|
حدود العولمة وظاهرة ترامب (1-2)
محمود محمد ياسين
(Mahmoud Yassin)
الحوار المتمدن-العدد: 8029 - 2024 / 7 / 5 - 22:04
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
توطئة كثر الحديث مؤخرا عن دونالد ترامب مرشح الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية القادمة لفترة ثانية وذلك في ظل الاخبار المتواترة عن القضايا التي تلاحق الرئيس الأمريكي السابق. لكن معظم المحللين والمعلقين السياسيين الذين تصدوا لتحليل طاهرة ترامب لا يتعدى تشخيصهم ترديد الآراء حول ترامب التي يطلقها أعضاء الحزب الديمقراطي المنافس مثل ان ترامب معتوهه وعنصري، الخ. لكن هذا الوصف لترامب الذى يطرحه الديمقراطيون يخفى الواقع الاجتماعي/السياسي الذى أفضى الى التنافس والصراع بين الحزبين وأسفر عن ظهور ظاهرة ترامب. وفى هذا المقال نعرض جوانب الأساس الاجتماعي/ الاقتصادي والسياق السياسي المعبر عنه الذى أولد ظاهرة ترامب التي يعجز التحليل الذاتي (subjective) عن ادراك كنهها. فالتحليل الذاتي يعتنى كثيرًا بالمظاهر السطحية للظاهرات الاجتماعية على عكس التحليل الاجتماعي الذى يسعى لاستحضار العوامل الخفية (غير المرئية على السطح) وراء الحركة الفعلية للظاهرات كنقيض على ما هي عليه في الواقع. والافراد يصيروا مدفوعين بهذه القوى (الحقيقية) وادراكها يؤدى الى تحررهم، رغما عن أن هذا التحرر لا يكون الا ضمن حدودها. وتجدر الإشارة الى أن احد أهم القوانين الفلسفية (الماهية والظاهرة) هو أن الديالكتيك يؤدى لمعرفة تتناقض مع معطيات الواقع الظاهرية؛ وقد كان كارل ماركس في مواضع كثيرة من مؤلفه "راس المال" حريصا على الإشارة الى ان معظم اثباتاته النظرية في مجال الاقتصاد السياسي تقوم على كشف الحقيقة الكامنة وراء الشكل الخارجي للأشياء انطلاقا من ان المظهر يتناقض مع الجوهر؛ فمثلا أشار في احدى هذه المواضع الى أن الاقتصاديين البرجوازيين أصحاب نظرية المنفعة الحدية (marginal utility economists) الذين اعقبوا الاقتصاديين الكلاسيكيين ، اعتمدوا على مفاهيم الأسعار والارباح المعلومة لأي تاجر عادى في تجاهل لحقيقة ان علاقات التبادل (الاقتصادي) التي تحدث يوميا لا يمكن أن تتطابق بشكل مباشر مع مقادير (القيمة). المقال نبدأ ما نحن بصدده بان نذكر ان أمريكا تحكمها طبقة رأسمالية يمثلها الحزبان الرئيسيان (الجمهوري والديمقراطي) اللذان يتبادلان الأدوار في حماية مصالح الرأسمالية؛ والحزبان يتبادلان الحكم عن طريق الديمقراطية الليبرالية الجفرسونية (الشكلية)، وجدير بالذكر أن الدستور الأمريكي "1789" لا تذكر فيه كلمة ديمقراطية، بل يشار فيه الى ان أمريكا جمهورية دستورية. والتناقض بين الحزبين يعكس المصالح المتضاربة للرأسماليين كسمة متأصلة في نظام الإنتاج السلعي. ووجود حزبين (رئيسيين) يقومان على أساس علاقات انتاج متشابه ( أي رأسمالية) يعكس النمو المتفاوت للرأسمالية وخاصة في دولة مثل امريكا ينتشر فيها الإنتاج ذو الأوجه المتعددة، مغطياً مساحة شاسعة من الأرض.1 ففي أمريكا فان النمو المتفاوت للإنتاج الرأسمالي يجد تعبيره، في أحيان كثيرة، في تحويل علاقات الانتاج الرأسمالية الى علاقات مكانية (spatial) كعملية موضوعية وليست عشوائية. وهى العملية التي تفرضها عدة عوامل مثل توفر العمالة والتخصص وتقسيم العمل وأسعار الفائدة ودورة رأس المال والإجراءات القانونية وقوانين الاستثمار الولائية الخ، وتأثيرها على الربحية. وفى مقولته الشهيرة يكتب ماركس قائلا ”ان راس المال ينمو الى كتل هائلة في موضع واحد، وفى يد واحدة، لان آخرين فقدوه في مكان آخر.“ والرأسمالية الامريكية تطورت لكى تصبح "استعمارية رأسمالية" في أعقاب الحرب العالمية الثانية تماهيا موضوعيا مع التطور التاريخي للرأسمالية الذى بدأ في أوربا منذ نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين عندما اجتاز النظام الرأسمالي مرحلة المنافسة الحرة ليحل محلها الاحتكار وبداية مرحلة الامبريالية التي يمثل اساسها الاقتصادي سيطرة رأس المال المالي (اندماج راس المال الصناعي مع المصرفي) على الاقتصاد الرأسمالي الذى فرض عليه ذلك التحول النوعي البدء في مرحلة جديدة من العولمة اتسمت بنزوعه لتصدير رؤوس الأموال من الدول الكبرى للدول الفقيرة؛ فالعولمة ليست اختراعا قامت به النخب الحاكمة في الدول الرأسمالية، بل هي ظاهرة متأصلة في الرأسمالية تدفع بها للخروج والتوسع خارج حدود بلدانها مكتفية قبل ظهور الامبريالية بتصدير السلع والتجارة عموما (مثال شركة الهند الشرقية البريطانية "1600" التي كانت تتاجر في الحرير والقطن والشاي والافيون). فالإمبريالية تعنى الرأسمالية التي تنزع للسيطرة الاقتصادية الكاملة على البلدان المُصَدر اليها رؤوس الاموال مع استعدادها للتدخل العسكري المباشر العنيف لتعزيز هذه السيطرة أو حمايتها من أي مهددات تطال استمرارها؛ فالاستثمار في الدول المتخلفة المتسمة اقتصاداتها بتوفر العمالة والمواد الخام الرخيصتين مع شح رأس المال وانخفاض اسعار الأراضي يهيئ للدول الكبرى تحقيق الارباح العالية الفاحشة الضرورية لتعويض تناقص الربح الذى أملته ظروف موضوعية تتمثل في التكلفة العالية للإنتاج في القطاعات الإنتاجية الرأسمالية نتيجة استخدام الماكينات والمعدات المتطورة، ونظم الإنتاج والتكنلوجيا الحديثة. فالأرباح الرأسمالية تنزع للهبوط عند زيادة رأس المال الثابت، الذي يشمل الماكينات والمعدات والمواد الخام (ثابتة، بما فيها المواد الخام هنا، بمعنى أنها لا تتجدد قيمتها التي تنقلها للسلع المنتجة)، علي حساب رأس المال المتغير المتمثل في العمالة التي تتجدد قوة عملها بشكل متواصل مما يجعلها قادرة لإنتاج المزيد من فائض القيمة. فالربح تحققه العمالة وليس راس المال الثابت الذي تؤدي زيادته إلي تقليصها (العمالة) وبالتالي انخفاض معدل الربح. وهكذا، فان الامبريالية = التمدد والتوسع الضروري للرأسمالية الاحتكارية عالميا (العولمة)= الهيمنة على الدول الأخرى باللجوء لكل والوسائل بما فيها العمل العسكري. ان الموقف من مسألة العولمة صار، منذ بداية القرن الحالي، يضيف الى التناقض بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي. فاختلاف الرؤي بين الحزبين كان دائما موجودا نتيجة للنمو المتفاوت للرأسمالية الامريكية ولتباين الرؤى حول كيفية خدمة مصالح راس المال الأمريكي. ولا بد من الإشارة الى أن التناقض بين الحزبين ثانوي، وأن التناقض الأساسي في أمريكا هو بين طبقتين مختلفتين تماماً من ناحية وضعهما في علاقات الإنتاج: طبقة رأسمالية وطبقة تتكون من العمال. ونتيجة لانتشار التقنية الحديثة في جميع مجالات الإنتاج الصناعي والزراعي والخدمي وفي القطاع المالي، حدث تحول شكلي كبير في وضع العامل الأمريكي عن الصورة القديمة للبروليتاري في الدول الصناعية عند ظهور الرأسمالية ورسوخها سياسياً واقتصادياً في القرن التاسع عشر. لكن رغما عن هذا التحول الشكلي، لا زالت غالبية القوي العاملة في أمريكا هم عمال، أي أصحاب عمل مأجور يُستغل لتحقيق فائض القيمة ومن ثم الربح في مجرى عملية إنتاج السلعة سواء في المصانع أو في مجال الخدمات. والصراع بين رأس المال وأصحاب العمل المأجور هو الذي يحدد مآل الواقع الاجتماعي/ الاقتصادي وتعبيره السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية. ان عامل العولمة كان حاضرا دائما وراء ظاهرة ترامب. استطاع ترامب الفوز واحراز رئاسة أمريكا في 2016 بعد ان كسب الناخبين من خلال دعوته لمراجعة سياسة الهجرة الأمريكية وهجومه المركز على سياسات الهوية المفضلة للديمقراطيين وتركيزه، بدلا من ذلك، على حلول للمسألة الاقتصادية التي تشمل إجراءات اقتصادية تكون في صالح أمريكا بتقوية وضعها التنافسي عالميا مثل التخفيضات الضريبية على الشركات الامريكية والإجراءات الحمائية(protectionist measures)، وهكذا، فان سياسيات ترامب استهدفت العولمة من منظور يجعلها أكثر خدمة لوضع أمريكا الاقتصادي في العالم. في فترة رئاسته لأمريكا (2016-2020)، دعا ترامب لإنهاء عملية التراجع في التصنيع (de-industrialization) ، التي تعزى- كما مر ذكره- لارتفاع تكلفة العمالة، وذلك بإعادة الشركات الأمريكية من الخارج. واستهدفت هذه الخطة بصورة خاصة الشركات الكبرى التي تنقل صناعاتها الى الصين (outsourcing to China)؛ وكحافز لاسترجاع الاستثمارات الامريكية الخارجية تم تخفيض كبير لضرائب الأرباح للشركات في أمريكا. وكذلك شملت خطة ترامب التزامه الانسحاب من عدد من الاتفاقيات الدولية والترتيبات في مجالات التجارة العالمية التي بزعمه أتت في غير صالح أمريكا وخاصة في مضمار العجز التجاري وفقدان العمالة ( outsourcing of jobs ). وكان استهداف ترامب لمعاملات أمريكا التجارية مع الصين، يتمثل في دعوته المتواصلة منذ فترة رئاسته الأولى لزيادة الرسوم الجمركية على بعض الواردات منها. لكن هل غاب فعلا عن ترامب ضرورة تصدير راس المال الأمريكي وأهمية التجارة العالمية في هذا المجال. ان ترامب اقتصادي ورجل اعمال له استثمارات واسعة في مجال العقارات داخل وخارج أمريكا تقدر قيمتها الصافية (net worth) بمليارات الدولارات؛ وبهذه التجربة الطويلة في مجال النشاط الاقتصادي، فان ترامب اكثر دربة من ان يدير ظهره لمفهوم التجارة الحرة (بالمعنى المتحيز الذى تدير به الدول الصناعية الكبرى التجارة العالمية). ان ترامب بموقفه الداعي لتحفيز الاستثمار الداخلي يعبر عن قاعدة عريضة في المجتمع الأمريكي قوامها ليس فقط رجال اعمال أمريكيين، بل قطاع عريض من العمال والموظفين الذين فقدوا وظائفهم التي انتقلت الى للصين ودول أخرى مع الشركات الامريكية (يقدر حجم العمالة التي فقدتها أمريكا خلال الفترة 2012-2016 بأكثر من 4 مليون فرصة عمل). ان ترامب في حملته الانتخابية السابقة (2016)، التي أدخلته البيت الأبيض الأمريكي آنذاك، وجه نشاطه الانتخابي بشكل أساس نحو هذه الكتلة الانتخابية المعتبرة، وهكذا استفاد من السخط الشعبي وخاصة في الولايات التي شهدت تراجعاً في التصنيع المعروفة بولايات حزام الصدأ (rust belt states)، وأشهر هذه الولايات تقع في الشمال الشرقي للولايات المتحدة الامريكية. وفى حملت الانتخابية الحالية، فان ترامب يدعو لنفس السياسات التي تجد قبولا من قطاعات شعبية عريضة (خاصة وسط العمال)؛ لكن ترامب لا يبتغى من هذه القاعدة غير توسيع قاعدة كتلته الانتخابية؛ وإن اهتمام ترامب البالغ بالعمال وقضاياهم والتركيز عليهم ككتلة انتخابية لم يكن أكثر من مداهنة بحكم طبيعة الحزب الجمهوري وتوجهاته، وسياساته كحزب يميني معاد للطبقة العاملة. إن سعى ترامب كان دائما النزوع لكسب قاعدة واسعة من الناخبين متضررة من العولمة، وجل ما أراده ترامب هو احراز مكاسب لأمريكا بالعمل في اطار التبادل التجاري العالمي الحالي، وفعلا استطاع، كما ذكرنا أعلاه، تخفيض الضرائب على الشركات الامريكية والغاء بعض الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقيه التجارة الحرة لأميركا الشمالية، (نافتا)- (NAFTA). لم تستقبل دوائر الأولغاركية المالية التي تحكم أمريكا سياسات ترامب بارتياح. وكان الحزب الديمقراطي المنافس للحزب الجمهوري الأشد معاداة لسياسات ترامب. واعتمد الحزب الديمقراطي في معارضة ترامب على جهاز الدولة.
ان ضرورات العولمة، بالمعنى الذى اوردناه أعلاه، حولت الدولة في أمريكا لجهاز بيروقراطي ضخم وصار الحكم فيه يمثل راس المال المالي بعد أن أصبح رأس المال الصناعي تابعاَ له. انتقل مركز ثقل الاقتصاد من مين ستريت (main street) الذى يرمز الى الاقتصاد الحقيقي المنتج (productive)-التجارة والصناعة- الى سوق المال الأمريكي، وول ستريت (wall street) حيث التعامل في أدوات رأس المال المالي. والادلة التجريبية (empirical evidence) تؤكد أن الحزب الديمقراطي صار الاقرب لسوق وول ستريت المالي من فصيل من المحافظين داخل الحزب الجمهوري الذين ظلوا ينادون بدعم القطاعات الإنتاجية لزيادة معدلات الثروة وبالتالي التخلص من الدين العام واستحقاقات الرفاهة الاجتماعية. قَدَّرَ الحزب الديمقراطي أن الإجراءات الحمائية التي يتبناها ترامب تضر بالشركات الكبرى العاملة خارج أمريكا ما جعله يحاربها بشدة. وعلى عكس هذا، فان ترامب يرى أن تدابيره الاقتصادية تخدم الشركات العاملة داخل أمريكا الشيء الذى يحقق توازنا بين النشاط الاستثماري الأمريكي خارجيا وداخليا. لكن الحزب الديمقراطي ( حزب وول ستريت) يريد الإبقاء على الحالة الراهنة، فالنسبة له فان اجراء تخفيض الضرائب لتحفيز الشركات الامريكية على العمل داخل أمريكا لا يقارن بالمزايا (ذات القيمة الاكبر) التي تجنيها الشركات الامريكية من الاستثمار في الدول النامية والفقيرة. فان ما يدفع الشركات الامريكية للعمل خارج البلاد نتيجة انخفاض معدل الربح ، كما ذكرنا أعلاه، وهكذا، فان الاستثمار الداخلي محكوم عليه بان يكون غير مجد (infeasible) مقارنة بالتمدد خارج الحدود (outsourcing). كذلك، فان الحزب الديمقراطي يرى ان إجراءات ترامب حول الحماية تتضرر منها الصناعات الامريكية التي تعتمد بشكل كبير على مكونات انتاج من مواد وآلات صناعية من الصين وأروبا ، بالإضافة الى قطع سلاسل التوريد (supply chains) الذى ينعكس سلبا على الاستثمار. وفى منحى آخر، فان معارضة الحزب الديمقراطي لسياسيات ترامب الخاصة بالعولمة تدور حول موقف الديمقراطيين من سياسيات المناخ. فالحزب الديمقراطي المدفوع بسياسات الهوية، يولى اهتماما كبيرا للنشاط المتعلق بالمناخ وبقضايا النوع والعنصر الخ، ولهذا خصص الحزب الديمقراطي مؤسسات إضافية في الدولة تعتنى بنشاط تلك المجالات مما ساعد في ترهل جهاز الدولة ومضاعفة الصرف عليه. ان معارضة الديمقراطيين لسياسيات ترامب المناخية تمثل أهمية حيوية للديمقراطيين. فتدابير ترامب التي تهدف الى تقليص الانفاق في مجال مكافحة تغير المناخ، تحرم الديمقراطيين من تدفق مئات المليارات من الدولارات يخصصونها لهذا الغرض. المجال الاخر الذى اختاره ترامب لتحقيق أهدافه هو تعزيز انتاج الوقود الأحفوري (fossil fuels) وجعل أمريكا ليس فقط مكتفية ذاتيا من الوقود، بل التصدير للخارج. وكذلك، فيما يخص السياسة المناخية تعهد ترامب بإنهاء العمل بعشرات القوانين والسياسات البيئية التي اتخذتها إدارة جو بايدن. وتجدر الإشارة الى أن ترامب خلال فترة رئاسته السابقة انسحبت أمريكا من "اتفاق باريس للمناخ -2015" الذى يرمى لإبطاء تغير المناخ بالحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. إن محاربة إجراءات ترامب الاقتصادية سَهَّلته نخبة من الانتلجنسيا (بملامح جديدة) مستعينة بخدمات استشارية واسعة. وهذه النخبة، التي تتكون في الغالب من خريجي الجامعات العريقة (Ivy league)، حَوَّلت مؤسسات الدولة لوحدات ذات سطوة عالية تتعارض قراراتها احياناً مع القوانين التي تحكم عملها. وتستمد هذه الإدارات النخبوية قوتها من الطبقة الأولغاركية المالية التي تعود لها في نهاية الأمر السيطرة على جهاز الدولة. واتساع نفوذ المسؤولين في أجهزة الدولة وهيمنتهم على جوانب حياة المواطنين يجرى في علاقة طردية مع ازدياد نفوذ الطبقة الأولغاركية المالية الذى استمدته من علاقتها الوثيقة برأس المال المالي إثر اضمحلال الصناعة في أمريكا. والإنتلجنسيا الجديدة كوليد شرعي للأولغاركية المالية تتمتع بحماية الحزب الديمقراطي وتستره على تجاوزات سطوتها الإدارية والقانونية، وفى المقابل تسدد (الإنتلجنسيا) الثمن بالانحياز ضد الحزب الجمهوري. وعرضا، فانه جدير بالذكر أن الحزب الديمقراطي وتوابعه يطلق عليهم في أمريكا صفة "اليسار"؛ ولكن المصطلحات والمفاهيم مثل "اليسار" و"اليمين" و"الليبرالية" و"الثورة" الخ، أصبحت في أمريكا (وفى العالم في كثير من الأحيان)، لا تحمل المعنى الاجتماعي/التاريخي لها. فوصف الحزب الديمقراطي باليسارية لا علاقة له بأي توجه تقدمي في المجال السياسي لهذا الحزب الذى يغلف خطه السياسي اليميني بأفكار تنتمى لسياسات الهوية التي تتناول قضايا النوع والعنصر. ويبرر بعض المتحذلقين وصف الحزب الديمقراطي ب " اليسارية" بالإشارة الى مستوى محدود من الليبرالية في مجال السياسات الاقتصادية والمالية للحزب الديمقراطي الذى يمثل الأولغاركية المالية الحاكمة. إن تطور الرأسمالية يحتم عليها، نتيجة لانخفاض معدلات أرباح مؤسساتها، التمدد في العالم ولو بالقوة العسكرية والا ماتت. ولهذا ليس هناك ما يدعم نجاح خطة ترامب(لكسب الاصوات الانتخابية)، لتحقيق التوازن المزعوم بين المكونين: الاستثمار الداخلي والخارجي، بالرغم من توافقها مع رغبة معظم الأمريكيين الذين تضرروا من تصدير رؤوس الأموال الامريكية نتيجة تقلص الإنتاج الصناعي وبالتالي فرص العمل. إن الحزب الديمقراطي يقف بشدة مع الشركات الامريكية العالمية وظل يدفع بمعارضة سياسات ترامب لمستوى عالي من الحدة والعدائية للحزب الجمهوري ومرشحه للرئاسة (ترامب). وكمثال لهذه العدائية، لجأ الديمقراطيون لتسخير القانون لجرجرة ترامب واذلاله بإجراءات العزل (impeachment) عندما كان في الحكم وحاليا في المحاكم بشتى التهم وحتى التهديد الخفي لتصفيته... ان الهدف النهائي للأولغاركية المالية الامريكية لا يمكن الا أن يتسق مع الديناميكية السياسية المتحكمة في مسار التطورات السياسية والتي تجعل بالضرورة انكفاء أمريكا وحصرها في مفهوم الدولة القومية وانعزالها عن العالم مسالة مستحيلة من وجهة نظر الاقتصاد السياسي والتاريخ. ولهذا، فان ترامب لا يريد لأمريكا ان تدير ظهرها للتمدد الاستعماري في العالم، فترامب يعتقد بأن الإجراءات التي سوف يتخذها حول السياسة الأمريكية المتعلقة بالتجارة العالمية الخاصة من شأنها تقوية موقف أمريكا في التنافس العالمي؛ كما وعد، تحت شعار جعل "أمريكا عظيمة مرة أخرى" -make America great again- بناء "قبة حديدية" فوق الولايات المتحدة وهى عبارة عن نظام دفاع صاروخي فوق أمريكا مشابه للقبة الحديدية في إسرائيل. وهذا يعنى تعزيز القوة العسكرية لأمريكا الذى بدأه ترامب في فترة رئاسته السابقة اذ زاد من معدلات الانفاق العسكري الذى تجرى زياديه سنويا تلقائيا بشكل ملاحظ. وكذلك تحت زعم أن الفضاء سيصبح الساحة الجديدة للحرب، اتخذ ترامب الخطوات الأولية لإنشاء "قوة فضائية" تضمن هيمنة أمريكا على هذا المجال. وما الحاجة لكل هذه القوة العسكرية الجبارة، الا تقوية النفوذ الاستراتيجي لأمريكا في العالم.
ومع ذلك، ليس ثمة دليل على نجاح الجزء في خطة ترامب الاقتصادية، التي بدا تنفيذها منذ فترة حكمه السابقة، الطامحة لقلب معدل الربح الميال للانخفاض في الشركات العاملة في أمريكا؛ وهذه الخطة هي بالتحديد المسؤولة عن الهجوم الكاسح ضد ترامب الذى يقوده الحزب الديمقراطي، الذى ظل يعمل جاهدا على عزله من الساحة السياسية؛ فالشركات الأمريكية العالمية، التي يمثلها الحزب الديمقراطي، ترى أن تدابير ترامب المتعلقة بالسياسة الاقتصادية تحد من قدرتها على المنافسة وتعظيم أرباحها.
نواصل، وفى الجزء الثاني نستعرض ابعاد تسخير القانون لمعاقبة ترامب في مجرى الصراع الجاري بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وأثر هذا على التناقض الرئيسي في الساحة السياسية الأمريكية: التناقض بين رأس المال والعمالة.
#محمود_محمد_ياسين (هاشتاغ)
Mahmoud_Yassin#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في ذكرى أول مايو وواقع حال الثورة في الدول الفقيرة
-
مؤتمر باريس لدعم السودان والمقاصد الشريرة للإمارات
-
جرائم الجنرال البرهان حاليا وما قبل 23 و21 و19
-
ما زال عقل وزير المالية السوداني الأسبق في أذنيه (2-2)
-
السودان: غندور وجريمة تدمير العمل النقابي
-
الديناميكية السياسية وصعود الجيش للسلطة السياسية واحتكارها (
...
-
السودان: الديناميكية السياسية وصعود الجيش للسلطة السياسية وا
...
-
السودان: ما زال عقل وزير المالية الأسبق في أذنيه
-
السودان: خطاب البرهان الديماغوجي في الخامس من يناير
-
الجيش والحرب ضد أشقياء الجنجويد-مقدمة-(4-4)
-
الجيش السوداني والحرب ضد أشقياء الجنجويد-مقدمة-(3-4)
-
الجيش والحرب ضد أشقياء الجنجويد-مقدمة-(2-4)
-
الجيش السودانى والحرب ضد أشقياء الجنجويد-مقدمة-(1-4)
-
الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي من منظور الماركسيين السودانيين
-
اصطياد مصر بشبكة صندوق النقد الدولي
-
المبادرتان المصرية والاثيوبية ودعم التدخل الخارجي في السودان
-
الاطماع المصرية رافعة استعمار السودان
-
السودان: البشير وضعف المنطق والادعاء الكاذب
-
الرئيس السيسي ودراسات الجدوى
-
مصر: التاريخ يعيد نفسه مأساة
المزيد.....
-
إخفاقات الديمقراطيين تُمكّن ترامب اليميني المتطرف من الفوز ب
...
-
«الديمقراطية»: تعزيز صمود شعبنا ومقاومته، لكسر شوكة العدو، ي
...
-
العدد 578 من جريدة النهج الديمقراطي بالأكشاك
-
المحرر السياسي لطريق الشعب: أكتوبر ثورة العدل والحرية
-
برنامج مهرجان طريق الشعب التاسع
-
تأخير محاكمة 13 مناضل من الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة
...
-
بلاغ صحفي حول الاجتماع الدوري للمكتب السياسي لحزب التقدم وال
...
-
في سلطنة عُمان.. بوليفية تُلهم جيلاً جديدًا من الباحثين والع
...
-
السيسي يعيد تشكيل الخريطة العمرانية بقوة السلاح
-
«سيديكو للأدوية» تمنح العمال إجازة إجبارية حتى الخميس المقبل
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|