|
نظرية المؤامرة، هل أن الدماغ البشري مصمم لينخرط فيها آليا ؟
ياسين خضراوي
كاتب وخبير لغوي تونسي
الحوار المتمدن-العدد: 8019 - 2024 / 6 / 25 - 16:11
المحور:
الطب , والعلوم
مساء الخير جميعاً، "البشر لم يصعدوا للفضاء ولم ينزلوا على سطح القمر، والأمريكان صوروا المشهد في هوليوود، الأرض مسطحة وناسا تخفي الحقيقة عن البشرية، المنطقة 51 يحتفظون فيها بمخلوقات فضائية ويجرون عليها تجارب، الاحتباس الحراري كذبة كبرى، لقاحات فيروس كورونا تحتوي على شريحة إلكترونية، مايكل جاكسون ما زال حي، أسامة بن لادن ما زال حي ويعيش في أمريكا، الماسونية تسيطر على العالم"، إلخ إلخ... هذه تقريباً أشهر نظريات المؤامرة العالمية والمحلية التي من المؤكد أنك سمعت بها أو صدقتها في مرحلة ما من حياتك.
السؤال المهم هنا والذي أجاب عليه المجتمع العلمي: لماذا يعشق جزء كبير من البشرية نظرية المؤامرة؟ وهل أن الدماغ البشري، بكل التعقيدات التي فيه، هو في النهاية مصمم نوعا ما ليقبلها ويصدق بها وينخرط فيها بصفة آلية؟
حسب دراسة أمريكية أجريت أواخر سنة 2014، وجدوا أن حوالي نصف الأمريكيين يؤمنون بنظرية المؤامرة أو على الأقل صدقوها في مرحلة ما في حياتهم، ونسبة كبيرة منهم ما زالوا حتى اللحظة يعتقدون بقوة بها. بعد ذللك، يوم 16 أبريل 2018، نُشرت دراسة في مجلة علم النفس المعرفي التطبيقي وجدت أن الإجابة على هذا السؤال المعقد تكمن في كيفية تعامل أدمغتنا مع الاحتمالات، والمسؤول هنا هو التحيز المعرفي العام المرتبط بالاحتمالات الضعيفة لأمر ما، حيث يميل الكثير من الناس للاعتقاد أكثر في التفسيرات التآمرية للأحداث عندما تقل احتمالية حدوثها بالفعل حسب رأيهم وتفكيرهم.
نظرية المؤامرة هنا تقدم تفسيراً بديلاً للأحداث وكيفية ظهور الأشياء في العالم من حولك. نفس الدراسة تقول أن السبب الذي يجعل الناس ينخرطون في هذا التفكير هو أساساً خطأ في كيفية معالجة الاحتمالات، بمعنى أن الانخراط في التصديق بنظرية المؤامرة يجعلنا نفهم نوعاً من الشعور بعدم اليقين. عندما يكون البشر غير متأكدين من أمر ما ربما غريب، يميلون أكثر لتصديق قصص مختلقة تعطي تفسيراً مختلفاً، تجعلهم يشعرون بأنهم ضحايا وبأنهم مواطنون بسطاء هناك من هو أعلى منهم يحرك خيوط اللعبة ويتلاعب بهم. عدد كبير من الناس اليوم مثلاً ما زالوا غير مصدقين قصة مقتل كينيدي، ومصدقين أن أوباما مسلم وأن هناك مجموعة سرية ماسونية تسيطر على العالم. هذه الأفكار تُصدق من طرف الكثير من الناس لأنها تسمح لهم بشرح سبب كون العالم من حولهم ليس كما يحبونه، وتخضع لسيطرة قوى خفية تسيطر عليهم وهم الضحايا المغرر بهم.
البحث عن أنماط معلومة
أمر آخر، الكثير من الناس كانوا يؤمنون أن القمر يحمل وجه امرأة ولحد سنوات قريبة كانت هذه الشائعة منتشرة. يقال أن القمر على شكل وجه امرأة وناسا تخفي الأمر عن البشرية، وحسب دراسة ألمانية نشرت سنة 2018، فإن دماغنا هو الذي يبحث عن الأنماط عندما يرى أمراً غير مؤكدا في حقيقة الأمر. كجزء من تطورنا كبشر، تبرمجنا لنتعرف على العوامل البيئية مثل ذوبان الجليد الذي يشير إلى قدوم الربيع أو الظهور المفاجئ لقبيلة منافسة تظهر على أرضنا. يساعدنا هذا على فهم العالم نوعاً ما، ويفسر دماغنا بالتالي، مجموعة عشوائية من الأحداث ويحاول وحده البحث عن خيط يربطها جميعاً مع بعض، وبالنسبة لدماغنا نحن كبشر، فإن نظرية المؤامرة هي الأفضل والأكثر قابلية للفهم والتصديق مقارنة بسلسلة من الأحداث غير المترابطة وغير المفهومة. الدماغ هو الذي يتآمر هنا وحده، آلياً يخلق القصة ويخلق الرابط ويرسخ الفكرة في ذهنك حتى تصدقها.
السمات الشخصية
من ناحية أخرى، قد يكون الأشخاص الذين لديهم سمات شخصية معينة أكثر عرضة لنظريات المؤامرة، إحدى هذه السمات هي الشك، يعني أن أولئك الذين يشعرون بالقلق بطبيعتهم من الآخرين ولا يثقون في الشخصيات ذات السلطة، قد يكونون أكثر عرضة للاشتباه في الدوافع الخفية وراء الأحداث المعقدة. يمكن لنظريات المؤامرة أن تقدم تفسيرًا واضحًا ظاهريًا، مما يلبي حاجة أولئك الذين يكرهون الغموض ويسعون إلى فهم واضح للعالم إلى اليقين. بالإضافة إلى ذلك، فإن الأشخاص الذين ينظرون إلى العالم كمكان تهديد قد يكونون أكثر تقبلاً للنظريات التي تقترح أن مجموعات قوية تعمل ضدهم، مما يوفر إحساسًا بالسيطرة في عالم يبدو فوضويًا.
الإنتماء للمجموعة
في دراسة أخرى نشرتها الجمعية الأمريكية لعلم النفس سنة 2023، وجدوا أنه لطالما عاش في مجموعات وقبائل ومجتمعات، نحن نحب أن ننتمي لمجموعة ما، "خلية أحباء طيور اللقلق"، "رابطة مشجعي الهيدروجين الأخضر"، أي شيء يبدو تافهاً، فالبشر يحبون الدخول فيه ويشعرون بأنهم ضمن مجموعة يتقاسمون معها نفس التفكير. دائماً يحب أن يكون جزء من فرقة تؤمن بشيء معين، الشيءالذي يوفر إحساساً قوياً بالانتماء للمجتمع. وهكذا ينجذب للمجموعات مثلاً على الفيسبوك المتعلقة بـ "الأرض مسطحة" أو "ناسا تكذب علينا" وهكذا. دماغه عندما يربط بعض الأحداث حتى من بعيد، يجد من يتبنى القصة بسرعة ويكتب عنها، ينخرط فيها بعمق وتبدأ الفكرة تتبلور وتتطور حتى تصبح حقيقة عنده.
طبعا هذا ليس له علاقة بالمستوى التعليمي، أحياناً تجد طبيباً أو مهندساً أو محامياً أو بروفيسورا جامعيا يصدق أن الهبوط على القمر مؤامرة وأن ناسا تحتجز الكائنات الفضائية وتجري عليها تجارب. السبب ليس في فهمه، السبب في دماغه الذي يتآمر ويربط الأحداث بسرعة لأنه نوعاً ما غير مصدق للقصة الحقيقية لأنه لم يرها بعينه. وهكذا تجد أشخاصاً على أعلى مستوى من الثقافة والتحصيل العلمي يؤمنون بتخاريف فارغة.
التحيز المعرفي للدماغ
يشير ميل اكتشاف العوامل في العقول البشرية إلى ميلنا لاستنتاج أن الأفعال أو الأحداث ناجمة عن عوامل متعمدة، وغالبًا ما تنسب القصد إلى الأحداث. ساعدت هذه السمة التطورية البشر الأوائل على التعرف بسرعة على التهديدات المحتملة أو الحلفاء المحتملين، مما أدى إلى تعزيز البقاء. في سياق نظريات المؤامرة، يعني هذا أن الناس يميلون إلى الاعتقاد بأن الأحداث المهمة هي نتيجة أفعال متعمدة من قبل أفراد أو مجموعات قوية، وليس أحداث عشوائية أو مصادفة. يمكن أن يجعل هذا نظريات المؤامرة أكثر إقناعًا لأنها توفر إحساسًا بالنظام والقصد في عالم معقد.
في الختام، فإن ميل البشر إلى الإيمان بنظريات المؤامرة له جذور عميقة في الآليات المعرفية للدماغ. لقد ساعدت السمات التطورية، مثل ميل اكتشاف العوامل، والتعرف على الأنماط، والتحيز المتعمد، البشر تاريخياً على التنقل في عالم معقد وخطير في كثير من الأحيان من خلال تحديد التهديدات والحلفاء بسرعة. ومع ذلك، فإن هذه العمليات المعرفية نفسها تجعل الأفراد عرضة لرؤية أفعال وارتباطات متعمدة لا وجود لها، خاصة في سياق الأحداث المهمة أو الغامضة. توفر نظريات المؤامرة رواية مبسطة ومتعمدة توفر الراحة النفسية والشعور بالسيطرة في عالم لا يمكن التنبؤ به. وهكذا، في حين أن الدماغ ليس مصممًا خصيصًا للاعتقاد بنظريات المؤامرة، فإن ميوله وتحيزاته الطبيعية تجعل مثل هذه المعتقدات أكثر جاذبية واستمرارية..
#ياسين_خضراوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العملية -بي بي كاي 2-، عندما خزّنت ألمانيا الغربية مليارات م
...
-
عبور جبال الأنديز وتحرير الإنسانية، حين تمتلك أمريكا اللاتين
...
-
فيلم رضا السحلية، حين تعانق السينما الإيرانية رداءة الواقع
-
أمة اليمين
-
إقطع الرقاب فالشريعة قالت
-
إنما الشيطان ملاك
-
مملكة السوط
-
داعش و الوجه الآخر للإسلام
-
العرب و النفاق : مقاربة سوسيولوجية
-
داعشيات
-
سطور في المحظور
المزيد.....
-
قبل الشتاء.. 7 طرق فعالة لإدارة أعراض الاكتئاب الموسمي
-
لولو شو فيها .. تردد قناة وناسة بيبي 2024 استقبلها حالا معان
...
-
ما الرابط بين أنواع الجبنة ونسب الكوليسترول؟ القريش الأفضل ل
...
-
ينظف النوافذ ويتحدى الجاذبية.. شاهد روبوتًا يتسلق ناطحات الس
...
-
جدل على مواقع التواصل الاجتماعي حول تقرير أممي -يربط بين الح
...
-
التنمر أكبر دافع نفسى للعنف داخل المدارس.. علم طفلك رفضه
-
على طريقة بريانكا شوبرا.. إزاى تستخدمى الثلج بطريقة صحيحة لل
...
-
هل تعانى من السعال ونزلات البرد؟.. حلول طبيعية للعلاج من الف
...
-
تحقيقا للتبادل الثقافي.. الدوحة تدعم رحلة شفاء صغار مستشفى س
...
-
شاروخان يكشف عن عرض غريب بعد الإقلاع عن التدخين.. وأطباء: ال
...
المزيد.....
-
هل سيتفوق الذكاء الاصطناعي على البشر في يوم ما؟
/ جواد بشارة
-
المركبة الفضائية العسكرية الأمريكية السرية X-37B
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند
-
-;-السيطرة على مرض السكري: يمكنك أن تعيش حياة نشطة وط
...
/ هيثم الفقى
-
بعض الحقائق العلمية الحديثة
/ جواد بشارة
-
هل يمكننا إعادة هيكلة أدمغتنا بشكل أفضل؟
/ مصعب قاسم عزاوي
-
المادة البيضاء والمرض
/ عاهد جمعة الخطيب
-
بروتينات الصدمة الحرارية: التاريخ والاكتشافات والآثار المترت
...
/ عاهد جمعة الخطيب
-
المادة البيضاء والمرض: هل للدماغ دور في بدء المرض
/ عاهد جمعة الخطيب
-
الادوار الفزيولوجية والجزيئية لمستقبلات الاستروجين
/ عاهد جمعة الخطيب
-
دور المايكروبات في المناعة الذاتية
/ عاهد جمعة الخطيب
المزيد.....
|