|
صناعة الأصنام
جمال الهنداوي
الحوار المتمدن-العدد: 8028 - 2024 / 7 / 4 - 04:49
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بتكثيف وتبسيط -بعيداً جداً عن الإخلال-يفصل المفكر الجزائري الكبير مالك بن نبي بين ثلاثة مركبات تؤلف عالم الفرد والمجتمع ويفرزها كـ:"أشياء" و "أشخاص" و"أفكار".وينظر إلى أن الفرد يمر في مراحل نموه المبكرة بهذه المراحل الثلاث المتلاحقة متعرفاً فيها أولاً على "الأشياء" ثم يتعرف بعدها على "الأشخاص" ثم يتعرف أخيراً على "الأفكار"، وبنفس التعاقب تمر المجتمعات في تطوراتها الحضارية بهذه المراحل.وحين يهرم الفرد يمر بحالة نكوص عقلي وتقهقر فكري فيتراجع وعيه عائداً بتعاقب معكوس ليمر في نفس الطريق الذي سلكه ابتداءً, وكذلك تفعل الحضارات حين تجتازها الأيام وتشيخ. والمتمعن في الحالة العضال للاستعصائية التي تضرب بأطناب دول المنطقة والمشكل الكياني الشامل الذي يمسك بتلابيب الأمة والمستهدف لوجودها يصل إلى قناعة أكيدة وراسخة في أنَّ مجتمعاتنا تمر بمرحلة رجراجة ومتقلقلة مابين مرحلتي الأشياء والأشخاص في حالة نكوص وتراجع من نقطة لم تصل إلى مرحلة الأفكار مطلقاً. وهذا الإشكال التاريخي ساهم في تشكيل وعي جمعي مأزوم بعقلية ملتبسة أدت إلى الافتقار إلى القدرة على التفريق ما بين المبادئ التي يضعها المجتمع كمثل عليا وما بين الأشخاص أو الرموز الإنسانية التي تجسدها-اوعلى الأصح العناوين التي تدعي تمثيلها- وعلى هذا الالتباس الأخطر تم تخليق تقسيم المجتمع الى طبقة من الكهنوت السياسي المحتكر للشعارات التي تؤطر علاقة الأمة بمنتهيات قيمها ومطامحها العليا..وجموع أقرب إلى القطيع تدور في حلقات دوامية تهتف للزعيم الأوحد .. وهذا التصنيم شكل تاريخنا كتأريخ أفراد بالمطلق وليس تاريخ شعوب ومجتمعات، وربط كل فصوله وتحولاته بأسماء عضال لخلفاء وحكام ولافتتان الشعوب بزعماء نجحوا في تسويق أمجاد وهمية وانتصارات كلامية سبيلاً وأسلوباً للحكم,وإعاشة الناس في حمى تفاؤلات زائفة عن الزعيم الملهم الخارق لقوانين الطبيعة والقادر على صنع الأمجاد واجتراح المعجزات من اللاشيء والذي سيؤم إخوانه الزعماء العرب وجموع المؤمنين في الصلاة بالمسجد الأقصى بعد ان يفرغ من رمي الأعداء في البحر , ولكن الكيف والمتى تعتبر هنا من التساؤلات المبنية على سوء ظن وطوية لا تمر بخاطر إلا كل من هو مشكوك في انتماءاته أو ولائه للثوابت العربية العظمى. ولقد أدى هذا الإحلال إلى إلحاق أضرار كبيرة بالأفكار والمثل العليا للمجتمع عندما تصدى لتبنيها أشخاص لم يكونوا أهلاً لحملها. والأكثر سوءاً من خلال إلحاق القيمة أو المثال الأعلى للمجتمع بحكام وزعماء انتحلوا خطاباً سياسياً وإعلامياً متماهياً مع هذه القيمة أو تلك الفكرة بغض النظر عن السلوكيات والمواقف التي اتخذتها تلك الأنظمة وكان لها وقع تدميري ومأساوي على الأفكار المتبناة ذاتها. إنَّ كل هذا التأليه والزعيق والاختزال المنظم للوطن في النظام السياسي الحاكم ومن ثمَّ اختزال هذا النظام السياسي في شخص الحاكم الفرد لم تؤد إلا إلى سلسلة من الصدمات التي عانت منها الشعوب العربية وإلى مراكمة للنتائج السلبية التي أحدثتها حالات التجييش العاطفي الممنهج والتي تسببت في هزائم وآلام ونكسات وتراجعات واستلابات للعقل واحتجاز الشعوب في حالات وجد وهمية عبر الترويج لأوهام التقدم والأماني والأحلام وكل التخيلات التي أدت إلى جعل الأمة تبدو أقرب إلى قارب في عاصفة ويعاني من وطأة بوصلة فاقدة للسداد وتشير باستمرار إلى الحاكم كوجهة أحادية ومنفردة للخلاص. إنَّ طريق الخلاص يبدأ من فصل الأفكار والقيم عن الأشخاص وعدم تحويل ميراثهم وممارساتهم واجتهاداتهم إلى عقيدة سياسية ونموذج لابد أن نحتذيه حذو النعل للنعل ونسير عليه خطوة بخطوة أو شبراً بشبر وذراعاً بذراع وخصوصاً أنَّ الشعوب ما زالت والى اليوم تدفع ثمناً باهظاً لامتناع هذه الرموز والزعماء-بالذات- عن إفساح المجال أمام التداول الديمقراطي والسلمي للسلطة والافراط في سياسة قمع جميع أشكال المعارضة بانتظام واغراق وملء السجون بسجناء الضمير والفكر الآخر ومصادرة الحريات وتقويض حقوق المواطنة . إنَّ تأليه الحاكم لم يكن بالتأكيد اختراعاً عربياً.ويجب أن نقر بأنه ليس مقتصراً على شعوب المنطقة..ولكن الاستمرارية الشديدة والمتقادمة والمقاومة لأية محاولة للفطام من هذه الزندقة السياسية المؤسطرة للحاكم في الثقافة العربية , حولت هذه الشخصانية المفرطة الى اشتراط حتمي لمستلزمات الحكم في النظام العربي وتكريسها كأسلوب عبادة مستمرة ودائمة لزعيم خالد عصي على التغيير.
#جمال_الهنداوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تكوين، تنوير.. أم إعتام
-
التكفير كثقافة استئصالية
-
مطر وسماء صافية
-
-سفرة- تونس
-
دراما.. في رمضان
-
(بسطية)..لوغوس هوب
-
المثقف الطائفي
-
مقعد في مهرجان
-
ثقافة الكوارث
-
جائزة للإبداع.. وللمبدعين
-
فلسطين 1- إسرائيل صفر
-
السلطان أردوغان
-
غزة..تذبح على الهواء
-
الامارات.. واللعب بنار- ايفر غرين-
-
اعلام حسب التساهيل
-
ثقافة للنسيان
-
حديث القنصلية
-
راس العتيبي مقابل راس بن سلمان
-
جدار لصورة الشهيد
-
اعتذار البياتي..هل يكفي ؟؟
المزيد.....
-
الكنائس المصرية تصدر بيانا بعد حديث السيسي عن تهجير الفلسطين
...
-
وصول المحتجزين الإسرائيليين أربيل يهود وغادي موزيس إلى خان ي
...
-
سرايا القدس تبث فيديو للأسيرة أربيل يهود قبيل إطلاق سراحها
-
سرايا القدس تنشر مشاهد للأسيرين -جادي موزيس- و-أربيل يهود- ق
...
-
قائد الثورة الاسلامية يزور مرقد الإمام الخميني (ره)
-
خطيب المسجد الأقصى يؤكد قوة الأخوة والتلاحم بين الشعبين الجز
...
-
القوى الوطنية والاسلامية في طوباس تعلن غدا الخميس اضرابا شام
...
-
البابا فرنسيس يكتب عن العراق: من المستحيل تخيله بلا مسيحيين
...
-
حركة الجهاد الاسلامي: ندين المجزرة الوحشية التي ارتكبها العد
...
-
البوندستاغ يوافق على طلب المعارضة المسيحية حول تشديد سياسة ا
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|