غالب المسعودي
(Galb Masudi)
الحوار المتمدن-العدد: 8023 - 2024 / 6 / 29 - 17:43
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
"الميتومانيا الميتافيزيقية" تشير إلى ميل أو إدمان الشخص على صياغة وسرد قصص أو أساطير ذات طابع ميتافيزيقي أو خارق للطبيعة. قد يكون هذا الميل مدفوعًا برغبة في التعامل مع المجهول أو الغامض في الحياة, ان ظاهرة الرغبة المفرطة في إنشاء نظريات وأفكار فلسفية جديدة دون وجود أساس واقعي أو منطقي قوي يدعمه الميل إلى الخوض في المجهول والتأمل في المسائل الميتافيزيقية بشكل مبالغ فيه،دون الاعتماد على البراهين العلمية والحقائق الموضوعية, تمثل ظاهرة غير عقلانية, نقدت هذه الظاهرة من قبل الفلاسفة والمفكرين معتبرين أنها تقود إلى إنتاج أفكار وتصورات فلسفية لا تتسم بالواقعية والبرهنة الكافية, ويرى هؤلاء أن الفلسفة الحقيقية يجب أن تعتمد على التحليل المنطقي والاستدلال العقلاني، بدلا من الغوص في المجهول والتخمين العقيم, في المقابل، يرى آخرون أن الميتومانيا الفلسفية هي جزء لا يتجزأ من عملية البحث الفلسفي، والتي تتطلب الجرأة والتخيل والتأمل في القضايا الجوهرية للوجود والمعرفة على اعتبار ان الكثير من المعرفة هي تصورات تجريدية غير موضوعية, لكن المهم هو الحفاظ على التوازن بين هذا التأمل والتأسيس على البراهين والحقائق الموضوعية, هناك العديد من الأمثلة التاريخية على ما يُسمى "الميتومانيا الفلسفية, الفلسفة المثالية الألمانية في القرن التاسع عشر, فلاسفة مثل هيغل وشوبنهاور ابتكروا أنظمة فلسفية شاملة ومعقدة تفسر الوجود والمعرفة والطبيعة، لكن تُنتقد هذه الأنظمة بأنها انطلقت من افتراضات ميتافيزيقية مجردة أكثر من كونها مبنية على البحث التجريبي, الوجودية الفرنسية في القرن العشرين, فلاسفة مثل سارتر وكامو أنتجوا أعمالًا فلسفية غارقة في التأمل الشخصي والمشاعر الوجودية، متجاوزين الموضوعية العلمية في كثير من الأحيان. البراغماتية الأمريكية، فلاسفة مثل ويليام جيمس ركزوا على النظر للأفكار والمفاهيم من خلال تأثيرها العملي والنفعي، معتمدين النقاشات المجردة في الفلسفة التحليلية في القرن العشرين، لقد انتقد هذا الاتجاه وعرف بأنه انخراط في "لعبة اللغة" بتحليلات منطقية دقيقة، ولكن قليلة الصلة بالواقع المعاش، هذه بعض الأمثلة البارزة على ما قد يُنظر إليه على أنه ميتومانيا فلسفية في التاريخ الفلسفي. ولكن، هناك من يرى أن هذا الجانب التأملي والمجرد للفلسفة هو جزء لا يتجزأ من الممارسة الفلسفية، هناك بعض الجوانب الإيجابية والمفيدة للميتومانيا الفلسفية، على الرغم من الانتقادات الموجهة إليها:
دور المعرفة
البحث في الأسئلة الكبرى حول الوجود والمعرفة والغاية من الحياة، على الرغم من كونها مجردة، يمكن أن تثري الفهم الإنساني للعالم والحياة بشكل عام.
تنمية التفكير الإبداعي
الانخراط في تأملات الميتومانيا يمكن أن يحفز التخيل والابتكار الفكري، مما قد يؤدي إلى ظهور أفكار جديدة ومبتكرة.
تطوير المنهجية الفلسفية
عملية البحث الفلسفي، حتى وإن بدأت من افتراضات مجردة، قد تؤدي إلى تطوير أساليب تحليلية وتأملية قيمة في الفكر الفلسفي.
الإسهام في النقاش الفكري
حتى إذا لم تكن النظريات الفلسفية المجردة قابلة للتطبيق المباشر، فإنها تُسهم في إثراء الحوار والنقاش الفكري والثقافي بشكل عام.
التنبؤ بالتطورات المستقبلية
بعض الأفكار الميتومانية المجردة قد تتنبأ بتطورات مستقبلية في العلوم أو المجتمع، مما يجعلها ذات قيمة استشرافية.
على الرغم من أن الميتومانيا الفلسفية تتعامل مع قضايا مجردة، إلا أنها يمكن أن تساهم في حل المشكلات العملية التي يواجها المجتمع بعدة طرق:
إثارة التأمل النقدي
من خلال طرح أسئلة جوهرية حول الواقع والحياة، يمكن للميتومانيا الفلسفية أن تحفز التفكير النقدي والتأمل العميق في القضايا الاجتماعية والسياسية، مما قد يؤدي إلى رؤى جديدة لحلها.
توفير المنهجية التحليلية
الأدوات المنطقية والتحليلية التي تستخدمها الفلسفة يمكن تطبيقها على المشكلات العملية، من خلال تفكيك المسائل المعقدة وتحليلها بطريقة منظمة.
استنباط المبادئ الأخلاقية
التأمل الفلسفي في قضايا الأخلاق والعدالة والمسؤولية الاجتماعية يمكن أن يوفر إطارًا مرجعيًا لصياغة سياسات وقرارات عملية للتعامل مع المشكلات الاجتماعية.
الربط بين المعرفة والتطبيق
مناقشة الأسئلة الجوهرية حول الوجود والمعرفة والغاية قد تساعد في ربط المعرفة النظرية بالتطبيقات العملية، مما يعزز التكامل بين الفكر والممارسة.
التنبؤ بالتحديات المستقبلية
بعض الأفكار الفلسفية المجردة قد تساعد في التنبؤ بالتحديات المجتمعية المستقبلية، مثل تطورات التكنولوجيا أو التغيرات البيئية، وبالتالي المساعدة في إعداد الحلول المناسبة.
لا ينبغي أن تحل الميتومانيا الفلسفية محل البحث التطبيقي والعلمي، ولكن إدماجها ضمن نهج متكامل للمعرفة والتطبيق يمكن أن يثري الجهود المبذولة لمعالجة المشكلات الملموسة في المجتمع.
الميتومانيا الفلسفية والحاضرية الوجودية
التأمل في الميتومانيا والوعي الحاضري الوجودي المتكامل قد يؤدي إلى تبني المقاربة المتوازنة بين التأمل النقدي والعمل الفعال. الأفكار الفلسفية التجريدية و
الميتومانيا تشجع على التأمل النقدي والاستفسار المنهجي، وليس مجرد الادعاءات السفسطائية. فهي تدفع للتساؤل عن الافتراضات والمسلمات الكامنة وراء المواقف والممارسات. التشكيك والتأمل النقدي في حد ذاته ليس سفسطائيًا. بل إنه أساسي لعملية البحث والتعلم والتطوير الفكري والمعرفي، الميتومانيا تهدف إلى الوصول إلى فهم أعمق وأكثر شمولية للواقع، وليس مجرد إنتاج الجدل العقيم. فهي تسعى للكشف عن الحقائق والبناء على المعرفة. عندما يتم توظيف الميتومانيا بشكل متوازن ومنضبط ضمن إطار فلسفي شامل، فإنها تُسهم في تطوير مقاربات فلسفية متكاملة للتعامل مع التحديات المجتمعية، وليس الوقوع في السفسطائية. بالتالي، لا ينبغي اعتبار الميتومانيا خرفًا فلسفيًا، بل على العكس، يمكن اعتبارها أداة نقدية مهمة عندما تكون جزءًا من مقاربة فلسفية متوازنة وشاملة. تطوير معايير موضوعية بديلة هي خطوة مهمة لتطوير منظور الميتومانيا بشكل أكثر اكتمالاً. هناك عدة خطوات عملية ومحددة يمكن للميتومانيا اتخاذها لتطوير معايير الموضوعية البديلة وجعلها قابلة للتطبيق:
مشروع البيانات المفتوحة في علوم الحياة (Open Science Framework)
هذا المشروع قام بتطوير مجموعة من المعايير والممارسات لزيادة الشفافية والقابلية للتكرار في البحوث العلمية. تم تطبيق هذه المعايير في مجموعة من الأبحاث التجريبية والسريرية، وأظهرت نتائج إيجابية.
دراسة المظاهر الحسية للمعرفة العلمية (Sensory Aspects of Scientific Knowledge)
هذه الدراسة نشرت في عام 2021 واستخدمت نهج ميتوماني لفحص الجوانب الحسية والتجريبية في عملية إنتاج المعرفة، أثبتت هذه الدراسة أن دمج الملاحظات الحسية يمكن أن يعزز الموضوعية في البحوث العلمية.
مبادرة الأبحاث المفتوحة في علوم الأعصاب (Open Neuroscience Initiative)
هذه المبادرة تسعى إلى تطوير معايير وممارسات لزيادة الشفافية والمسؤولية في بحوث علوم الأعصاب، تم تطبيق بعض هذه المعايير في مجموعة من الدراسات التجريبية، مما أدى إلى نتائج واعدة.
على الرغم من كونها محدودة حتى الآن، هذه الأمثلة توضح إمكانية تطبيق معايير الموضوعية البديلة في البحوث الفعلية. ومع تطور هذا المجال وزيادة التجارب العملية، سنرى المزيد من الأمثلة الناجحة في المستقبل. هناك عدة طرق يمكن للباحثين الفلاسفة التغلب على التحديات في تطبيق معايير الميتومانيا:
تكييف المعايير الميتومانية
التعرف على الخصائص الفريدة للبحث الفلسفي وتكييف معايير الميتومانيا لتناسبها
إيجاد توازن بين المتطلبات الموضوعية والمنهجيات التأملية التقليدية للفلسفة
التعاون متعدد التخصصات
إقامة تعاون وتكامل مع مجالات أخرى ذات صلة مثل علم النفس المعرفي وعلوم الأعصاب، الاستفادة من المناهج والأدوات المتطورة في هذه المجالات لإثراء البحث الفلسفي.
الاستفادة من التطورات التكنولوجية
تبني التقنيات الحديثة في مجال تحليل البيانات وتطوير نماذج رقمية، استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لمساعدة في إجراء التحليلات والاستنتاجات الفلسفية.
إدراج معايير الميتومانيا في مناهج التعليم الفلسفي
تشجيع الباحثين الفلاسفة على التدريب المستمر على المنهجيات البحثية الحديثة تتطلب هذه الجهود تعاونًا وجهودًا مستمرة من الباحثين الفلاسفة، ولكنها ستمكنهم من تطبيق معايير الموضوعية البديلة بشكل أكثر فعالية في مجالهم.
المعنى الحرفي للميتومانية لا ينطبق مع البحث العلمي الفلسفي اذ تشير الميتومانية الى الاختلاق الميتافيزيقي للحقائق واختلاقها، المصطلح "ميتومانية" يرتبط أساسًا بالاختلاق أو الابتكار الخيالي للحقائق أو الحكايات الميتافيزيقية المختلقة. هناك تناقض بين المعنى الحرفي للميتومانية كاختلاق للحقائق، وبين المبادئ العملية للمعايير الميتومانية الفلسفية التي تهدف إلى تحقيق الموضوعية والنزاهة في البحث العلمي. هذا التناقض يجب أن يؤخذ في الاعتبار عند استخدام هذا المصطلح في سياقات البحث الأكاديمي. تمثل الحاضرية الوجودية تحدي للتوجهات الميتومانية بطرق فعالة وناجحة كونها تتحلى بالأصالة والمصداقية فلسفيا وواقعيا ولا وجود امثلة حية تعاضد المعايير الميتومانية,وهذا يراه البعض تحديًا للنهج الميتوماني الذي يركز على المعايير التحليلية الميتومانية وغير الموضوعية. فالحاضريون الوجوديون يرفضون الادعاءات الموضوعية الخيالية ويؤكدون على الخبرة الحية للفرد وسياقه التاريخي والثقافي.
مع ذلك، قد يكون هناك إمكانية للتكامل من خلال التركيز على الوجود البشري كنقطة انطلاق، ثم محاولة تطوير مبادئ وحقائق كلية تنبثق من هذا الأساس الوجودي الى الميتومانيا. ان محاولة الانتقال من الحاضرية الوجودية إلى الميتومانية بطريقة عضوية عملية غير ممكنة اذ ان الحاضرية الوجودية تركز على الوجود الحي للإنسان في الزمان والمكان، بينما الميتومانية التحليلية تهتم بالبحث عن الحقائق والمبادئ في الكلية والأبدية، إيجاد التوازن بينهما ليس بالأمر السهل، كما أن إدماج التحليل المفاهيمي والمنطقي في الإطار الحاضري الوجودي قد يساعد على تجاوز بعض الانتقادات الموجهة إلى كل منهما بشكل منفرد، لكن التحليل الموضوعي يمكن أن يضفي الدقة والصرامة على البحث الوجودي. إنها محاولة طموحة قد تفتح آفاقًا جديدة في الفكر الفلسفي، ولكن تنفيذها في الواقع سيكون تحديًا كبيرًا يتطلب جهدًا وإبداعًا فلسفيًا كبيرين وجمعا بين نقيضين لا يمكن أن تأكيده بشكل قاطع وتوقع إمكانية نجاحه، ولكن مسالة جديرة بالنظر والبحث.
ان محاولة العثور على أمثلة تاريخية أو معاصرة لجمع الحاضرية الوجودية والميتومانية التحليلية في منهج فلسفي واحد سيكون عملية صعبة على الرغم من انفتاح الحاضرية الوجودية على كل الفلسفات لكن اختلاف المنهج يفضي الى تعارضات. الميتومانيا الفلسفية تنطوي على الحاجة الإنسانية العميقة لإيجاد معنى وهدف خلف الظواهر الطبيعية والخبرة الإنسانية. هذه الرغبة تجعل البشر ينخرطون في البحث الفلسفي العميق لتفسير الأصول والأغراض والمصائر الكونية.
#غالب_المسعودي (هاشتاغ)
Galb__Masudi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟