|
ذاكرة امرأة عراقية / أم جليل ومحنة السؤال
شذى الشبيبي
الحوار المتمدن-العدد: 1766 - 2006 / 12 / 16 - 10:58
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
فقدت زوجها وأعدموا ثلاثة من أولادها ومنعوها من إقامة العزاء على الرابع لأنه من (العصاة) (أم جليل) وهي تتحدث عن ذكرياتها ونضالات ترى إنها لا تستحق الذكر بالمقارنة بما تسمعه كل يوم منذ سقوط النظام. كان لها خمسة أبناء اصغرهم الآن أصبح جداً وله أحفاد، هي لا تتذكر باليوم والشهر بل وضعت تاريخاً خاصاً بها مقروناً بوقائع لن تنساها تقول: حينما انحلت الجبهة الوطنية وأصبح الشيوعيون على المذبح كان الذعر يملأ بيتي ورأسي، أبنائي الخمسة تحت لواء الحزب الشيوعي ولطالما فتحت بيتي لمناسباتهم.. كنت لا أدري بأمر من فيهم احتار، أول من اعتقل (عباس) و(محسن) بقيت مثل (بلاع الموس) إن سألت عنهما فقد يكون ذلك حجة لجر الاخرين وإن سكت فسأموت قهراً، أدركت يومها أن ما سمي بالجبهة الوطنية كان كذبة وضحكاً على الذقون، ومع ذلك دبرت قرشين بعد بيع بعض أغراض البيت كي يستطيع ولداي (هادي) و(احمد) مغادرة المدينة ويرتاح بالي عليهما وبقي الصغير أمره سهلاً، بعدها (شديت حزامي) وخضت دهاليز الأمن وطريق السجون، لا أدري من اين أبدأ وأنا مدخنة في ذلك الوقت صرت أدخن ثلاث باكيتات وجفاني النوم، كان الرعب مثل الينابيع يحيط بنا من كل جانب. بعد الواسطات والمبالغ الكبيرة التي دفعناها استطعنا معرفة بعض الأخبار عن ولديّ المسجونين، ولأني خشيت على زوجي أن يذهب كنت خائفة أن يلحقوه بولديه ويعتقلوه توكلت على الله ورسوله وذهبت إليهما كنت مستعدة لكل شيء لأن هؤلاء الأنذال بأيديهم رقاب أولادي وأصعب شيء أن تتعامل مع من لا يملك ذمة ولا ضمير. تستطرد جليستي في حديثها لتقول: في ليلتها دهمنا رجال الأمن وفتشوا البيت لم تنج منهم حتى أغراض المطبخ وكيس الرز والسكر فتحوا حتى علبة (الدهن) وبحركات استفزازية مستهترة، كان زوجي وبناتي يمسكون بي كي لا أفلت بكلمة وما زال ابني الصغير (جليل) بخطر في كل ليلة يقضيها في بيت، استمر الحال هكذا أكثر من أسبوع مداهمات ليلية يأخذون الأب معهم ولا يعود إلا بعد منتصف الليل.. يعود بعدها صاغراً أصفر الوجه ولا يكلم أحداً. كنت أحس بمعاناته وعذابه، وكأنه بواد آخر، حتى كن ذلك اليوم المشؤوم، حيث اختفى (جليل) وضاع خبره بين البيوت الكثيرة التي كان يتردد عليها، وكانت النكبة كبيرة، حيث كنت أعرف ولدي وعمره (14) سنة ليس له خبرة بالعمل السياسي ولا يعرف معنى النضال الحقيقي وأساليب هؤلاء الحقراء خسيسة. وكان كل خوفي أن يعترف بأشياء تسبب العذاب والمصائب للآخرين. وحينما سألت (أم جليل) بأن عمر ابنها صغير على النضال وما علاقته بالسياسة أجابت: كل الذي أعرفه أنه كان ومعه مجموعة من أقرانه مهمتهم إلصاق المناشير وتوزيعها والكتابة على الجدران في المنطقة. وذات مرة جاؤا فرحين يلهثون نشوة لأنهم تمكنوا من إدخال المنشورات إلى بيت المحافظ المحاط بالحرس واعتبروا ذلك انتصاراً كبيراً. كان غياب الابن الصغير واختفاؤه الضربة القاضية لوالده. فلم يطل به العمر وتوفي بعد أسبوع ليترك الهم والحزن لي، لم يحتمل أن يفرغ بيته فجأة بعد إن كان ابناؤه الخمسة يملأونه بمرحهم وضحكهم (ولمتهم مع أصدقائهم)، أصبح البيت موحشاً علي أنا وبناتي، حتى في أيام العزاء، كنت أحملق في وجوه النساء المعزيات أتمنى لو إن ابني يدخل علي بزي امرأة.. بعدها قطعت الأمل وحسبته بعداد الميتين، بعد ثمانية أشهر أبلغونا بإعدام (عباس) و(محسن) وحينما ذهبت إليهم وطالبت بشهادة الوفاة وجهوا لي الشتائم والإهانات وهددوني. وكنت يومها قد فقدت أعصابي، ولم أشعر بالخوف نهائياً. وكان لدي الاستعداد لافتراس من يقف بوجهي كالذئبة، واخيراً امسك بي اثنان منهم لاقتيادي إلى الباب الخارجي وأنا أسبهم والعنهم، وإذا بثالث يضربني (جلاق) رفع عباءتي فالتفت العباءة برجله كالحية انشغل رفاقه به فانتهزت الفرصة ورميت العباءة وأنا أركض واصرخ واستنجد بالناس. وبعد عام ونصف اتصل بنا رجل من المسيب، قال إنه يريد مقابلتي بخصوص مسألة عائلية، توقعت أن يكون حاملاً لرسائل من ابنائي المسافرين، وذهبت مسرعة هناك فاجأني بأخبار من ابني (جليل) وأنه بصحة جيدة وأنه في تكريت ولا يستطيع الوصول إلينا.. وبعد ذلك بأشهر افتعلنا سفرة إلى سامراء وهناك التقيت بولدي حيث حكى لي كيف استطاع هو ورفاقه الإفلات من الأمن بعد مطاردة عنيفة أصيب فيها أحدهم وتمكن الباقون من الفرار إلى بغداد، هناك ذهبوا إلى بيت أحد الأصدقاء وبعد قضاء يومين شعروا إنهم ضيوف ثقلاء ولم يكن معهم ما يكفي فاضطروا لبيع ساعاتهم وتفرقوا بين المحافظات الشمالية وكان اتجاهه نحو الموصل. تواصل (أم جليل): شبع ولدي قهراً هناك ولا يملك فّوت يومه ولا مأوى بعدها سافر إلى السليمانية وهناك لجأ لدى صاحب مطعم، استأمنه ورعاه كغريب وأخذه إلى بيته وفي النهار يعمل في المطعم، وحينما بدأ صاحب المطعم يكثر من أسئلته عن وضعه وأهله، استشعر خوفاً وذهب إلى قرية نائية في الشمال. هناك التقى بالمصادفة بإحدى النساء من مدينته كانت معلمة وفرت لنفس الأسباب فاحتضنته واهتمت بأمره وساعدته في إيجاد عمل له في مطعم أيضاً. تصمت جليستي لحظات مطرقة برأسها وكأنها تبحث عن زاوية في الرأس الأشيب لتلقي مجاميع العذاب والتعسف الذي أثقل كاهلها لسنوات.. تقول حينما رأيت ولدي ابن الرابعة عشرة لم أعرفه وكأنه شخص آخر فقد كبر عشرين عاماً.. كئيباً شارد الذهن يدخن بكثرة.. لم نتكلم كثيراً فقد كان يقرأ عيني وأقرأ عينيه. نصحته أن يبقى في مكانه حتى نجد له مخرجاً بإذن الله، وخلال تلك الفترة لم نعرف أي شيء عن أخوته الذين غادروا المدينة ولم يصلنا أي خبر منهم إن كانوا داخل العراق أو خارجه. قاتل الله الزمن الأسود الذي ابتلع الأبناء وشتت العوائل ومزق الأعمار فكان الكل يفتقد الكل.. الكل يسأل عن الكل.. والرعب قد أخرس جميع الأفواه.. تقول (أم جليل): مر أكثر من عامين وأنا استقصي أخبار (هادي) و(محمد) وكان ملاذي الوحيد زيارة مراقد أهل البيت والأئمة الطاهرين أدعو الله في صلاتي أن يثلج صدري واسمع ما يريح بالي عن أبنائي المتبقين وذات يوم سمعنا بأن ابني محمد استشهد في كردستان وتأكد لنا ذلك حينما استدعوني في الأمن، وأثناء التحقيق أبلغوني بأن ابني عاصٍ وخائن، وكان يحارب الدولة مع العصاة (البيشمركه) ومنعوني من إقامة مجلس فاتحة أو عزاء وأجبروني على توقيع تعهد بعدم إخفاء أي معلومة أعرفها عن أبنائي. لا أعرف كيف يمكن لأم قتل ثلاثة من ابنائها أن تمسك دموعها وتحبس عاطفتها وإن أجبرت نفسها على النسيان فماذا تنسى؟؟ اختلط كلام محدثتي المسنة ببكاء خافت ولم أعد أفهم سوى إنها بدأت تسترجع ذكرياتها وتحاكي أبناءها وكأنها دفنتهم للتو، تتذكر تفاصيل منذ ولادتهم وكيف كان احدهم يحبو وسقط في حفرة المجاري أو الآخر ضرب أخاه بـ(الحصوة) وحبسه والده في السطح، تتذكر شجاراتهم الطفولية بسبب (الدعبل) و(الطوبة)، التفافهم حول (صينية الدولمة) ترثي شبابهم الذبيح على طاولة البيت الدموية والحكم الجائر. تفاصيل صغيرة تعيش في الذاكرة تعلن عن أعوام المخاض العسير التي لم تجن منها (أم جليل) وغيرها إلا الدموع والفقر والأمراض بدءاً بالضغط والسكر والقلب إلى فقدان البصر.
#شذى_الشبيبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ذاكرة امرأة عراقية
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|