أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالله عطوي الطوالبة - الإنشطار السني الشيعي...جذوره وأسباب استمراره !















المزيد.....


الإنشطار السني الشيعي...جذوره وأسباب استمراره !


عبدالله عطوي الطوالبة
كاتب وباحث


الحوار المتمدن-العدد: 8031 - 2024 / 7 / 7 - 11:39
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


دفعتني إلى إملاء هذا المقال تحذيرات تطفو على السطح بين حين وآخر في الإعلام الرسمي الأردني، الورقي خاصة، من ميليشيات شيعية تستهدف الأردن. تحذيرات تنطوي على مبالغات أوضح من أن تحتاج إلى بيان، ومحمولة على غايات لا تنطلي على ذكاء المواطن الأردني. الأهم من هذا، أنها عَرَضٌ لمرض سياسي اجتماعي يذرف عمره على ألف سنة، عنوانه "الانشطار السني- الشيعي". عرفت أوروبا مثله، ودفعت ثمنه ملايين الضحايا، في حرب السنوات الثلاثين سنة بين الكاثوليك والبروتستانت (1618-1648). الحروب الدينية عادة ما تكون الأكثر شراسة وتدميرًا وسفكًا للدم، لأن كُلًّا من أطرافها يتوهم أنه الأقرب إلى السماء والناطق الحصري باسمها. كانت أوروبا حينذاك ترزح تحت حكم رجال الدين (الكنيسة) والاقطاع، بُنَاها الاقتصادية والاجتماعية هشة ضعيفة، والوعي المبني على هذا الواقع غيبي خُرافي يتلاعب به رجال الدين كما يشاؤون. لكن أفكار رواد النهضة خلال ما عُرف بعصر الأنوار، لم تلبث أن بدأت تُثمر وتعطي أُكُلَها. وقد تواقت ذلك مع استعداد الإنسان الأوروبي لدفع أثمان باهظة لتجاوز مراحل تسييس الدين وتديين السياسة، بعد أن جنى المر من ثمارها. فقد توصل الوعي هناك بعد تضحيات جِسام إلى المعادلة الأرقى في التعامل مع الدين، وقوامها، إخراجه من ملعب السياسة نهائيًّا، بحسبانه شأنًا معتقديًّا تعبديًّا خاصًّا مكانه دور العبادة وقلب المؤمن ووجدانه. أما في حاضرنا العربي، فما تزال أسباب تسييس الدين وتديين السياسة قائمة، بل وفاعلة. نحن أكثر الأمم تسييسًا للدين على مختلف المستويات، حيث يُوظف الدين لتفصيل أردية الشرعية لأنظمة حُكمٍ لم تأتِ عبر صناديق الاقتراع في انتخابات حرة نزيهة. ولا تقل قوى المعارضة، الاسلامية خصوصًا، عن نُظُمِ الحكم في توظيف الدين لتحقيق أهدافٍ سياسية. مقصود القول، يكاد العرب يكونون الأمة الوحيدة على وجه الأرض الذين لم يعطوا بعد لله ما لله ولقيصر ما لقيصر. في واقع عربي هَشَّةٌ بناه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، من المتوقع أن يكون الاشتباك بين الدنيوي والديني قائمًا، حيث يدخل الدين في تفاصيل حياتنا. وعليه، لا غرابة أن ثنائية سنة- شيعة ما تزال تفرض نفسها وتتلاعب بواقعنا، حتى يوم الناس هذا. ليس هذا فحسب، فالصدع يتسع على أرضية ما حصل في عشرية ما يُعرف بالربيع العربي، وقبلها احتلال العراق سنة 2003، لدرجة ظهور آراء ترى أن الانقسام السني الشيعي قد تخطى الإطار المذهبي داخل الدين الواحد وتحول إلى ديانتين.
نبدأ إضاءتنا على جذور الانقسام وأسبابه، كما تطلعنا عليها مراجعنا التاريخية، بإشهار سؤال نعتقد أن الإجابة عليه بمعايير القرن 21، ستشكل انعطافة تاريخية في حاضرنا ومستقبلنا. فكم عدد العرب والمسلمين، وبخاصة من الأجيال الشابة، الذين يعلمون أن ما يُعرف ب"الصدع" أو الانقسام
السني- الشيعي، مع تحفظي الشديد على استخدام مصطلحات كهذه لكن الواقع يفرضها، هو في الأصل والجذور التاريخية امتداد لخلاف ذي طابع عشائري قَبَلي، ظهر قبل الاسلام ولم يلبث أن ارتدى لبوس الدين بعده؟!!!
والآن الى التفاصيل، بايجاز قدر المستطاع وبما يلبي مطلوب هذا المقال وهدفه. في العودة الى جذور الصراع بين الهاشميين والأمويين (الطرفان قرشيان)، لا بد من التذكير بداية أن قصي بن كلاب (الجد الرابع للنبي)، هو الذي أسس مكة، ورفع حظوتها قبل مولد النبي عليه السلام بأكثر من قرن. ومعروفة قصة استيلاء قصي بن كلاب على الكعبة، وتأسيسه دار الندوة لقريش في مكة. بعد أن أسس قصي لقريش ما يشبه الدولة الخاصة بها في مكة، أصبح يُلقب ب"المُجَمِّع"، سيد قريش، فجمع بين يديه الوظائف السياسية والدينية، وتشمل ما كان له صلة بالحرم وبسير الحج (كان الحج عند العرب قبل الاسلام ). فقد كان يتولى سدانة الكعبة أو حراستها، ودار الندوة حيث تجتمع قريش للتشاور والتداول، واللواء أو الراية، والرفادة أو امتياز اطعام الحجيج، والسقاية، أي امتياز تزويدهم بالماء، والقيادة، أو امرة الحملات العسكرية (د. هشام جعيط، الفتنة، ص 16). وكان لقصي بن كلاب أربعة أولاد هم: عبد الدار، وعبد مناف (الجد الثالث للنبي)، وعبد العزّى، وعبد قصي. ترك قصي بعد رحيله، سلطاته ووظائفه لولده البكر عبد الدار دون أخيه عبد مناف. ولم يلبث الحقد أن تملك قلب عبد مناف على مُلك أخيه عبد الدار وما حظي به من تشريف، وراح أبناء عبد الدار وأبناء عبد مناف يتوارثون أحقاد الآباء. وقام كل من الطرفين باستعداء القبائل على الطرف المقابل في اطار التنافس على السيادة ووظائفها. ولما اشتد الصراع، لجأ بنو عبد مناف الى التحالف مع بني أسد بن عبد العزّى، وبني زُهرة، وبني تميم بن مرة، وبني الحارث بن فهر. وفي المقابل، تحالف بنو عبد الدار مع بني مخزوم، وبني سهم، وبني جُمح، وبني عدي بن كعب. وقد سُمي الحلف الأول ب"المطيبين"، لأنهم غمسوا أيديهم في جفنة من الطيب عند عقد الحلف بينهم. في المقابل، سمي حلف بني عبدالدار ب"لعقة الدم"، لأنهم غمسوا أيديهم في الدم، وأطلق عليهم أيضا حلف الأحلاف. جنح أبناء العمومة الى الصلح وتقاسموا وظائف السيادة في مكة، فكانت السقاية والرفادة والقيادة لبني عبد مناف، والحجابة واللواء لبني عبد الدار، ودار الندوة بينهم بالاشتراك. لكن نجم بني عبد مناف لم يلبث أن لمع وارتفع شأنهم "الى درجة أنهم كانوا سفراء الأمان والايلاف لدول العالم الكبرى حينذاك. فقد كان بنو عبد مناف الأربعة: هاشم(الجد الثاني للنبي)، والمطلب، ونوفل، وعبد شمس، يتوجهون الى الجهات الرئيسة الأربع التي كانت تتجه اليها قريش، فكان هاشم يتجه الى الشام، وعبد شمس الى الحبشة، والمطلب الى اليمن، ونوفل أخوهم غير الشقيق الى فارس. وكان تجار قريش يذهبون في ذمة هؤلاء الأخوة الأربعة، لا يتعرض لهم أحد بسوء. وبذلك صار لبني عبد مناف الرياسة، وكان يُقال لهم المجيرون، لأنهم أخذوا لقومهم قريش، الأمان من ملوك الأقاليم ليدخلوا في التجارات الى بلادهم"( ابن كثير: البداية والنهاية، ج2، ص 236).
لكن التنافسَ والصراعَ سُرعان ما نشبا بين بني عبد مناف لأكثر من سبب، أهمها "استقرار ألوية الشرف: (السقاية والرفادة والقيادة) المنتزعة من بيت عبد الدار لبيت عبد مناف، في يد هاشم بن عبد مناف بالتحديد دون بقية أخوته. وما أن رحل أخوه عبد شمس عن الدنيا حتى راودت ولده أمية (جد الأمويين) الأطماع في أخذ ما بيد عمه من ألوية الشرف بالقوة"( تاريخ الطبري، ج2، ص123). وتحول التنافس الى صراع مكشوف بين أمية بن عبد شمس وكان كثير المال والأولاد، وبين عمه هاشم المعروف بالكرم والسخاء، وكل منهما يدعي أنه أرفع مكانة وأعز نفرًا. وتأدى الصراع على المكانة بين الأخ وابن أخيه الى "تراهنهما على خمسين ناقة تُنحر في مكة يدفعها المنهزم، ويجلو عنها عشر سنين. واحتكما في ذلك الى كاهن خُزاعي، فحكم بينهما بنموذج من سجع الكهان: "والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، من منجد وغائر، لقد سبق هاشم أمية الى المآثر، أول منه وآخر". فكان النصر لهاشم، فأخذ الابل من أمية ونحرها، وأطعم الناس من لحمها، بينما سافر أمية الى الشام حيث أقام عشر سنين. فكانت هذه أول عداوة بين بني أمية وبني هاشم، ثم تنافر حرب بن أمية (والد أبي سفيان) وعبدالمطلب بن هاشم (الجد الأول للنبي) الى نفيل بن عبد العزّى (جد عمر بن الخطاب)، فحكم لعبدالمطلب" (د. محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، ص82).
كانت اقامة أمية بن عبد شمس عشر سنوات في منفاه الشامي "رصيدا لبيته الأموي من بعده: فقد ارتبط هناك بأهلها بأواصر السنين والمصاهرة، التي كانت لأبنائه ذُخرًا وعتادًا، حيث قامت هناك دولة كبرى بعد سنين يرأسها حفيده معاوية، عرفتها الدنيا باسم الدولة الأموية. وكان حكم الكاهن الخزاعي، مدعاة لفرقة وفجوة بين بيت هاشم وبيت عبد شمس وولده أمية، ورثها الأبناء والحفدة فيما بعد قيام الدولة الاسلامية، حيث استمر الصراع ممثلا في الأمويين (نسبة لأمية بن عبد شمس) والهاشميين (نسبة لهاشم بن عبدمناف)، أو بين المذهب الشيعي والمذهب السني"( ابن هشام: السيرة، ج1، ص 123).




ظل الصدع بين أبناء العمومة الأمويين والهاشميين يتسع مع الأيام، رغم خفوته في زمن النبوة وقيام الدولة الاسلامية في المدينة. لكنه لم يفوت فرصة الظهور حسب الظروف ومسار الأحداث وتطوراتها. بانت ارهاصات الصراع بين الهاشميين ممثلين بعلي بن أبي طالب، والأمويين ممثلين بأبي سفيان (صخر بن حرب بن أمية)، بعد وفاة النبي والبيعة لأبي بكر خليفة، ولكن على مستوى جس النبض والترقب من جانب الأمويين على وجه الخصوص. وفي نية كل من الطرفين اغتنام الفرصة، عندما تلوح في الأفق. بالنسبة للأمويين، وهم يمثلون الارستقراطية القرشية، والعشيرة الأقوى داخل قريش، فقد كانت تحركهم بالاضافة الى مفعول القبيلة، خشيتهم على نفوذهم الذي احتفظوا به بعد فتح مكة، هاجسهم قنص الخلافة عندما تتهيأ الظروف، ولن يتأخروا كثيرًا في تحقيق استراتيجيتهم هذه من خلال خلافة عثمان بن عفان. أما الهاشميون، فهم آل بيت النبي، والأولى بوراثته على صعيد مفعول القبيلة. واكتسب الهاشميون قوة اضافية، بالتفافهم بعد وفاة النبي حول علي بن أبي طالب، الشخصية التاريخية المفعمة بمجد الاسلام. خشي الأمويون من أبي بكر ومن بعده عمر، لصرامتهما في تطبيق الشريعة، واحتمال أن يتأدى ذلك الى تقييد حركة الارستقراطية القرشية التي يمثلونها وتهديد مصالحها. من هنا، ربما يمكن فهم موقفهم من خلال زعيمهم أبي سفيان، الدفع بعلي بن أبي طالب لخلافة النبي، كونه أقرب اليهم (الأمويون) من ناحية النسب على الأقل. وتشير مصادرنا التاريخية، الى "ان أبا سفيان قال لعلي: ما بال هذا الأمر(الخلافة/السلطة السياسية الدنيوية)، في أقل حي من قريش، والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلًا ورجالًا"(الجابري: العقل السياسي العربي، ص138). وفي رواية ثانية، "أنه لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول: والله اني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا دم، يا آل عبد مناف، فيمَ أبو بكر من أموركم، أين المستضعفان؟ أين الأذلّان (علي، والعباس عم النبي). وقال مخاطبا عليًّا: ابسط يدك أبايعك، فأبى عليه علي... وزجره وقال: انك والله ما أردت بهذا الا الفتنة"(العقل السياسي العربي، ص 138-139).
الهاشميون من جانبهم، لم يكن موقفهم بعيدا عن شهوة الزعامة في مسارها القَبَلي، اذ يُروى "أن العباس عم النبي أثار مسألة الخلافة مع علي بن أبي طالب عندما كان النبي مريضًا مرضه الأخير، فقال له ادخل على النبي واسأله ان كان الأمر (الخلافة/السلطة السياسية) لنا بيَّنه وان كان لغيرنا أوصى بنا خيرًا، فامتنع علي. وترجح بعض الروايات أن عليًّا خاف ان هو سأل النبي أن تكون النتيجة سلبية فيُحرم الهاشميون من الخلافة الى الأبد"(العقل السياسي العربي، ص137).
وتتعدد الروايات التاريخية بخصوص بيعة علي لأبي بكر، لكن أشهرها تؤكد تأخر علي عن البيعة احتجاجًا، لأنه يرى أنه الأحق بخلافة النبي. من هذه الروايات:"أن عليًّا أُتِيَ به الى أبي بكر وهو يقول: أنا عبدالله وأخو رسول الله. وقيل له: بايع أبا بكر. فقال: أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي. أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي، وتأخذونه منا أهل البيت غصبًا، ألستم (لاحظ استخدام صيغة نحن وأنتم) زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم فأعطوكم المقادة وسلموا اليكم الامارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار. نحن أولى برسول الله حيًّا وميتًا، فانصفونا ان كنتم تؤمنون، والا فبوؤوا بالظلم وأنتم تعلمون. فقال له عمر بن الخطاب: انك لست متروكًا حتى تبايع...فقال له أبو بكر: فان لم تبايع فلا أكرهك. فقال أبو عبيدة الجراح: يا ابن عم، أنت حديث السن وهؤلاء مشيخة قومك ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور ولا أرى أبا بكر الا أقوى على هذا الأمر منك وأشد احتمالًا واضطلاعًا به، فسلم لأبي بكر هذا الأمر...فقال علي: الله الله يا معشر المهاجرين، لا تُخرجوا سلطان محمد(لافت جدا استخدام تعبير سلطان محمد) في العرب عن داره وقعر بيته الى دوركم وقعور بيوتكم ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أحق الناس به لأنا أهل البيت، ونحن أحق بهذا منكم"(العقل السياسي العربي، ص137-138).
وتذهب بعض الروايات الى تأثير فاطمة بنت النبي وزوج علي في موقف الأخير. وتذكر احداها "أنه كان لعلي وجه من الناس حياة فاطمة، فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي، ولما رأى انصراف وجوه الناس عنه ضرع الى مصالحة أبي بكر، فجمع بني هاشم عنده واستدعى أبا بكر وأوضح له موقفه بمحضرهم، ثم بايع وبايعوا"(العقل السياسي العربي، ص138). ومما قاله علي لأبي بكر وفق الروايات وهو يبايعه :" لم يمنعنا أن نبايعك يا أبا بكر انكار لفضيلتك ولا نفاسة عليك بخير ساقه الله اليك، ولكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقًّا، فاستبددتم به علينا"(د. نصر حامد أبو زيد: الخطاب والتأويل، ص 158).
سكت الأمويون على مضض على خلافة أبي بكر، وفعلوا الشيء ذاته إزاء خلافة عمر. وتشير مصادرنا التاريخية الى أن عمر "كان يبغض قريشًا ويميل الى الأعراب، وكانت قريش تبادله البغضاء، ويتهمها بعض الباحثين بأنها كانت من المتآمرين على قتله"(العقل السياسي العربي، ص141). وقد أشار عمر نفسه، حسب بعض المصادر، الى هذه البغضاء المتبادلة "يوم الحديبية، حين أراد النبي أن يرسله سفيرًا الى قريش، فقال عمر: يا رسول الله...اني أخاف قريشًا على نفسي، وليس بمكة من بني عدي بن كعب(عشيرة عمر) أحد يمنعني. وقد عرفت قريش عداوتي اياها وغلظتي عليها"(د. علي الوردي: وعاظ السلاطين، ص170). بعد مقتل عمر، آلت الخلافة الى عثمان بن عفان، وتعتبر مدة خلافته الأطول خلال حقبة الخلفاء الراشدين(11 عاما و11 شهرا). استغلت الارستقراطية القرشية الأموية خلافة عثمان لاستعادة مكانتها القديمة، وتمكنت من الاستحواذ على حصة الأسد من المناصب والولايات والغنائم. وقد أباح عثمان لأعلام قريش، تملك الضياع وتشييد القصور في الولايات الاسلامية كالعراق ومصر والشام. وأضاف الى هؤلاء الصحابة الذين أسلموا بعد فتح مكة، وكان عطاؤهم قليلا في عهد عمر. وكانت النتيجة، تزايد ثراء الأثرياء مقابل مضاعفة فقر غالبية المسلمين. واتخذ عثمان أقرباءه عمالًا على الأمصار، مثل عبدالله بن ابي السرح، الذي ولاَّه أمر مصر وأطلق يده فيها، والوليد بن عقبة بن أبي معيط، الذي ولاه الكوفة رُغم أن والده عقبة كان عدوًّا للنبي. وقرَّب عثمان اليه ابن عمه، الحكم بن أبي العاص، طريد النبي، وفتح بيت المال لبني أمية. وتجدر الاشارة الى أنه لما بُويع عثمان خليفة للمسلمين وحوله بنو أمية مجتمعين، قال أبو سفيان بن حرب " أفيكم أحد غيركم؟ وقد كان أعمى لتقدمه في السن، قالوا: لا، فقال: يا بني أمية تلقفوها (الخلافة) تلقف الكرة، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرن الى صبيانكم وراثة"(محمد شحرور: الدين والسلطة، قراءة معاصرة للحاكمية، ص32). قُتل عثمان بالطريقة الموثقة في مراجعنا التاريخية، لمن يريد أن يقرأ ويعي ما يقرأ بعين العقل ومعايير العلم. وللاختصار، لا نريد الخوض في تفاصيل الطريقة التي قُتل بها عثمان، لكن مراجعنا الرصينة تنظر الى هذا الحدث التاريخي بمنظور "ثورة العرب على قريش، حيث تكاتب رؤساء القبائل الناقمة على قريش وسياسة عثمان في كل من الكوفة والبصرة ومصر". بعد مقتل عثمان، تم اختيار علي بن أبي طالب خليفة من قبل الثائرين على عثمان، في ظروف غير مستقرة. وتشير مصادرنا التاريخية الى أن عليًّا بعد اختياره خليفة "أرسل رسولًا الى معاوية بن أبي سفيان، والي الشام، يطلب البيعة، فأمسكه معاوية لوقت معين ثم أطلقه بلا جواب لا سلبي ولا ايجابي، اذ لم يكن معاوية يرفض الاعتراف بعلي خليفة وحسب، بل كان قد بدأ بتحريض مقاتليه وتحسيسهم بمظلمة مقتل عثمان. وتُنسب اليه مناورات ومداورات سواء في المدينة، حيث يمكن أن يكون قد أرسل رسولًا مع رسالة بيضاء، أما في دمشق، حيث يُقال أنه وضع فوق منبر الجامع الكبير قميص عثمان الملطخ بالدم، يبكيه كل يوم ستون ألف شخص"( د. هشام جعيط: الفتنة/ جدلية الدين والسياسة في الاسلام المبكر، ص 144). وهكذا بدأ انقسام المسلمين يتلون بالعنف والدم. فكانت معركة الجمل بين علي بن أبي طالب من جهة، وعائشة زوج النبي، التي انضمت الى المطالبين بالانتقام من قتلة عثمان، ومعها طلحة بن عبيدالله والزبير بن العوام، وهما من المبشرين بالجنة. كان النصر في المعركة حليف علي، وتراوح عدد القتلي حسب مراجعنا التاريخية بين 10 و20 ألف قتيل. وهي أول معركة يقتتل فيها المسلمون. وعلى سيرة الانتقام من قتلة عثمان والاقتصاص منهم، يُجمع معظم مؤرخينا على صحة موقف علي بن ابي طالب، فكيف يمكن محاسبة آلاف الثائرين على عثمان في ظروف غير مستقرة، يجب أن تكون أولوية من بيده السلطة (الخلافة) خلالها بذل الجهد لرأب الصدع واخماد شرارة الحرب الأهلية؟!!!
لكن الأمور سارت في اتجاه معاكس، وتثبت حقائق التاريخ أن رفع شعار "الثأر لمقتل عثمان" لم يكن الا ذريعة لرفض خلافة علي، وغطاء لعدم الاعتراف به خليفة. فقد كانت عائشة زوج النبي، على ما تؤكد مصادرنا التاريخية، تحرض ضد عثمان في أواخر سني خلافته بخاصة، لكنها انقلبت الى موقف مختلف بعد مقتله الى درجة الخروج على علي وقتاله. أما معاوية، فقد تحرك باسم القبيلة مطالبا بدم عثمان، تحت غطاء رابطة الدم وأواصر القرابة، فالاثنان(عثمان ومعاوية) أمويان، يضاف الى ذلك استغلال معاوية تعيينه واليًا على الشام في عهد عمر بن الخطاب، وهو بذلك مستثنى من المطعن الأساس على عثمان، أي محاباته لأقربائه وتعيينهم في المواقع القيادية. مختصر القول، تأدى الخلاف بين علي ومعاوية الى نشوب معركة صفين 657م/37ه. تحرك معاوية باسم القبيلة، بلغة محمد عابد الجابري، وتحرك علي باسم العقيدة، لمواجهة تحدي معاوية. كانت الأمور على مستوى القبيلة في غير صالح علي. قريش بغالبيتها الى جانب معاوية، ولذلك أسبابه، فقد كان علي بالغ الصلابة والشدة من أجل العقيدة ايام غزوات النبي ضد قريش، وهو ما جعله مكروهًا من قبلها. وقد عبر علي ذاته عن كراهية قريش له، وفق المصادر التاريخية، وكراهيته لها في أكثر من مناسبة. فقد كتب الى أخيه عقيل، يصف له قريشًا وموقفها منه، فيقول:"...ودع عنك قريشًا وتراكضهم في الضلال، وتجوالهم في الشقاق، فان قريشًا قد أجمعت على حرب أخيك اجماعها على حرب رسول الله...قبل اليوم"(وعاظ السلاطين، ص201). لكي لا نطيل أكثر على القارئ، نختصر ونشير الى الحقيقة التاريخية بخسارة علي وفوز معاوية، في الصراع على السلطة والنفوذ. ونرى أن الأمر لا يقاس بمعايير الحق والباطل، بل بشروط تلك المرحلة وسياقاتها، وبخاصة على صعيد مفعول القبيلة الحاسم لصالح معاوية. تحرك علي كما ذكرنا بمفعول العقيدة، أي انتصارًا للمبدأ بلغة وقتنا الراهن. وهذا على أهمية دوره، ليس له الكلمة الفصل في مجتمع بدوي قبلي اعتاد العطاء ويستخفه بشكل خاص وهج الأصفر الرنان. ما نريد قوله يمكن اختصاره بالموقف التالي :"سُئل أعرابي كان يراقب القتال بين جيش علي وجيش معاوية، عن رأيه بما يجري، فقال: الصلاة خلف علي أتم، لكن الطبيخ عند معاوية أدسم"(وعاظ السلاطين، ص204).
انتهى الصراع على الخلافة (السلطة السياسية) بين علي ومعاوية، بمقتل علي غدرًا بيد آثمة حقيرة، في 17 رمضان سنة 40 هجرية. بعد مقتل علي، دَسَّ معاوية السُّمَّ للحسن بن علي بن أبي طالب بواسطة واحدة من زوجاته (الحسن)، هي جعدة بنت الأشعث، فمات الحسن مسمومًا، وهتف الأمويون حينها "إن لله جنودًا من عسل". وكان الحسن منكاحًا ومزواجًا، حيث تشير مصادر تاريخية إلى أنه ضاجع ما ينوف على مئة امرأة. وفي واقعة الطف المشهورة بإسم "كربلاء" قُتل الحسين بن علي بن أبي طالب، بأمر من خليفة المسلمين السادس، يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. بعد ذلك توالت انتفاضات الطالبيين ضد الأمويين والعباسيين، وقد جوبهت بقسوة ومن دون رحمة. كان العباسيون أكثر قسوة في التعامل مع أبناء عمومتهم الطالبيين، من سابقيهم الأمويين. على هذه الأرضية التاريخية تأسس الإنشطار السني الشيعي، وتكرس انقسام المسلمين على الأرض بين مؤيدين لعلي سيعرفون بالشيعة مقابل السنة.
أصل الانقسام إذن، كما رأينا، عشائري قَبَلِي في بداياته، ولم يلبث أن ارتدى لبوس الدين بعد الاسلام والأحداث التي إليها أشرنا بقدر مستطاعنا من الايجاز. انتشر المذهب الشيعي، الذي يتكون أساسًا من خمسة فروع أكبرها الاثنا عشرية، في دول عربية عدة، وفي دول اسلامية منها ايران. وقد تشيعت هذه الأخيرة بعد أن كانت سنية، في القرن السادس عشر في عهد اسماعيل الصفوي، نكاية بالدولة العثمانية السنية. إذن، الموضوع كله من بدايته وحتى نهايته لا علاقة له بالدين ولا بالكفر والايمان، وانما بالتنافس والتناحر على الزعامة والسلطة والنفوذ.
فهل يعقل أن وعينا الجمعي ما يزال في القرن الحادي والعشرين، يتعثر بأحداث أزمنة غَبَرَت، ويتعامل مع تاريخنا بمناظير التمذهب الفتنوي والعصبيات الضيقة؟!!!
ويتملك المتابع المعني، الذهول من حجم الفقر المعرفي بأحداث الماضي ووقائعه، ناهيك بتوظيفها وتفسيرها ضدًّا على وحدة الصفوف، بل واختراقها والعبث بشؤونها الداخلية عبر العصور وبث سموم الكراهية والبغضاء بين أبناء أمة يُفترض أنها واحدة. وإذا سألتني عزيزنا القارئ عن الخلل فإننا نراه بداية في التعليم. تاريخنا يُقدم لأبنائنا في المدارس والجامعات مُغلَّفًا بهالات التقديس وعبادة الرموز، لكي يظل ساكنو القبور فاعلين في حاضرنا، كأنهم يعيشون معنا، موجهين ومقررين. مؤسف أن تعليمنا لا يخرِّج أجيالًا متسلحة بوعي نقدي، يؤهلها لقراءة الأحداث بموازين العقل وبمعايير العلم الحديث والمراجعة النقدية الواعية. مناهجنا التعليمية في التاريخ بخاصة والعلوم الانسانية بعامة، ما تزال تعتمد التلقين والحفظ، لتخريج أجيال تسمع وتطيع ولا تحاور أو تناقش باستخدام أساليب التفكير الحديثة. واذا بحثنا عن الأسباب، فاننا واجدوها في أفاعيل الاستبداد السياسي ورافده ومغذيه الاستبداد الديني، لتدجين الانسان في سبيل تسهيل السيطرة عليه والتحكم به. هنا، نرى من الضرورة بمكان استحضار ما ذهب اليه المفكر الكبير عبدالرحمن الكواكبي، قبل قرن ونيف، اذ يقول:"الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني، وهما أخوان أبوهما التغلب، وأمهما الرياسة، وهما صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الانسان، والمشاكلة بينهما أنهما حاكمان: أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب"(الكواكبي: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، ص21).
لا يعقل أن يظل صراع عشائري على الوجاهة والنفوذ يتلاعب برؤوسنا، ونشقى به منذ 15 قرنًا. ولا يعقل أن يستمر الماضي فاعلًا في حاضرنا في الاتجاه الفتنوي التعصبي، لا بل يوجه ويقرر ويتحكم.
لسنا الأمة الوحيدة التي شهد تاريخها مثل هذا الإنقسام، لكن الفرق بين الأمم في التعامل مع مثل هذه الاشكالية التاريخية، يكمن أولًا وأخيرًا في تحكيم منطق العقل وتغليب المصالح المشتركة واللجوء الى الحوار والتفاهم.
هنا، أظننا نضع الاصبع على الجرح بخصوص تعاملنا مع أحداث تاريخنا السياسي وتطوراته.


ملاحظة: المعلومات من كتابنا : (العرب والديمقراطية...أين الخلل؟!)



#عبدالله_عطوي_الطوالبة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسطورة الطوفان...سومرية الأصل والنشأة
- مفارقات !
- أجرأ مؤلفات مؤسس علم التحليل النفسي
- دولة لويس الرابع عشر العربية !
- ثقافة القابلية للإستعباد !
- بالصدفة أنقذ الأردنيون -يوسف- وهم من يقرر مصير إسرائيل !
- الراعي الهشَّات !
- المترشح -الحشوة- !
- دفن السرطان الصهيوني المزروع في الجسد العربي هو الحل.
- نكشة مخ (16)
- مذكرات رئيس وزراء أردني أسبق والأسئلة الصعبة!
- كيف يُحكم العرب؟!
- تدين الدروشة !
- النظام الأميركي سبب شقاء عالمنا
- هي القوة إذن !
- نكشة مخ (15)
- العنصرية والنزوع العدواني في أبشع تجلياتهما !
- نكشة مخ (14)
- هكذا تقدموا
- مشروع مارشال لإعمار غزة...معقول؟!!!


المزيد.....




- تعــرف على موعد انتهاء تسجيل الحج 1446 بالإمارات وخطوات التس ...
- قائد بحرية حرس الثورة الاسلامية اللواء تنكسيري: نعد أنفسنا ل ...
- قائد بحرية حرس الثورة الإسلامية اللواء تنكسيري: نحن من يرسي ...
- غني مع البيبات الصغار.. تردد قناة طيور الجنة بيبي على قمر ال ...
- قائد بحرية حرس الثورة الاسلامية: أعددنا أنفسنا لجميع الظروف ...
- المرصد الأورومتوسطي: تم استهداف 17 مركزا و62 آلية تابعة للهي ...
- المرصد الأورومتوسطي: استهدفت -اسرائيل- 15 مركزا طبيا تابعا ل ...
- حسام بدران: الفلسطينيون هم خط الدفاع الاول عن الامة العربية ...
- عراقجي: حكومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية مستمرة بعلاقاتها ...
- ايران تدعو إلى تكثيف التحركات للدول الإسلامية ضد كيان الاحتل ...


المزيد.....

- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالله عطوي الطوالبة - الإنشطار السني الشيعي...جذوره وأسباب استمراره !