحياً عن "الطريق الوسط". وفي نسخة أخرى، تصادفه موزّعة حليب تدعى "سوجاتا" في الغابة القريبة من قريتها تعرض عليه بعض من حليب الأرز؛ فيتقبل ذلك . هكذا تنتهي فترة تقتيره الصارم وأخذ يلمّح إلى فكرة "الطريق الوسط". حيث ذهب وجلس تحت شجرة "بوذي"، على سرير من العشب في قرية "بوذ گايا" القريبة ، عازماً على أنه إما أن يفهم أفضل سُبل الحياة في هذا العالم ؛ أو أنه سيموت ! .
لقد فهم سيدهارثا من خلال ومضة من النور، أن البشر يقاسون لأنهم أصرّوا على البقاء في عالم دائم التغيّر. كما احتفظ الناس بهويتهم التي أطلقوا عليها اسم "أنفسهم" والتي لن تتبدل، واحتفظوا بالملابس والأشياء التي اعتقدوا أنها "مُلكهم"، وحافظوا على علاقات مع الآخرين كانوا يعتقدون في أنها ستستمر إلى الأبد؛ ولكن كل ذلك لم يكن صحيحاً !. إذ كانت طبيعة الحياة هي التغيير، وكان الطريق للهروب من المصاعب هو إدراك هذه الحقيقة والتصرف بناءً عليها. عند هذه اللحظة؛ أصبح بوذا ("المتيقّظ" أو "العارف") والمتحرر من الجهل والوهم . بعد أن وصل سيدهارثا گوتاما إلى المعرفة الكاملة، وفهمه للطبيعة المترابطة والعابرة لكل الأشياء؛ أدرك أنه يستطيع الآن أن يعيش كيفما يشاء دون صعوبات أو عوائق، وبمقدوره أن يفعل ما يريد. إلا أنه قد تردد في إيصال معرفته لما تعلّمه إلى الآخرين؛ لشعوره بأنهم سوف يرفضونه حتماً، لكنه اقتنع أخيراً بأن عليه أن يحاول . وهكذا ألقى بموعظته الأولى عند حديقة الغزلان في سارناث ،التي وصف فيها لأول مرة مجموعة الحقائق الأربع النبيلة ، ومجموعة حقائق المسار الثماني النبيلة؛ واللتين كليهما تخرجان المرء من الوهم والحزن إلى المعرفة والسعادة . تجدر الإشارة إلى أن قصة رحلة بوذا من الوهم إلى الوعي تم نسجها لاحقاً خصيصاً له ، وذلك بعد ترسيخ نظام الدين . ولا يُعرف فيما إذا كانت تلك القصة قد عكست حقيقة حياة بوذا المبكرة وصحوته أم لا!. يرى كلاً من البروفيسور روبرت إيڤانز بوسويل ، والبروفيسور دونالد سيويل لوپيز ؛أن البوذيين الأوائل "كانوا مدفوعين جزئياً بالحاجة إلى إثبات أن ما علمّهم بوذا به لم يكن ابتكاراً من شخص ؛ بل هو إعادة اكتشاف حقيقة خالدة، وذلك من أجل منح نظام المعتقد نفس المطالب بالأصول الإلهية القديمة التي تتمسك بها الهندوسية واليانية " (ص149). ويواصل بوسويل و لوپيز: "وهكذا، في سيرتهم الذاتية، تم تصوير جميع بوذيّي الماضي والمستقبل على أنهم يفعلون العديد من الأشياء نفسها. جميعهم يجلسون متربعين في بطون أمهاتهم . وجميعهم قد ولدوا في بلد يتوسط القارة. وبعد ولادتهم مباشرة، اتخذوا جميعاً سبع خطوات نحو الشمال؛ وجميعهم ينبذون الدنيا بعد رؤية المشاهد الأربعة . وبعد ولادة الابن؛ كلهم يحققون المعرفة وهم جالسون على سرير من العشب." (ص149) رغم ذلك، فقد أصبحت أسطورة رحلة سيدهارثا ويقظته الروحية معروفة جيداً في الأوساط الشعبية التي تناقلتها شفهياً ، وقد أُشير إليها أو ربما ضُمنّت في الأعمال المدوّنة ، وذلك بعد حوالي مائة عام من وفاته . واستمرت كذلك حتى مطلع القرن الثالث الميلادي عندما ظهرت الأسطورة بشكل متكامل في كتاب "لاليتاڤيستارا سوترا"، وتم تداولها منذ ذلك الحين . ونظراً لافتقار البديل ، تم قبولها على أنها قصة صحيحة من قبل غالبية البوذيين .
فلسفة المعتقد الديني كما أسلفنا، بدأ سيدهارثا في سعيه لإدراك أنه سيفقد كل ما يحبه، وهذا من شأنه أن يسبب له الألم . ومن هذا المنطلق ؛ لقد فهم أن الحياة كانت صعبة. إذ عانى المرء عند ولادته (كما عانت أمه) ، ثم عانى طوال حياته من رغبة لأشياء لم يكن يمتلكها، والخوف من فقدان ما كان يملكه، والحزن على فقدان ما كان يملكه من قبل، وأخيرا الموت وخسارة كل شيء فقط ؛لإتمام تجسيده في تكرار حلقي . ولكي تكون الحياة شيئاً آخر غير المعاناة والحرمان؛ كان على المرء أن يجد طريقة ليعيشها دون الرغبة في امتلاكها ، والاحتفاظ بها بشكل دائم . وكان على المرء أن يتخلى أيضاً عن متطلبات الحياة بينما يظل قادراً على تثمين القيم التي يمتلكها . وبعد تحقيقه للمعرفة ومن ثم التنوير، صاغ سيدهارثا عقيدته بطبيعة الحياة من خلال حقائقها الأربعة النبيلة: (الحياة معاناة)، (سبب المعاناة هو الرغبة)، (نهاية المعاناة تأتي مع نهاية الرغبة)، (هناك طريق يقود المرء بعيداً عن الرغبة والمعاناة).
تسمية الحقائق الأربع "نبيلة" مُستعارة من "أصل الآريا"، والتي تعني نفس الشيء ، و "تستحق الاحترام" ؛أو بمعنى "تستحق الاهتمام". وإن الطريق المشار إليه في الحقيقة الرابعة هو "المسار الثماني" الذي يكون بمثابة دليل لديمومة حياة الإنسان دون أي نوع من الارتباط الذي يجلب المعاناة . وقواعد المسار الثماني النبيلة هي كالتالي : (رأي صحيح) ، (تصميم صحيح) ، (كلام صحيح) ، (عمل صحيح) ، (طرق عيش صحيحة) ، ( مساع صحيحة) ، (يقظة صحيحة) ، (تركيز صحيح) . وكما يشير البروفيسور كولر، فإن القواعد الثلاثة الأولى تتعلق بالحكمة، والاثنتين التاليتين بالسلوك، والثلاثة الأخيرة تتعلق بالتوازن العقلي . وقد واصل كولر في اشارته : "لا ينبغي النظر إلى قواعد المسار الثماني النبيلة على أنها مجموعة من ثماني خطوات متتالية، مع ضرورة الكمال في الخطوة الأولى قبيل الانتقال إلى الخطوة التالية. بدلًا من ذلك، ينبغي النظر إلى هذه القواعد الثمانية للمسار على أنها معايير إرشادية للحياة الصحيحة التي يجب اتباعها في وقت واحد تقريباً، لأن هدف المسار هو تحقيق حياة متكاملة تماماً على أعلى مستوى… الحكمة هي رؤية الأشياء على أنها واقع حال؛ باعتبارها أفعال مترابطة ومتغيرة باستمرار... السلوك الأخلاقي هو تنقية دوافع الفرد وكلامه وأفعاله، وبالتالي إيقاف تدفق الرغبات الشديدة الإضافية... يعمل التوازن العقلي على تحقيق البصيرة والقضاء على التصرفات والعادات السيئة التي تراكمت بسبب الرغبات والجهل في الماضي ." (ص58)
من خلال التعرف على الحقائق الأربع النبيلة واتباع مبادئ أو قواعد المسار الثماني النبيل، يتحرر المرء من عجلة الصيرورة التي هي مثال رمزي للوجود. وعند محور العجلة يكمن الجهل والرغبة والكراهية التي تدفعه. بين المحور وحافة العجلة هناك ست حالات من الوجود: الإنسان، الحيوان، الأرواح، العفاريت ( الشّر)، الآلهة، وكائنات الجحيم . وعلى مدار حافة العجلة، تم تصوير الظروف التي تسبب الصعاب والمعاناة : الولادة، عقل الجسد ، الوعي، الاحتكاك، الشعور، الظمأ ، الجشع، الإرادة، وما إلى ذلك . من خلال إدراك أن هذه الظروف تسبب المعاناة، يمكن للشخص أن يتجنبها عن طريق تهذيب نفسه بالمسار الثماني؛ بحيث لا يعود مدفوعاً بالجهل والرغبة والكراهية، ويتحرر من عجلة أو حلقة السامسارا التي تربطه بالمعاناة والولادة والموت. ومن خلال الالتزام بهذا السلوك القويم ، يمكن للشخص أن يعيش حياته كما ينبغي ، بيد أنه لا يمكن السيطرة عليه ولا على معاناته عندما يتعلّق بأشياء من تلك الحياة. وعندما يموت الشخص، لا يولد من جديد، ولكنه يحقق تحرير للحالة الروحية الساكنة . هذا هو إذن "الطريق الوسط" الذي وجده بوذا الواقع بين فكرة التعلق العبدي بالسلع المادية والعلاقات الشخصية (الـ چارڤكا) ، وفكرة التقشّف الشديد في كل شيء الذي مارسه الجاينيون في عهده . أطلق على تعاليمه اسم " الدارما" والتي تعني " القانون الكوني " ، على عكس الهندوسية التي تعرّف نفس المصطلح بـ "الواجب". ومع ذلك، يمكن للمرء أن يفسر دارما بوذا على أنها "واجب" لأنه يعتقد أن على المرء واجباً تجاه نفسه لتحمل مسؤولية حياته . وأن كل شخص مسؤول بالتالي عن مدى رغبته في تحمّل المعاناة أو لا، وأن الجميع في الآخر، يمكنهم السيطرة على حياتهم . لقد استبعد بوذا الإيمان بإله خالق باعتباره غير ذي صلة بحياة البشر، واعتبر وجوده مساهماً في زيادة معاناة البشر ، وذلك لأنهم لايعرفون بالضبط مدى قدرته عليهم ؛ الذي قد يعرّضهم إلى الإحباط وخيبات الأمل والألم عندما لا تلبّى طلباتهم أو رغباتهم والتخفيف عن معاناتهم . كما أنه ليس هناك حاجة إلى إله من أجل اتباع المسار الثماني؛ لأن كل ما يحتاجه الفرد هو الالتزام شخصياً بتحمل المسؤولية الكاملة عن أفعاله وعواقبها .
الطوائف والممارسات استمر بوذا في التبشير بالدارما حتى وفاته في سن الثمانين بمدينة كوشيناگار التابعة الى ولاية اوتار پارادش الهندية حاضراً. وقد أخبر تلاميذه أنه بعد وفاته يجب ألا يكون لهم زعيم على رأسهم ، وأنه لا يريد أن يُقدّس بأي شكل من الأشكال . كما طلب دفن رفاته في "ستوپا"(مكان مرتفع على هيئة نصف تل تُترك به جثث المتوفين من الرهبان البوذيين) ونثرها على مفترق الطرق . في الديانة البوذية؛ عند وفاة الشخص تُؤدّى لجنازته مجموعة من الشعائر الدينية. بعدها تُحمل الجثّة إلى قمة التل المخصص للموتى؛ حيث يقوم الكاهن المسؤول بتقطيعها إلى أجزاء وتوزيعها على أماكن محددة من التلّ؛ لتلتهمها الطيور الجارحة وخاصة النسور. ويأخذ نفس الكاهن بجمع ما تبقى من العظام والأشلاء ويقوم بطحنها وعجنها ومن ثمّ خبزها ، ويلقي بالمخبوز إلى الطيور مرة أخرى ، وبهذا يُضمَن أن المتوفى بكامل جسده قد ارتفع إلى السماء. بيد أن كل هذا لم يحصل لجنازة بوذا، حيث كان لأتباعه أفكارهم الخاصة؛ لذلك تم إيداع رفاته في ثمانية من الستوپا (أو عشرة) في مناطق مختلفة تتوافق مع الأحداث المهمة في حياته. كما اختاروا زعيماً لهم يقودهم . وهكذا كما يفعل باقي البشر؛ عقدوا المجالس وأقاموا المناظرات ووضعوا القواعد والأنظمة. في المجلس الأول للكهنة في عام 400 قبل الميلاد، تم تحديد وتدوين التعاليم الأساسية والتهذيب الرهباني . أما في المجلس الثاني عام 383 قبل الميلاد، أدى الخلاف حول المحظورات في التهذيب الرهباني إلى الانقسام الأول في البوذية بين طائفة "ساثڤيراڤادا" (التي دعت إلى مراعاة محظورات الدين والالتزام بها) ، وطائفة "ماهاسانگيكا "(الطائفة العظيمة) التي مثلت الأغلبية التي رفضت تلك المحظورات. وقد أدّى هذا الاختلاف في النهاية إلى تأسيس ثلاث طوائف دينية مختلفة : ـ طائفة الـ ثيراڤادا (مدرسة الحكماء) . ـ طائفة الـ ماهايانا (العربة العظيمة) . طائفة الـ ڤاجرايانا (طريق الماس) .
ترى طائفة ثيراڤادا (التي أُطلق عليها اسم هينايانا ـ بمعنى"العربة الصغيرة" من قبل طائفة الـ ماهايانا، والذي يُعتبر مصطلحاً مسيئاً لها)، أنها تمارس الدين كما علّمه بوذا في الأصل. ويتلقّى تلاميذها تعاليمهم باللغة الپالية ، ويركزّون على أن يتحولوا إلى آرهات (معلمين). وتتميز هذه الطائفة بالاهتمام في التنوير الفردي .
أما طائفة ماهايانا (التي تتضمن أتباع نهج زِنْ الغنوصي) وأفرادها يتبعون تعاليمهم باللغة السنسكريتية ، ويأملون في أن يصبحوا "بوديساتڤا" ( بمعنى ـ جوهر المعرفة )، وهو شخص من الطائفة مثل بوذا، قد وصل إلى درجة التنوير الكامل، لكنه تراجع عن مرحلة السلام والتحرر من أجل مساعدة الآخرين الذين يحاولون التخلّص من جهلهم . وتُعد طائفة الماهايانا هي المهيمنة في الديانة البوذية حالياً. حيث تزعم أنها تتبع تعاليم بوذا بأمانة .
الطائفة الثالثة هي ڤاجرايانا (المعروفة أيضاً باسم الطائفة التبتية) والتي استغنت عن مفهوم الاضطرار إلى الالتزام بالتهذيب الرهباني البوذي، وتغيير نمط حياة الفرد من أجل بدء مسيرة بوذية على المسار الثماني . كما تدافع هذه الطائفة عن الاعتقاد الذي توضحه عبارة " تات تڤام آسي" (بمعنى ـ أنت هو) ؛ في أن كل شخص هو فعلاً بوديساتڤا ، وما عليه إلاّ أن يعي ذلك. وبالتالي لا يحتاج المرء إلى التخلّي عن المتعلّقات الضارّة في بداية مشواره الديني، بل بدلاً من ذلك؛ ما عليه سوى المضي قدماً على طول المسار وستصبح تلك المتعلّقات أقل اغراءً له. كما هو الحال مع الطائفتين الأخرتين؛ تزعم طائفة ڤاجرايانا أيضاً أنها الأكثر إخلاصاً لتعاليم بوذا الأصلية .
تلتزم الطوائف الثلاث بالحقائق الأربع النبيلة والمسار الثماني النبيل ، كما تفعل العديد من الطوائف الثانوية الأخرى، كما لا تعتبر أي منها أكثر شرعية من غيرها ، على الرغم من أن أَتباع كل واحدة منها يختلفون مع بعضهم في نواح عدة .
استمرت البوذية كمدرسة فكرية فلسفية ثانوية في الهند حتى عهد الملك أشوكا العظيم الذي نبذ العنف و اعتنق البوذية بعد حرب كالينگا (حوالي عام 260 قبل الميلاد). وقد نشر الملك أشوكا تعاليم الـ دارما البوذية في جميع أنحاء الهند تحت اسم "دامّا" الذي يعني "الرحمة، والإحسان، والصدق، والنقاء" (كي،ص 95). وقد قام الملك بجمع بقايا بوذا وإعادة نشرها على 84,000 ستوپا في جميع أنحاء البلاد، إلى جانب إقامة مراسيم تشجع العقيدة البوذية. كما أرسل المبشرين إلى بلدان عديدة من بينها ؛سريلانكا ،الصين ، تايلاند ، واليونان ؛ وذلك لنشر رسالة بوذا. أصبحت البوذية أكثر قبولاً في سريلانكا والصين عمّا كانت عليه في الهند ، وانتشرت أكثر من خلال المعابد المُقامة في تلك البلدان . كما بدأ الفنّ البوذي بالظهور في كلا البلدين بين القرنين الثاني والأول قبل الميلاد، بما في ذلك الصور المجسمة لبوذا نفسه.إلا أن الفنانين الأوائل في عهد الملك أشوكا قد امتنعوا عن تصوير بوذا ، واقترحوا وجوده فقط من خلال الرموز، ولكن مع مرور الوقت تضمنت المواقع البوذية تماثيل وصوراً له، وهي ممارسة بدأتها لأول مرة عائلة من طائفة "ماهاسانگيكا". بعد فترة من الزمن ، أصبحت هذه التماثيل موضعاً للتقديس . علماً ان البوذيين لا يعبدون بوذا، ولكن تمثاله يمثله هو شخصياً الذي يُعدّ نقطة محورية لتركيز المتعبد على المسار الثماني في التنوير من خلاله ؛ بل وأيضاً كوسيلة للتعبير عن الامتنان لبوذا. علاوة على ذلك، فإن الشخص الذي يصبح بوذياً (حسب توجّه طائفة الماهايانا، يمكن قبول أي شخص) يصبح نوعاً من "الإله" لأنه تجاوز الحالة الإنسانية ، وبالتالي يستحق تقديراً خاصاً لهذا الإنجاز. في الوقت الحاضر، هناك أكثر من خمسمائة مليون بوذي متديّن في العالم . ولكل واحد منهم لديه طريقة فهم خاصّة عن المسار الثماني النبيل، وذلك لتأكيد الاستمرار في نشر الرسالة التي مفادها أنه ؛ يجب على المرء فقط أن يقاسي في الحياة بقدر ما يريد، ولكن هناك مسار آخر يؤدي إلى السلام والطمأنينة..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فورست بيرد ـ الفلسفة الآسيوية ـ روتليدج للنشر ـ 2005 . إدوين آرثر بيرت ـ تعاليم بوذا الرحيم ـ بيركلي للنشر ـ 2000 . روبرت إيڤانز بوسويل & دونالد سيويل لوپيز ـ قاموس پرنستون عن البوذية ـ طباعة جامعة پرنستون ـ 2013 . پيتر هارڤي ـ مقدمة عن البوذية ـ طباعة جامعة كامبريدج ـ 2012 . كي جون ـ الهند : تاريخ ـ هارپر للنشر ـ 2010 . جون . م . كولر ـ الفلسفات الآسيوية ج5 ـ روتلج للنشر ـ 2018 .
#عضيد_جواد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظام التعليم في بلاد الرافدين القديمة
-
الدفن في بلاد الرافدين القديمة
-
كذبة أفلاطون في الروح
-
الأزياء والملابس في بلاد الرافدين القديمة
-
الفنّ والعمارة في بلاد الرافدين
-
ثورة العمّال اللودّيين
-
مَن هم شعوب البحر ؟؟
-
الأعياد في بلاد الرافدين القديمة
-
الحكومة في بلاد الرافدين القديمة
-
النساء العالمات في ثورة العلوم
-
قصة الوسيم نارسيسوس (نرجس)
-
دعوى استئناف لإمرأة سومرية أمام محكمة في مدينة أوما
-
هيبي إلهة خلود الشباب
-
كيف كانت التجارة في بلاد الرافدين القديمة ؟
-
معاداة السامية في أوروبا المسيحية
-
الزقّورات في بلاد الرافدين
-
الحروب وأدواتها في بلاد الرافدين القديمة
-
الماء والخلق في فلسفة طاليس
-
مملكة إسرائيل في التاريخ القديم
-
كيف كانت حياة الأسرة في بلاد الرافدين ؟
المزيد.....
-
عمال أجانب من مختلف دول العالم شاركوا في إعادة بناء كاتدرائي
...
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي
...
-
أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى
...
-
الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي-
...
-
استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو
...
-
في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف
...
-
ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا
...
-
فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|