|
اللاهوتيون وعلي والوردي
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 8025 - 2024 / 7 / 1 - 18:50
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مقولة لأحد الكتّاب لا أتذكرها بالنص، لكنني اتذكرها بالمعنى، يقول صاحبها أن الكتاب الذي لا يثير جدلا، ليس له أي قيمة معرفية أو مبدئية، ويتأسف على المجهود الذي صرفه المؤلف في سبيله، وأضاع سنوات من عمره. المقولة هذه لا تنطبق على علي الوردي، فالرجل كلّ ما كتب وسطره يراعه، أثار جدلا واحتداما، ليس من قبل فحسب، بل إلى اليوم هذا يثار الجدل ذاته؛ وبين الفينة والفينة، يظهر من يُريد الانتقاص من الرجل بغية اسقاطه ثقافيا وفكريا، وحتى اجتماعيا، وعزله عن المجتمع السّوي؛ ذلك لأنّ الوردي مختلف عنهم، إذ لا يقرب إلى مناطقهم الفكرية والايقانية، وإذا قرب فهو بهدف تفنيد تلك الأفكار، حيث يراها لا تنسجم و المنطق الصحيح، ولا مع الفلسفة الحقّة. يعتقد الوردي أن كل ما لا يخدم الانسان ويحفظ كيانه، ووجوده وكينوته، ولا يعينه عن همومه اليومية، ولا يسهم معه في معيشته، أو رفع الحيف عنه، هذا الأمر لا يستحق الاهتمام، ولا يحق له أن يتبع تلك الافكار الطوباوية، ويرفع من شأن كل من يتبناها، كونها أشياء تبعده عن الطريق الذي يروم السير فيه، ليصل بالتالي الى سُبل العيش الكريم. لقد أنتقد الوردي كثير من القضايا التاريخية والاعتقادية، وبعض السفسطات، وعالجها بموضوعية وبعلمية تامة، معتقدا ومنتقدا بذات الوقت، قضايا تاريخية كثيرة دخلت الى موروثنا الفكري والديني والاجتماعي، وهي بعيدة كل البُعد عن الحقيقة، اشياء وضعها أناس بهدف الحصول على المكسب المادي، والتقرّب إلى السلطان، كما ذكرنا هذا في مقال لنا بعنوان "نتانة التاريخ وصناعة الأقزام". وليس هذا ما انتقده الوردي فحسب، بل هناك قضايا كثيرة، تُعد من المسكوت عنه ولا يمكن التقرب إليها، كونها محظورة، ومناطق تشوبها الخطورة والمحاذير؛ لكن الوردي بشجاعته اقتحم عرينها، وخاض في مياهها، على اعتباره مثقفا من الطراز الأول، ورسالة المثقف ايضاح الغامض، وكشف الالتباس، وتوضيح الملتبس. وحتما أنه بذلك ستتضرر مصالح أناس، وبالخصوص تجار الكلام، ومروجيّ الأفكار النمطية، والقضايا الأيديولوجية، فثارت ثائرة الكثير الغاضب على عالم الاجتماع العراقي، نتيجة طرحه المباشر ونقده اللاذع بلا مراوغة، لأنّ الوردي لا يكتب بغموض وبضبابية، كما يكتب معظم الفلاسفة، كسارتر وهيدغر وهيغل وقبلهم كانط. كأنَّ علي الوردي أنتبه لمن أرادوا أن يسيئوا إليه، وأساؤوا بالفعل، فكان يرد على البعض منهم، ذلك بكل طبعة جديدة من كل كتاب من كتبه يصدر للتو. ومن تلك الكتب كتابه "مهزلة العقل البشري" فالرجل أنتقد بنقده اللاذع كثير من القضايا التي وجدها مخالفة للعقل، وحرص على أن ينوه المثقفين وغيرهم بل وحتى الناس البسطاء، من مخاطر تلك القضايا التي دُست في التاريخ، وبنت عليها عقائد وقيّم، حيث أخذها النفعيون بلا تمحيص ولا كتاب منير؛ لذا أتهموا الوردي بالانحراف، وبالمروق على الدين، وأنه تبنى أفكار الغرب ويريد أن يسوقها في مجتمعاتنا العربية والاسلامية؛ حتى نرى أن الوردي في سنواته الأخيرة حُجم، بل وانعدم دوره، ولم تسلط عليه الأضواء، واللقاءات الصحفية، حيث أرعب السلطة بأفكاره التقدمية والتنويرية. فكان يرد عليهم ويفحمهم، ويطالبهم بالرد على أفكاره، فلم يرد إلّا القليل منهم، وأكثر ردودهم كانت على اللغة التي كان يستخدمها، والمنطق الذي يتبناه، ويكتب على ضوئه إذ كان الرجل يكتب بسلاسة وبلا تكلفة، فاتهموه بأنّه لا يجيد اللغة، وتركوا القضايا المصيرية والجدلية معلقة على حبال الزمن، واكتفوا بالأخطاء اللغوية فحسب، وطفقوا يحاسبوه عليها. يقول الوردي بالرد على من يطعن بعقيدته بالنبي محمد "صل الله عليه وآله وسلم": "هناك فرق كبير بين عقيدتي بالنبي، وعقيدة هؤلاء المتزمتين من رجال الدين. إنهم قد تأثروا بأفكار المترفين وأخذوا يفسرون التاريخ في ضوء ما أملاه عليهم السلاطين، وبذلوا لهم الأموال فيه. فهم يعتقدون أنّ محمدا كان يحب قريشا ويفضلهم على سائر القبائل، وأنّ قريشا كانت قبيلة صالحة، قد أكملت فيها جميع خصال الشرف والفضيلة، ولم يكن يعيبها في أيام الجاهلية سوى عبادة الأوثان، قد أرسل الله محمدا لتخليصها من هذا العيب، ولتسويدها على الناس". (راجع: علي الوردي، مهزلة العقل البشري، ص 353 منشورات دار دجلة والفرات، بغداد العراق الطبعة الثانية لسنة 2013. ويضيف الوردي في الصفحة التي بعدها بقوله: "دأب رجال الدين عندنا على اعتبار قومهم خير الأقوام. ولهذا نراهم لا يعرفون من دنياهم سوى تمجيد عقائد قومهم وثلب عقائد الآخرين. فهم يرون الفضيلة في التعصب الطائفي أو القومي أو القبلي. والفاضل في نظرهم هو الذي يدافع عن طائفته في الحق وبالباطل، وينصر أخاه ظالما ومظلوما" (راجع المصدر نفسه ص 354) لهذا اعتبروا الوردي خصمهم العنيد، بدل أن يردوا عليه بأناة ورفق، ومنطق سليم، لأنّ البحث العلمي يحتاج المرونة والتدقيق، واخذ الامور برحابة صدر وبلا تعصب، لأنّ منطق التعصب لا يصل بنا إلّا للتعصب ذاته، لكن الأمور سارت على هذا المسار. تعوّد هؤلاء أنّه ليس هناك من يجرؤ فينتقد أفكارهم، أنهم وحدهم من يمتلكون الحقيقة؛ لكنّ عالم الاجتماع استطاع أن ينتقد يفند ما يراه يستحق النقد، ويجب تفنيده؛ ذلك على ضوء البحث العلمي، والمنطق السليم، فراح يقتنص الفرصة تلو الأخرى، حاملا يراعه ويكتب بكل ثقة وبصريح العبارة. وطبيعي فأنّ هذه الجرأة تحتاج إلى قلب قوي ورأي شجاع، وبالمقابل لابد أن يجد مَن يثور ضده، ويتهمه بشتى التهم حتى يستطيع أن يخرسه، كما كان يرى الكثير من منتقديه. إذًن، نستطيع القول بأنّ الدكتور علي الوردي كان ناقد حقيقي، ومفنّد كبير للأفكار الدخيلة، والمبادئ القديمة وللرؤى البالية. لهذا تعرّض الرجل للنقد والانتقاد، هو الآخر، وهي قضية طبيعية في نظريات الأفكار، وعالم الكتابة والبحث، وكلٌ يرى من منظاره الخاص، بأنه يمتلك جزءا كبيرا من الحقيقة، ويروم أن يوصله للناس عموما.
#داود_السلمان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العمامة والغناء
-
نتانة التاريخ وصناعة الأقزام
-
(قصائد عارية) وموقف الجواهري
-
الأسباب النفسية والروحية لصناعة المبدع نص (نبوءة الجداول)– أ
...
-
قصة (الحمار) فضح لحقيقة الإنسان الفاشل
-
مكسيم جوركي والأسئلة الكبرى الوجودية
-
عمامة الجواهري وشيوعية السياب
-
فيصل الياسري شبع من: المال والجاه والنساء
-
صدمة التهكم في نص (مذكرات على أوراق محترقة) للشاعر مازن جميل
...
-
علي داخل.. والأداء المميّز
-
التساؤلات المحضة عند الشاعر عادل قاسم
-
التموسق في نصوص (عمى مؤقت) للشاعرة فلونا عبد الوهاب
-
ممانعة التفاصيل في نص (ولن أخبرني) للشاعر صادق باقر
-
مديات البوح في (أضرحة الورد)
-
إرهاصات البوح عند علي حسن الفواز
-
منطق العاطفة والخيال الخصب لدى الشاعرة وجدان وحيد شلال
-
جنان السعدي حين يصوغ المعاني السامية
-
مبدعون عرفتهم عن كثب (2) وليد حسين
-
أحمد خلف.. يحرث في أرض الكتابة ويصنع الجمال
-
تأمّل في (لَم يَكُنْ عارِيًا ذلك الظِّلُّ) للشاعر حمزة فيصل
...
المزيد.....
-
الجنة الدولية للصليب الاحمر تتسلم الاسير الاسرائيلي كيث سيغا
...
-
الجنة الدولية للصليب الاحمر في خانيونس تتسلم الاسير الثاني
-
الجنة الدولية للصليب الاحمر في خانيونس تتسلم الاسير الاسرائي
...
-
إطلاق نار على قوات إسرائيلية في سوريا وجبهة المقاومة الإسلام
...
-
تردد قناة طيور الجنة الجديد بجودة HD على جميع الأقمار الصناع
...
-
بدء احتفالات الذكرى الـ46 لانتصار الثورة الاسلامية في ايران
...
-
40 ألفا يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
40 ألفاً يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
تفاصيل قانون تمليك اليهود في الضفة
-
حرس الثورة الاسلامية: اسماء قادة القسام الشهداء تبث الرعب بق
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|