أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نورالدين الشريف الحراق - بين الحقيقة والإنصاف ... حالة إفلاس















المزيد.....


بين الحقيقة والإنصاف ... حالة إفلاس


نورالدين الشريف الحراق

الحوار المتمدن-العدد: 1765 - 2006 / 12 / 15 - 10:56
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


شهد المغرب، منذ تسعينيات القرن الماضي، وتيرة متسارعة من الإجراءات، على مستوى تدبير العديد من قضايا الشأن العام، في أبعادها المسطرية والتنظيمية على وجه التحديد، وذلك بالأساس ارتباطا مع مستلزمات التفاعل الإيجابي مع سلسلة من المستجدات أملتها مقتضيات السياسة الدولية المتبنية لترسانة من المعايير النموذجية الصارمة المحدِّدة لمجموعة من الضوابط الإجرائية المتعين توفرها في طبيعة اشتغال آليات الحياة السياسية في كافة أقطار المعمور، إثر هيمنة القطب الليبيرالي الأحادي الجانب على العالم.
وفي إطار تلك التفاعلات التي فرضها جدول أعمال السياق الدولي، في صياغته الجديدة لخارطة العلاقات الأممية، نحو ضرورة التزام المنظومات السياسية باحترام حقوق الإنسان وبالإنضباط لقواعد اللعبة الديموقراطية، من الإحتكام لصناديق الإقتراع والفصل بين السلط والتطبيق الفعلي للدساتير والقوانين المنسجمة في روحها ومضامينها مع المواثيق والمعاهدات، وبموازاة مع العديد من الخرجات الإعلامية الرسمية المواكبة لبعض الخطابات والسلوكات المنتمية للأعراف السلطوية المحلية، تم تجريف معسكر تازمامارت السيء الذكر، والإفراج عن المعتقلين السياسيين المحاكمين في ملفات المعارضة، بشقيها اليساري والإسلاموي، وتعويض ضحايا الإختطاف والتعذيب والإعتقال القسري في مختلف المراكز السرية، طوال سنوات الرصاص، معنويا وماديا، وتأسيس لجنة للإنصاف والمصالحة بهدف إعادة الإعتبار لتلك الشريحة المنكوبة من المواطنين، والسماح بعودة اللاجئين السياسيين من المنافي، وإحداث وزارة ثم مجلس إستشاري لحقوق الإنسان، وإقرار العديد من الإجراءات والمساطير القانونية الكفيلة بضمان العدالة في المحاكمات، والإعتراف بالبعد الأمازيغي للهوية الوطنية، وتخفيف الخناق على حرية التعبير وإبداء الرأي في وسائل الإعلام المكتوبة والمنشورات، شريطة احترام ضوابط بعض الرموز والهيئات، وتقديم التراخيص لإنشاء العديد من الجمعيات المحلية والإقليمية والجهوية والوطنية، من منطلق ضرورة إشراك فعاليات المجتمع المدني في العملية التنموية، في إطار تصور تكاملي يأخذ بعين الإعتبار معطيات اللامركزية والتسيير الذاتي على المستوى الجهوي.
وعلى المستوى الإقتصادي، تم الشروع بكثافة في خوصصة القطاعات العمومية، وفق تصورات حاجيات السوق، قصد الإدخار في الإحتياطي النقدي لميزانية الدولة، وتهيء المناخ لإنفتاح ليبيرالي على الرأسمال الدولي من شأنه تنشيط الإستهلاك والمساهمة في امتصاص الحجم الهائل من العاطلين، في إطار هيكلة عصرية تشكل بورصة الدارالبيضاء عمودها الفقري وتعتمد على آخر تقنيات المعلوميات، بفضل شبكة متطورة من الإتصالات.
وبالنسبة للمؤسسة المخزنية، بثقلها التاريخي وبحضورها القوي في مختلف أشكال الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية والدينية والثقافية في البلاد، فإن تلك المبادرات كانت ضرورية، في سياق إقتصادي ينذر بوقوع الكارثة، من جراء سوء التخطيط واختلال التوازنات، للتخفيف من حدة الضغوطات الخارجية الناجمة عن تقارير المنظمات الحقوقية العالمية المستنفرة لتنديد الرأي العام الدولي تجاه قضايا الإختطافات والإغتيالات والمحاكمات الصورية التي لا تتعارف مع أدنى المواثيق الدولية في مجال الحق والقانون، في أبعادها المؤسساتية والرمزية.
ومن الواضح كذلك أن تلك الإجراءات النوعية كانت ملحة، مع اقتراب محطة التوارث السلالي على سدة الحكم، لرفع الإحتقان عن الواقع المغربي المتميز، منذ بداية الستينيات، بقبضة حديدية على الحريات، وبغياب أي دور تمثيلي للشعب في دوائر القرار، عبر مؤسسات منتخبة بشكل ديموقراطي، من منظور تهيء الأرضية لتداول سلمي للسلطة عبر الأجيال يضمن البقاء والاستمرارية للإختيارات السياسية والإقتصادية القائمة، في ظل غياب أي تأطير فعال للمواطنين من طرف أحزاب أو نقابات تنهل من معين الثقافة الديموقراطية الحقة، وتباشرها في تنظيماتها أولا، وتمتلك النضج والنزاهة وحنكة الممارسة، في بعدها العملي والأخلاقي، وتتوفر على برامج عمل واضحة المعالم ومنزهة عن المصالح الضيقة، حيث الوعي بالمسؤولية الوطنية، والإلتزام من أجل الدفاع عن المبادىء، وفق تصورات تهدف إلى خدمة الصالح العام.
بالإضافة إلى أن الإنعكاسات الكارثية المترتبة عن تطبيق سياسات إعادة التقويم الهيكلي في البلاد، منذ بداية الثمانينيات، وفق توصيات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي الرامية إلى ضبط وتيرة إنتاج منظومة الإقتصاد المحلي الهشة مع متطلبات الرأسمال المتراكم في الدول الصناعية الغربية، وفق معايير التقسيم الدولي للعمل، والتي نجمت عنها توترات خطيرة هددت في الصميم التوازن القائم حول مفهومي السلم والإجماع الوطني ( انتفاضات الجماهير في سنوات 1981 و1984 و1990 ) قد شكلت في ذلك السياق ضغطا داخليا مضاعفا دفع المنظومة المخزنية إلى التلويح الظرفي بورقة «الإنتقال الديموقراطي»، من باب امتصاص التوثب العارم نحو الحلول الجذرية.
وبالرغم من المؤاخذات العديدة التي بالإمكان جردها حيال طبيعة معالجة عموم تلك الملفات التي تم التعامل معها بكيفية أحادية الجانب لا تنفذ إلى عمق إشكالية علاقة المواطن بالسلطة، ولا تحدد مسؤوليات الواقع المتردي بشكل صريح وشفاف، من منظور تقصي الحقائق الموضوعية والمحاسبة على جميع الإنتهاكات وما يرافقها من تبذير للثروات، في إطار حوار وطني شامل وحقيقي، فإن تلك المبادرات التي باشرتها السلطات الرسمية في البلاد قد خلقت على العموم دينامية جديدة تميزت على وجه الخصوص، في أبعادها المسطرية والتنظيمية دائما، بإخراج مدونة الأسرة للوجود، في سياق أمني متوتر، عقب جرائم 16 ماي 2003 الإرهابية، وبإعادة هيكلة الحقل الديني، وبإصدار قانون جديد للأحزاب، وبالتوقيع على قانون للشغل من طرف النقابات وهيئة أرباب المقاولات، تحت رعاية السلطات الوصية.
ولقد رافق حينها تشكيل الفريق الوزاري لحكومة «التناوب التوافقي»، برئاسة الكاتب العام السابق لحزب الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية، السيد عبد الرحمن اليوسفي، بعيد التعديلات الدستورية الطفيفة لعام 1996، بصيغتيها الأولى والثانية، إنطباع عام، في بداية الأمر، في مناخ اجتماعي يتسم بالتفاؤل الحذر، باعتباره مؤشرا حقيقيا تسعى من خلاله السلطات العليا في البلاد لإعطاء نقطة الإنطلاق لمسلسل «انتقال ديموقراطي» نوعي وجديد في الحياة السياسية المغربية تضطلع فيه أحزاب المعارضة، للمرة الثانية في مرحلة ما بعد الإستقلال، بدورها في تدبير الشأن العام.
إلا أن عمل تلك الحكومة سرعان ما تعرض للعديد من العراقيل، لا بل للشلل التام في بعض الأحيان، وذلك راجع بالأساس لكون قرار صياغتها قد مُنح من طرف المؤسسة المخزنية، وليس نابعا من صناديق الإقتراع، ضمن ضوابط لعبة سياسية واضحة المعالم من شأنها السماح للهيئات الحزبية الإضطلاع بمسؤولية اتخاذ القرار وبالتطبيق الفعلي لتصوراتها على المستوى السياسي والإقتصادي والإجتماعي والثقافي.
ذلك أنه من المتعارف عليه في أدبيات العلوم السياسية أن وظيفة الأحزاب تكمن بالأساس في استقطاب المواطنين والدفاع عن مصالحم وتأطيرهم وفق قناعات واختيارات إيديولوجية معينة تدعمها سلسلة من التدابير الإجرائية بغية تحقيق مجموعة من الأهداف الإستراتيجية على المستويات المحلية والجهوية والوطنية، والغاية القصوى من وراء تلك الفعاليات تتمثل، في نهاية المطاف، في الحصول على أغلبية الأصوات في الإنتخابات التشريعية، من خلال اللجوء لصناديق الإقتراع، بغرض تسيير جهاز تنفيذي فعال ومسؤول يباشر بتطبيق تصوراته وفق توجهات برنامجه الإنتخابي، في إطار فصل حقيقي بين السلط أمام هيئة برلمانية مهيكلة وفق التحالفات والتوافقات المتاحة على الساحة السياسية في المرحلة ومن شأنها مراقبة عمله وضبط منجزاته وفق آليات ديموقراطية تستند إلى ضمانات دستورية تخولها صلاحيات واسعة للمكاشفة والمساءلة.
إلا أن حكومة «التناوب التوافقي» تلك، بأسماءها ذات العيار «النضالي» الكبير في ميدان العمل السياسي الوطني، طوال سنوات الرصاص، وعلى غرار التشكيلات الوزارية السابقة المكونة من الأحزاب الإدارية التقليدية المجبولة على تزكية التعليمات، قد استُدرجت في سيرورة غير طبيعية قبلت بموجبها التفويض الغير المباشر لمهمة «تدبير الأزمة»، وفق استراتيجية ظرفية تخدم المنظومة المخزنية بالأساس، ومن شأنها تمرير إختيارات الطبقة المتنفذة وإضفاء نوع من «المصداقية التشاركية» على ديموقراطية الواجهة المعنية بالإستهلاك الخارجي.
ولقد تعرضت الأحزاب المستفيدة من الحقائب الوزارية في تلك الحكومة والمنضوية تحت لواء «الكتلة الوطنية»، من جراء تلك المفارقة، إلى العديد من الإنتقادات من طرف التنظيمات والأطر الملتزمة بخطها النضالي، مما أعاد إلى الواجهة مجموعة من التساؤلات حول طبيعة العمل السياسي الحزبي في المغرب، حيث تنفرد القيادات والزعامات «التاريخية» باتخاذ القرارات الحاسمة في القضايا الحساسة المطروحة من دون اللجوء إلى المساطير التنظيمية الداخلية، من استشارة للقواعد واللجوء إلى إستفتاء في الموضوع، حسب أصول الثقافة والممارسة الديموقراطية الحقة.
ولقد ساهم اندلاع تلك الأزمة إلى حد كبير في إعادة النقاش حول واقع التنظيمات الحزبية المحلية، حيث تفاقم الإصطدام بين الأطر الحزبية الشابة الملتفة حول مقتضيات إنتماءاتها الإيديولوجية بشكل ملتزم وجيل «الحرس القديم» بسلوكياته النمطية المهادنة لمراكز القرار، لحد التواطؤ في الكثير من الأحيان، تحت ذريعة تفعيل أية فرصة للمشاركة بهدف الإصلاح، على اعتبار الحدود المتاحة، ضمن المشهد السياسي، في ظل اختلال الموازين لصالح القهر السلطوي.
ولعل التكثلات الحثيثة التي يعرفها المعسكر اليساري، في الآونة الأخيرة، بغرض لملمة صفوفه وضخ دماء جديدة في صفوف هيئاته ومناضليه، بعدما أُفرغ الصف «الديموقراطي» التقليدي من محتواه، بسبب ألمعيته في دروب النفعية والوصولية والإنتهازية، ومراوغاته في الدهاريز، ومضارباته في الكواليس، وحبكه للدسائس، وتدبيجه للمغالطات، وتجييشه للعواطف، واستغفاله للجموع، لكسب الأصوات في مهازل الصناديق السوداء، لدليل واضح على بروز وعي سياسي جديد يسعى إلى القطيعة مع خطاطة التهافت المهيمنة على البنيات السائدة، وإلى تجاوز أنماط المقاربات الإنبطاحية المغلَّفة في خرافة الكمال اللدني «لأقطاب النضال» المقتسمين لغنائم المؤامرة، في عبق الولائم، وذلك بغية صياغة بدائل نظرية وعملية مغايرة ترصد تحولات الواقع الموضوعي وتتفاعل مع القوى السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية المتداخلة في إنتاجه، من منظور التأسيس لثقافة نضالية أصيلة تستفيد من أخطاء الماضي.
وبعد تنظيم إنتخابات تشريعية سليمة نوعيا، حسب تقديرات المراقبين الدوليين، في عـام 2002، بمشاركة كثيفة للأحزاب التقليدية منها والإدارية، إثر تغاضي أجهزة الدولة الأمنية والإستخباراتية عن التدخل فيها نسبيا بشكل مكشوف، وقع الحد من اندفاع التوقعات بخصوص مآل عملية «الإنتقال الديموقراطي» بمجملها، إذ لم يترتب عنها تشكيل فريق وزاري سياسي بوزير أول نابع من أحزاب الأغلبية، بل حسمت الأمور لصالح تعيين السيد إدريس جطو على رأس تلك الحكومة، وهو الغائب عن معترك الحياة الحزبية، باعتباره صمام أمان تحكم من خلاله السلطات العليا في البلاد قبضتها على ملفات تدبير الشأن العام المتداخلة مع مصالحها الخاصة، تفاديا لآية انزلاقات من شأنها ملامسة الإمتيازات أو مساءلتها عند صياغة البرامج الإقتصادية على وجه الخصوص.
ولقد ضرب تعيين ذلك الوزير التقنوقراطي، خارج الترتيبات المعتمدة في آليات الحياة السياسية الديموقراطية الحقة، مفهوم «التناوب التوافقي» في الصميم وأفرغه من فلسفته ومن محتواه، ولعله كان رسالة واضحة للجميع مفادها أن فكرة الإنفتاح الديموقراطي لم تكن سوى ورقة ظرفية أملتها أنساق طارئة استنفذت معها شروط تداولها بعدما خلقت أجواء ملائمة بغرض التمهيد «للإنتقال العهدي»، على شاكلة ما حدث بعيد الحصول على الإستقلال، حيث تعيدنا دوائر التاريخ لأواخر الخمسينيات بالضبط حيث استُثمرت مشاركة قيادة الإتحاد الوطني للقوات الشعبية، في شخص السيد عبد الله إبراهيم، على رأس الحكومة لتدبير مرحلة حرجة من الغليان الشعبي ومن الإضطرابات بين مختلف التيارات والفصائل المنبثقة عن الحركة الوطنية، بغرض التهيء للتحكم في زمام السلطة بشكل أقوى وبدون منازع، بشكل تتقوى معه صلاحيات الدوائر الأمنية ويغيب عنه احترام حقوق الإنسان.
وفي هذا السياق وجب التنبيه إلى المفارقات الكبيرة التي يشهدها الواقع السياسي المغربي في مرحلة « العهد الجديد»، بحيث مازال يمارس الإعتقال التعسفي والتعذيب والمحاكمات الصورية، تحت ذريعة قانون محاربة الإرهاب، وحيث لا يتم احترام حق التجمع في الأماكن العمومية، وحيث تتعرض المظاهرات السلمية لحملات القمع والتنكيل، مع تصاعد فظيع في العدد الإجمالي لملفات الأفراد المتابعين بتهمة المس بأمن الدولة إلى حدود 2500 ملف في 5 سنوات، بينما لم يتجاوز عدد تلك الملفات نفسها سقف 1200 ملف، خلال 40 سنة من العهد السابق.
والواقع أن هذه الوقائع والمعطيات هي ملازمة بالضرورة لغياب هيكلة واضحة المعالم للحياة السياسية المغربية، حيث يمنح الدستور صلاحيات واسعة للسلطات العليا في البلاد من دون آية إمكانيات للمساءلة والمكاشفة، وفق مساطير وضعت في سياق توافق حقيقي بين كافة القوى الموجودة على الساحة تهدف إلى خدمة الصالح العام وتستند بالأساس إلى ضبط صلاحيات السلطات في إطار من المسؤولية والشفافية.
والحال أنه من المستحيل في الوقت الراهن التحدث عن وجود فعلي لدولة الحق والقانون في المغرب، إذ ليست هناك البتة آية إمكانية للتعايش بين المفاهيم الكونية والكلية لحقوق الإنسان، باعتباره القيمة الأسمى في الكون، بغض النظر عن انتماءه العرقي أو الديني أو السياسي، ومراعاة التجزيء الدوغمائي الذي تتعرض له حسب مواصفات محلية مرتبطة في صيرورتها بمعطيات ثقافية نسبية في نهاية الأمر.
كما أن الإعتبارات القسرية للعديد من الطقوس المستنبطة من ديباجة الدستور والمرتبطة بعقلية التقديس والهالة حيال من يحكم بدل أن يسود، تجعل مجال المعترك السياسي حكرا على آليات أسطورية بعيدة كل البعد عما يباشره الوعي البشري المعاصر في مجال العلوم السياسية، في ظل التدبير الديموقراطي لقضايا الشأن العام، على اعتبار أن الجهات التي تمارس السلطة الحقيقية في اتخاذ القرار التنفيذي، من مرحلة إعداد البرامج السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية، إلى غاية تطبيقها الفعلي، يتعين عليها التعرض لكشف الحساب، أمام اللجان والهيئات المنتخبة المختصة، كما هو متعارف عليه دوليا، وبالأحرى في حالة استفرادها بجني ثمار تلك البرامج، على حساب شرائح واسعة من المجتمع صارت تعاني من التفقير المتزايد من جراء تلك السياسات، في الوقت الذي تتعرض فيه للتطبيق الصارم لمقتضيات القانون بموجب أقل المخالفات.
وبموازاة مع ذلك، فإن الإنفتاح الليبيرالي العشوائي المتبع في البلاد والذي يضخ المزيد من الريع للهولدينغات المحلية الضخمة من صنف «أومنيوم شمال إفريقيا» بتروستاتها العملاقة المحتكرة لكافة الأنشطة الإقتصادية، من قطاعات بنكية وإعلامية وفلاحية إلى الصيد في أعالي البحار، في سياق تغيب عنه الشفافية والمنافسة الشريفة، قد قلص من إمكانيات الإستفادة العقلانية من الإستثمار الأجنبي المطالِب بالضمانات القانونية في المبادلات التجارية والمعاملات المصرفية، وألحق الضرر الكبير بالمقاولات الصغرى والمتوسطة المحلية المثقلة بإكراهات البيروقراطية وبأعباء الضرائب المتفاوتة النسب والمواصفات، تبعا لحساسيات التداخل بين السلطة والفاعلين الإقتصاديين.
ومن جراء التمركز الحاد والمتعاظم للرأسمال في أيدي باترونا اللوبيات، بحكم تقاطع مصالحها مع نفوذ العديد من المسؤولين ومن الشخصيات المنتمية لهيئات ومؤسسات وإدارات ومصالح رسمية، فقد تعرضت الطبقة الشغيلة، المتضررة أصلا من جحافل اليد العاملة الإحتياطية النازحة إلى المدن، بفعل انعدام الأفق في البوادي، من جراء ارتفاع فوائد القروض ومضاربات الملاكين الكبار، إلى المزيد من البؤس والتهميش، في غياب أي تطبيق حقيقي لقانون الشغل ولا أية ضمانات لممارسة الحقوق النقابية.
وفي خضم التجاور الرهيب بين أحزمة البؤس والغنى الفاحش الذي تتقاسمه شريحة لقيطة من الكومبرادوريين المتنفذين في دوائر السلطة والمراكمين لرؤوس الأموال بكيفية غير مشروعة، عبر تبييض مداخيل المخدرات والتواطؤ في إختلاس موارد الدولة، من خلال الترامي على العقارات وتزوير المستندات، أدى سوء التدبير إلى تدني المستوى المعيشي لكافة الشرائح الإجتماعية، وإلى تهالك بنيات التكافل الإجتماعي التقليدية بين عموم الشعب، وإلى استفحال ظاهرة الفقر، بينما يستشري الفساد في كافة المرافق والمصالح العمومية، الإدارية والأمنية والعسكرية والقضائية والإقتصادية والثقافية، وبطالة حاملي الشواهد من الجامعات والمعاهد العليا في تزايد، وحصيلة ضحايا الغرق في مغامرت الهجرة السرية في ارتفاع، وتفشي جميع أشكال الجريمة في اضطراد.
ولعل التدابير السطحية التي أطلقتها منظمة الأمم المتحدة، بضغط من الدوائر المالية الدولية، لمعالجة التداعيات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية الخطيرة لتلك السياسات الليبيرالية المتوحشة على توازن البنيات الطبقية في كافة بلدان العالم الثالث، والتي أودت إلى اضطرابات عميقة هددت بهز العديد من الأنظمة، بعد عشريتين من تطبيقها، من صنف شعار «محاربة الفقر»، لا تعدو أن تكون سوى حلولا ديماغوجية ومغالطات تذر الرماد على العيون ولا تتطرق للأسباب الحقيقية للمعضلة.
ذلك أن الفقر الذي يطال عموم الشعب المغربي هو إفراز طبيعي وموضوعي للإختيارات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية للخطاطة الإقطاعية المتنفذة والمستفيد الإستراتيجي الوحيد من الإختلالات البنيوية القارة في توزيع الثروات، تحت ذريعة إكراهات المديونية وتقلبات مواسم الحصاد، ليس من وراءه سوى شبكات الرعاية والإمتيازات المحمية بصكوك القرابة والمصاهرات والمتغلغلة في جميع القطاعات.
وعليه، فإن ظاهرة الفقر التي جعلت المغرب يتقهقر إلى المراتب الدنيا بين أقطار المعمور، وفق آخر التصنيفات الرسمية للهيئات والمنظمات الدولية، بالرغم من مؤهلاته الطبيعية وحيوية عنصره البشري، يتعين معالجتها انطلاقا من منظور شامل ومتكامل ينطوي على مراجعة جذرية لتلك السياسات، على جميع مستويات البرمجة والتخطيط في صرف التمويل وضبط الموازنات، بحس وطني مسؤول وحقيقي، لا على نمط المساعدات الظرفية المقدمة للاجئين في المخيمات، وفق الطقوس الدورية والمناسبات.



#نورالدين_الشريف_الحراق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رهانات الإصلاح الدستوري في المغرب
- العولمة والمسألة الديموقراطية


المزيد.....




- -لقاء يرمز لالتزام إسبانيا تجاه فلسطين-.. أول اجتماع حكومي د ...
- كيف أصبحت موزة فناً يُباع بالملايين
- بيسكوف: لم نبلغ واشنطن مسبقا بإطلاق صاروخ أوريشنيك لكن كان ه ...
- هل ينجو نتنياهو وغالانت من الاعتقال؟
- أوليانوف يدعو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من امتثال ...
- السيسي يجتمع بقيادات الجيش المصري ويوجه عدة رسائل: لا تغتروا ...
- -يوم عنيف-.. 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية على ...
- نتنياهو: لن أعترف بقرار محكمة لاهاي ضدي
- مساعدة بايدن: الرعب يدب في أمريكا!
- نتانياهو: كيف سينجو من العدالة؟


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - نورالدين الشريف الحراق - بين الحقيقة والإنصاف ... حالة إفلاس