|
العراق - شبح التاريخ وزيف المعاصرة
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 1766 - 2006 / 12 / 16 - 10:57
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
للتاريخ مآسيه وأفراحه. وفي كلّه هو الميدان الذي تتكسر فيه الإرادة العقلانية والمجنونة، كما انه المخزون المثير للذاكرة والوعي العقلي. وقد لا يعير أهل السياسة اعتبارا كبيرا للتاريخ، وهو سر المآسي، لكنه يجبرهم في نهاية المطاف إلى الاعتراف به بوصفه درسا لم يتعلموا شيئا منه. وهكذا ستبقى الأمور ما لم يتحول التاريخ إلى جزء جوهري من وعي الذات القومي والاجتماعي. وهي إشكالية كبرى بالنسبة للتاريخ العراقي الحديث والمعاصر. وليس مصادفة أن يبقى ابن خلدون، بوصفه العبقرية التاريخية العالمية، محجورا في "كتاب العبر" رغم كل المحاولات الجزئية لتفعليه في الوعي السياسي العربي الحديث بدأ من (اقرب المسالك) لخير الدين التونسي وانتهاء (بمنمنمات) سعد الله ونوس.، بمعنى انتقاله من مسرح السياسي إلى سياسة المسرح، كما لو انه يستعيد تجارب الماضي بوصفها فشلا متكررا. وهي حالة لا ينبغي أن تصيب المرء بالجزع، لأنها "طبيعية" في ظل الانحطاط. كما أن الانحطاط حالة طبيعية بالنسبة للمجتمع والأمة حالما يبقيان ضمن نزاع الماضي والتحرك بحركات أشباحه! وهي الحالة التي أكثر من يجسدها في العالم العربي – العراق. رغم انه مفتوح على آفاق وإمكانيات لا تحصى. ومن ثم يحتوي في أعماقه على فكرة البدائل والاحتمال. وهي الفضيلة الوحيدة والكبرى التي يمكنها أن تغسل عار الاحتلال والانحطاط وبقايا الصدامية وهمجية التكفيريين والطائفية السياسية! فالعراق المعاصر هو النموذج الذي لا يضاهى في تجسيد وتمثيل الأشباح بشكل عام وأشباح التاريخ بشكل خاص. وليس المقصود بشبح التاريخ هنا سوى اجترار الزمن. وهو اجترار نعثر عليه في صور الخطاب السياسي، بوصفه مرآة تعكس طبيعة البنية الذهنية للأحزاب والحركات الاجتماعية والثقافة السياسية. فعندما نتأمل الخطاب السياسي، فان أكثر ما يبرز فيه مستوى الاتهام المحكوم بصور الماضي. وهي حالة تشير إلى تحول التاريخ إلى شبح، عوضا أن يكون عبرة للحاضر والمستقبل. بمعنى تفريغ التاريخ من معنى التاريخ، والبقاء ضمن حيز الاجترار البهيمي لصوره القديمة باعتباره الأسلوب الوحيد لوجود الأشياء والقيم. وهي حالة عادة ما تؤدي إلى أن تفقد القيم وجودها المستقل لتتحول إلى غبار مرافق لابتذال الأشياء. وهي حالة تحوّل الإنسان والمجتمع والدولة والثقافة إلى مجرد أشياء عابرة وتافهة بحيث يصبح وجودها أو عدمها شيئا واحد. وذلك لان انعدام القيم بوصفها منظومة ضرورية لوجود الإنسان والمجتمع والدولة، يجعل من الفرد مجرد آلة خشنة لتجسيد المحتوى الجزئي في أشباح الماضي. وليست أشباح الماضي في الواقع سوى الصور التي يجري تراكمها بوصفها مكونات العقل الماكر في مواجهته لتاريخ الوجدان المعذب بمعاني الحق والحقيقة والعدالة والمساواة والحرية. وليس مصادفة أن نجد في الخطاب السياسي الطائفي انتشار كلمات "الصفوية" و"الفرس المجوس" و"الغرباء". وقبلها كانت وصفات "أهل الجنوب" و"الشرقاويين" وأمثالها. فهي الصورة التي جرى ابتداعها في مجرى السيطرة الأموية على العراق ومحاولاتها الحثيثة امتهان مكوناته الذاتية بالشكل الذي يجعلها لينة مطيعة للاستبداد والقهر. لاسيما وأنها المكونات التي استثارت منذ البدء حفيظة معاوية بعد موت الإمام علي عندما وجد في كل عراقي لسانا قادرا على قول "لا" و"كلا" و"اعترض" "وأقاتل" السلطة! بحيث نراه يقول "لقد جرأكم ابن أبي طالب على السلطان! فقريبا ما تفطمون!". بعبارة أخرى، لقد كان همّه الأساسي فطم أهل العراق من حق المواجهة الصريحة مع السلطة حالما يكون سلوكها مفارقا للحق والعدالة. وهي الصيغة امتثلتها وجسدتها الصدامية بصورة نموذجية في العصر الحديث. لقد كانت كل محاولاتها المريرة تسعى لاقتلاع التاريخ الذاتي العراقي سواء عبر "قومية" مزيفة أو "صحوة إيمانية" اشد زيفا. لكنها لم تنتج في نهاية المطاف غير ذاتها الدفينة بوصفها أموية لا علاقة لها من حيث الجوهر بتاريخ العراق ووعيه الذاتي. من هنا استعادة الصور القديمة لأشباح التاريخ كما نعثر عليها في خطاب الطائفية السياسية والتكفيريين وأمثالهم. بمعنى إننا نقف أمام صيغة "حديثة" لا حداثة فيها لتقاليد الزبيرية الحجازية والأموية الشامية في الموقف من أهل العراق، ولكن عبر تحوير جديد يقوم في "التلمذة" البليدة على وهابية مفتعلة بوصفها الفكرة النموذجية لتحقيق "المجد في تاريخ نجد"! إن استعادة أشباح التاريخ الغريب على العراق من أموية وزبيرية في ظروف العراق المعاصر لا يمكنها أن تنتج غير أوحال الاغتراب عن حقيقة العراق والغوص فيها. وذلك لما في هذه الأشباح من اثر فعلي على تخريب العقل والضمير. وذلك لان اجترار الأشباح عادة ما يجعل منها كيانات فاعلة في الوعي السياسي. وبالتالي لا يعني اتهام عرب العراق الأصليين بالصفوية والفارسية وأمثالها سوى الصيغة الجديدة لأشباح القوى الغريبة التي حاولت من خلال صورها هذه امتلاك العراق بوصفة "مصرا" لدوابها و"خراجا" لسلطتها!! فعندما نعود إلى تاريخ صناعة الصور النمطية المبتذلة عن الحركات الاجتماعية والروحية والفكرية التي أسست من حيث الجوهر لمنظومات الفكر العربي الإسلامي الإنساني العام، فإننا نقف أمام واقع إنتاجها من جانب القوى الغريبة عن العراق. وعندما نتناول صور الأشباح القديمة وإعادة إنتاجها في مجرى الصراع الاجتماعي والسياسي الحالي في العراق، فإننا نلمح فيها تاريخ الأموية والزبيرية من جهة وتاريخ الحركة المختارية من جهة أخرى، أي تاريخ القوى الحجازية والشامية من جهة، والعراقية من جهة أخرى. وهي الحالة التي نرى صيغتها الفعلية من خلال اختلاف وصراع الحركات التكفيرية الوهابية النجدية والاطرافية من جهة، وحركات العراق ومدنه الأصلية من جهة أخرى. فقد ظهرت حركة المختار الثقفي بوصفها الحركة العراقية العامة والخالصة. وكانت حركته نزوعا صوب تحقيق منظومة من المبادئ هي الأولى من نوعها في تاريخ الحركات السياسية العراقية التي جعلت من المساواة والعدل همّها الأكبر، ومن القضاء على "الأشراف" والدفاع عن "المستضعفين" أسلوبها الأساسي، ومن "الثأر للحسين" شعارها العملي. وهو السبب الذي يفسر التقاء القوى المتحاربة من اجل السلطة آنذاك (الأموية والزبيرية) في عدائها الشامل له. بحيث جعلت مصعب بن الزبير يصف جيش المختار بعبارة - "انهم سحرة كفرة"! وهي الفكرة التي وجدت تعبيرها الفكري اللاحق في محاولات وضعه ضمن فرقة "الكيسانية". واعتبار مؤسسها من "الموالي"، أي ليس من العرب! بعبارة أخرى، إننا نرى في هذه الصورة الإيديولوجية الصرف، التي أنتجتها مخيلة الأموية والزبيرية محاولة محمومة من أجل اقتلاع روح العراق من العراق! كما سعت للمطابقة بين مساعي العراقيين للثأر من المستبدين والمغامرين والمجرمين وبين "الموالي" (الأجانب). وهي مطابقة غريبة، ترى في أفعال الدفاع عن الحق والمساواة والعدالة فعلا ليس عربيا!! هي نفس الصورة التي نراها اليوم في الخطاب الطائفي، الذي يحاول البحث عن "صفوية" و"فارسية" في قوى عراقية لا تخلو من نقائص وكوارث. لكنها تبقى في نهاية المطاف قوى العراق الأصيلة، كما نرى مثالها النموذجي في الحركة الصدرية. فهي حركة المهمشين والحثالات الاجتماعية والفقراء، أي كل أولئك الذين أطلق عليهم المختار قبل ثلاثة عشر قرنا مصطلح "المستضعفين". وقدمهم على "أشراف قريش" انطلاقا من فكرته عن أن حقيقة الإسلام هو قتال المحلّين (أي من يحللون الحرام) وسلاما مع المسالمين ولكن بشرط وجود العدالة والمساواة. وهو شرط لم يمكن بالإمكان آنذاك تحقيقه دون استعمال القوة والعنف تجاه قوى لم تكن مستعدة لرؤية "الغوغاء" (كما دعاهم معاوية) و"السحرة الكفرة" (كما دعاهم مصعب بن الزبير) و"الحمرا"، أي الموالي، كما دعتهم تقاليد المثقفين المرتزقة والعقائديين التكفيريين (بدءا من عبد القاهر البغدادي مرورا بابن تيمية واستكمالا بمحمد بن عبد الوهاب وانتهاء بالأصولية التكفيرية للقاعدة وأذنابها الطائفية في العراق وخارجه). وهي صور يمكن رؤيتها كما هي في خطابات صدام وطائفيته السياسية "الجديدة". وليس مصادفة أن يكون العنف الإيديولوجي الدعائي للقوى الغريبة عن العراق من أصولية تكفيرية (قاعدية صحراوية بدوية أطرافية) لا همّ لها غير تزييف الوقائع في قوالب جاهزة تسعى للبرهنة على رؤية مصدر واصل العنف في العراق من "فرق الموت" ومطابقتها مع "جيش المهدي" وأمثاله. وهي صورة تستعيد شبح الماضي في الموقف من جيش المختار وأمثاله. فقد قالت عنه الزبيرية والأموية، أي القوى الغريبة عن العراق، بأنه جيش الغوغاء والكفرة والموالي. مع انه "جيش العراق" الحقيقي والأصيل سواء من حيث مكوناته البشرية وانتمائه الوجداني واستعداده للتضحية من اجل المبادئ المتسامية. يقف العراق من جديد أمام مفارقة وعيه الذاتي وانتمائه الحقيقي. وهي مفارقة اقرب ما تكون إلى إشكالية وجوده التاريخي الحالي وآفاق تطوره اللاحق. بمعنى ضرورة حلها بالشكل الذي لا يمكن معه استعادة شبح التاريخ من اجل تزييف المعاصرة فيه. فمما لا شك فيه أن "جيش العراق الحقيقي" سواء كان بهيئة "مختارية" قديمة أو "صدرية" حديثة أو أمثالها، لا يخلو من هنات وهفوات وأخطاء ونواقص فاحشة أحيانا، لكنها هنات وأخطاء ونواقص وهفوات الزمن العراقي الفاحش، الذي جعل من قواه الذاتية الأصيلة "غوغاء" و"موالي" و"كفرة"، ومن الغرباء عنه "أشرافا" و"عربا" و"مسلمين"!! وهي معادلة يمكنها العيش والفعل بمعايير الأشباح والتزييف لكنها لا تصنع تاريخا فعليا ولا معاصرة فعلية. إن التاريخ الحقيقي هو تاريخ وعي الذات والعمل بموجبه. وتاريخ العراق الحقيقي هو تاريخ الرجوع إلى أصوله وجذوره وقواه الحية، إلى نماذجه الرفيعة ومثله العليا والعمل بموجبها. وبالتالي ليست الاستعادة المستميتة لأشباح التاريخ سوى مساهمة ميتة لتزييف المعاصرة. وهي جهود بلا آفاق، شأن كل ما هو غريب عن العراق في العراق!!
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أدب السيرة السياسية في العراق – أدب الصورة المصطنعة
-
أدب السيرة السياسية الكبرى – أدب الأرواح
-
أموية أقزام
-
عبرة الدجيل! لكي لا يظهر دجال أصغر من صدام
-
قبر صدام أو القبور الجماعية للحق والحقيقة؟ من يرعب من؟
-
صراخ السلطة ولغة العقل الوطني
-
السيدة بيل + السيد بريمر= قدر التاريخ التعيس وقدرة التأويل ا
...
-
المثقف المؤقت وظاهرة -الارتزاق الثقافي-!3-3
-
المثقف المؤقت وظاهرة -الارتزاق الثقافي-! 2-3
-
المثقف المؤقت و-الارتزاق الثقافي-! 1-3
-
الدكتور كاظم حبيب السيدة بيل
-
الميليشيا والدولة في عراق -الديمقراطية- والاحتلال
-
البروتوكولات – الصورة المركبة للصهيونية الفعلية - 6
-
البروتوكولات – الصورة المركبة للصهيونية الفعلية 5
-
البروتوكولات – الصورة المركبة للصهيونية الفعلية - 4
-
البروتوكولات – الصورة المركبة للصهيونية الفعلية-3
-
المقاومة اللبنانية – نموذج المقاومة العربية الكبرى
-
نهاية الأوهام الكبرى وبداية الأحلام الواقعية
-
القوى الصغرى والأوهام الكبرى
-
العلمانية العراقية – دنيوية المستقبل
المزيد.....
-
أين بوعلام صنصال؟.. اختفاء كاتب جزائري مؤيد لإسرائيل ومعاد ل
...
-
في خطوة تثير التساؤلات.. أمين عام الناتو يزور ترامب في فلوري
...
-
ألم الظهر - قلق صامت يؤثر على حياتك اليومية
-
كاميرا مراقبة توثق لقطة درامية لأم تطلق كلبها نحو لصوص حاولو
...
-
هَنا وسرور.. مبادرة لتوثيق التراث الترفيهي في مصر
-
خبير عسكري: اعتماد الاحتلال إستراتيجية -التدمير والسحق- يسته
...
-
عاجل | نيويورك تايمز: بدء تبلور ملامح اتفاق محتمل بين إسرائي
...
-
الطريقة المثلى لتنظيف الأحذية الرياضية بـ3 مكونات منزلية
-
حزب الله يبث مشاهد استهداف قاعدة عسكرية إسرائيلية بصواريخ -ن
...
-
أفغانستان بوتين.. لماذا يريد الروس حسم الحرب هذا العام؟
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|