كتاب
العراق وعبد الناصر
ـ مناقشات نقدية في مذكرات امين هويدي من أجل الكشف عن حقائق تاريخية جديدة
أ. د. سّيار الجميل ( مؤرخ عراقي وخبير دولي )
عاصفة رملية أم عاصفة سياسية أطاحت الرئيس العراقي الأسبق؟ - عبد الناصر كان له تأثير في تنصيب عبد الرحمن عارف رئيساً للعراق ـ اسرار مصرية عن حادث تحطم طائرة عبد السلام عارف
الحلقة ـ العاشرة
يقول الاخ امين هويدي أنه غادر العراق وهو يحمل عنه اجمل الذكريات التي لم تزل مغروسة في اعماقه، غادر بغداد ولم يعد اليها الا بعد ذلك بشهور عضوا في وفد اختاره الرئيس جمال عبد الناصر برئاسة المشير عبد الحكيم عامر وكان معه كل من عبد المجيد فريد وامين هويدي وعبد الحميد السراج (الذي لا يعرف هويدي لماذا اختاره عبد الناصر ان يكون معهم وكان السراج لاجئا عند عبد الناصر). وفد اختاره عبد الناصر علي مستوي عال ليذهب بسرعة جدا الي بغداد ليس من اجل التعزية حسب، بل لينجز مهمة تاريخية غاية في الدقة.. ويعلمنا هويدي كم كان عبد الناصر قلقا ومتسرعا عندما رآه ينتظر المشير عبد الحكيم عامر ليترأس الوفد الي بغداد وعلق قائلا: (ماذا افعل بالمشير ده بتاعكم)!!
الحقيقة، ان المعلومات المهمة التي سجلها هنا الاخ امين هويدي في مذكراته، كنت انتظرها منذ زمن طويل اذ تقول الوثائق والتقارير والمعلومات السياسية العراقية ان عبد الناصر كان قد تدخل تدخلا سافرا في شؤون العراق عندما قتل الرئيس عبد السلام عارف ومن معه عندما سقطت طائرته الهيلوكوبتر اثر هبوب عاصفة رملية قرب البصرة كما كان قد اذيع وقت ذاك، ولم يستطع احد حتي يومنا هذا من كشف لغز سقوط تلك الطائرة، ويشاركني الاخ هويدي ايضا بقوله ان احد يعرف سر سقوط طائرة عبد السلام عارف! ولكن هويدي اول من تحدث سواء في كتاباته او في لقاءاته التلفزيونية بأن الرئيس عبد الناصر هو اول من عرف بخبر سقوط الطائرة قائلا لهم بأن عبد السلام قتل وشبع موت! ولم يعلمنا الاخ هويدي من اين عرف عبد الناصر بمصرع عبد السلام عارف بهذه السرعة الخارقة! ولم يعلمنا غير هذا الخبر المبتور الذي يثير تساؤلات المؤرخين، وخصوصا: هل ثمة علاقة لعبد الناصر بمصرع عبد السلام عارف؟ وهل من اسرار يمكن ان يكشفها لنا احد العارفين او المؤرخين او من كاتمي الاسرار في يوم من الايام؟
عبد الناصر ومستقبل العراق
المهم في المعلومات التي كنت قد سجلتها في بعض كتاباتي التاريخية نقلا عن الاوراق والوثائق العراقية ان وصول عبد الحكيم عامر علي رأس وفد من القاهرة الي بغداد علي عجل وتدخلاته السافرة في تنصيب من خلف عبد السلام قد غيّر مسار تاريخ العراق برمته في تلك اللحظة التاريخية الضعيفة والحاسمة! واستطيع اعتبار مستقبل العراق كله خلال القرن العشرين قد تحدد علي يد عبد الناصر!!.. لقد عمل عبد الحكيم عامر جهده والوفد المرافق من خلال تنفيذ رغبة الرئيس جمال عبد الناصر في عدم وصول أحد من المرشحين الاثنين اللذين كان ضدهما للرئاسة في العراق: المدني الدكتور عبد الرحمن البزاز رئيس الوزراء والعسكري شديد المراس عبد العزيز العقيلي وزير الدفاع، وفرض بدلهما اخو عبد السلام الفريق عبد الرحمن عارف رئيس اركان الجيش وكالة، وقد ضرب بالدستور مرة أخري عرض الحائط، ولأول مرة يرث رئيس دولة جمهورية عربية اخاه في الحكم، كان في العراق! إن كل ما كنت انتظره من احد الاخوة المسؤولين في عهد الرئيس جمال عبد الناصر ان يعترف بتلك الادوار الرئيسية التي قام بها جمال عبد الناصر في العراق الجمهوري وعلي مدي عشر سنوات كاملة منذ الايام الاولي للانقلاب العسكري العنيف فجر يوم 14 تموز (يوليو) 1958 وحتي فجر الانقلاب العسكري الابيض فجر يوم 17 تموز (يوليو) 1968.. ولابد لنا ان نتساءل بطبيعة الحال: لماذا أصر عبد الناصر ان يأتي رجل ضعيف وعسكري غير لامع مثل عبد الرحمن عارف علي رأ س العراق؟ وقد صدق الاخ امين هويدي في روايته عن اجراء محاولة انقلابية او مؤامراتية مصرية في قلب العاصمة بغداد باستقدام عارف عبد الرزاق وجماعته علي عجل، وهنا هل يستطيع هويدي وغيره من المسؤولين الناصريين نفي التهمة عن القاهرة في فرض ما تريده علي الشعب العراقي؟
نعم، انني اثني علي الاخ امين هويدي تسجيله التفصيلات من المعلومات التاريخية المهمة التي كنا ننتظرها باهتمام بالغ، والتي حدثنا فيها عن دور مصر في تنصيب عبد الرحمن عارف، والاكثر من ذلك انه يشرح لنا بكل صراحة هذه المرة عن دور مصر في اعداد مؤامرة لتنصيب عارف عبد الرزاق رئيسا للجمهورية اثر مصرع عبد السلام عارف.. وهنا اريد ان اغتنم هذه الفرصة كي أدعو مخلصا كل الباحثين والمؤرخين والساسة القدماء وكل من يمتلك معلومات يدلي بها من اجل الكشف عن اسرار مصرع الرئيس العراقي عبد السلام عارف، ومن يقف وراء التخلص منه! ان الحاجة التاريخية باتت ماسة الان لمعرفة كيفية سقوط الطائرة الهيلوكوبتر التي كانت تقله فقط، ونزول الطائرتين المرافقتين بسلام علي ارض مطار البصرة. انني واثق شديد الثقة بأن ليس هناك وجود لأية عاصفة رملية اسقطت الطائرة، بل ان مؤامرة خفية قد حيكت بمنتهي السرية وبعلم الدوائر الامريكية للقضاء علي عبد السلام عارف.. وان طائرته قد انفجرت وهي تطير في السماء وتلاشت اجزاؤها في الليل البهيم!
الصورة الكاريكاتيرية لتنصيب عبد الرحمن عارف
دعونا نتأمل ما سجله امين هويدي وهو يصف دور مصر في تحديد اسم الرئيس العراقي خلفا لعبد السلام عارف، قال: (وصلنا ــ بغداد ــ وكان الاستقبال حزينا.. وبدأت اتصالاتي وكان هناك تياران: تيار يريد ان ينتهز الفرصة لتحويل الحكم العسكري الي حكم مدني فيشغل الدكتور البزاز رئاسة الجمهورية، وآخر يريد استمرار الحكم العسكري كما كان منذ ثورة 1958 كان التيار الاول ضعيفا ولم يكن في امكانه فرض الاستقرار في الساحة العراقية المعقدة، وكان الثاني ينذر بصراعات علي تولي السلطة) (المصدر نفسه).
ونحن ابناء العراق نسأل ونستفسر ونقول: ما دخل الاخرين في شأن العراقيين في ظرف دستوري كهذا، من يتكلم باسم من؟ اين دستور البلاد؟ اين رأي الشعب العراقي في تحديد مصيره؟ ولم يذكر هويدي من كان مرشحا علي رأس التيار العسكري، لقد كان عبد العزيز العقيلي وزير الدفاع واحد اعضاء اللجنة العليا للضباط الاحرار في ثورة 14 يوليو (تموز) 1958 وكانت له جماعته، وكان يكن عبد الناصر له كراهية شديدة، اسوة بالكراهية التي يكنها للدكتور عبد الرحمن البزاز! وكيف نفهم الاستقرار؟ وكيف يخطط بنذر الصراعات؟ وهل يعقل ان يكون ذلك قد حدث بالفعل؟
ونبقي مع ما سجله الاخ امين هويدي: (وأخيرا ركزت في اتصالاتي انا وعبد المجيد فريد علي ان نساعد في اختيار اللواء عبد الرحمن عارف رئيس اركان الجيش وشقيق الرئيس عبد السلام لملء الفراغ.. كان عبد الرحمن عارف في موسكو وفي طريقه للوصول بعد ساعات.. كان الرجل مقبولا بحذر بين اوساط القادة.. كان ساذجا غير ضار وكان الحل سيئا بين حلول اسوأ..) (المصدر نفسه). ولنسأل ايضا الاخ هويدي: من هو الذي يتدخل بشأن الاخر؟ ولكن شكرا علي مثل هذه التسجيلات التي اعدها اعترافات متميزة ستفيد جدا ابناء الشعب العراقي لمعرفة تاريخهم المعاصر! ولكن أسأل: هل باستطاعة رجل ساذج غير ضار مثل عبد الرحمن عارف ان يملأ الفراغ في ساحة معقدة كالعراق ــ كما وصفت ـ؟
ونتابع ما كتبه الاخ هويدي الذي قال: (اخبرني الوزير المفوض سمير عباسي وكان قلقا ومنفعلا بأن المشير ــ عبد الحكيم عامر ــ كلفه بارسال برقية الي القاهرة اعطي فيها الضوء الاخضر لوصول عارف عبد الرزاق صاحب الانقلاب المبتور.. في اول ضوء اليوم التالي، فالفراغ كامل يسمح بتنفيذ خطة وصوله هو وجماعته للاستيلاء علي الحكم!!) (المصدر نفسه).
ويكمل هويدي بأنه وقف ضد هذه الخطة لأن رد الفعل علي العلاقات مدمرا لن ينساه العراق.. فقام بمعية سمير عباسي بارسال برقية الي الرئيس عبد الناصر من اجل الغاء سفر عارف عبد الرزاق ويستطرد قائلا: (سهرت طوال الليل وانا انظر الي السماء متوقعا وصول طائرة عبد الرزاق ووقوع الكارثة، وطلع الصباح ولم تصل الطائرة وشكرت الله) (المصدر نفسه) فلقد وصلت البرقية وحلت شفرتها وايقظوا عبد الناصر من منامه ليطلبوا منه عدم تنفيذ الخطة. ويذكر هويدي بأن المشير عبد الحكيم عامر استدعاه ليأخذ طعام الفطور معه في اليوم التالي ببغداد، وقال لهويدي بالحرف: (أنا كنت أدبر أمرا ولكنه لم يتم.. ابن.... مين اللي الغي ذلك؟ وكرر ذلك مرات وقال: بكرة تعرف ولكن والله لو تأكدت من اسم الفاعل سأقطع رقبته)! (المصدر نفسه) وليس لي ان اعلّق يا اخي هويدي علي ذلك الا ان اشكر لك عرضك للحقائق التاريخية هذه التي ستخدم اجيال بلدينا معا: مصر والعراق!
وآخر ما يمكنني ان تقتبسه لنتأمل فيه طويلا ونّعلق عليه ايضا الاسلوب الكاريكاتيري المضحك الذي رسمه امين هويدي وهو يصف ذلك الذي اختاروه لنا رئيسا للعراق علي الطريقة المصرية. يقول في وصف استقباله عبد الرحمن عارف الذي قدم علي عجل من موسكو: (ووصلتني الانباء بأن الامر قد استقر علي اللواء عبد الرحمن عارف ليخلف شقيقه، وهذا امر طبيعي في الجمهورية العراقية.. أخ يخلف أخاه او أبن يخلف اباه..) (المصدر نفسه). لا يا اخ هويدي انت علي خطأ فهذا ليس امرا طبيعيا في العراق، فمن هو الشقيق الذي خلف شقيقه في حكم العراق المعاصر، اما اذا كنت تقصد الحكم الملكي الوراثي الهاشمي في العراق، فأرجو ان لا تنسي الحكم الوراثي لأسرة محمد علي باشا في مصر! ونتابع معك قائلا: (وذهب عبد المجيد فريد وأنا الي المطار واستقبلنا عبد الرحمن عارف، وكان يبكي بشدة ومنديله علي عينيه واصطحبناه الي العربة وعزيناه فاشتد بكاؤه.. وهنا قال له عبد المجيد فريد في خبث: (اتفضل اركب يا سيادة الرئيس)، فتمهل عبد الرحمن في مسيرته.. وكرر عبد المجيد في خبث: (اتفضل اركب يا سيادة الرئيس).. ودون ان يسأل عن تفاصيل خفت دموعه واختفي المنديل الابيض وشد من قامته.. وسبحان الله تغيرت ملامح وجهه.. وركب العربة الفارهة وتبعناه في عربتنا السوداء المكتوب عليها (وفد الضيافة) واصبح اللواء عبد الرحمن عارف رئيسا!! ومن دون انتظار باقي الرسميات أمرني المشير بتجهيز طائرتنا للعودة.. وقال الدكتور البزاز لي وهو يودعنا: (مبروك عليكم الرئيس عارف فقد توطد الحكم العسكري.. وفي الطائرة شكرنا المشير علي جهودنا وكان الي جواره السراج صامتا لا يتكلم..) (المصدر نفسه).