|
عن الإذلال واللاعدالة في ذاكرة سورية وراهن فلسطيني
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 8008 - 2024 / 6 / 14 - 07:36
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
خبرتُ شخصياً مثل الموقف الذي تحفظه الصورة أعلاه في الأيام الأولى من عام 1996 في سجن تدمر في سورية، بعد ساعة أو نحوها من نقلنا إليه. كنا 30 معتقلاً سياسياً من ثلاث تنظيمات. لم نجرد من ثيابنا في ذلك الوقت الباكر، لكن أُمرنا بأن "نُطمِّش" عيوننا بشي مما حملنا معنا من سجن عدرا من ثيابنا، وأن يُمسِك كل واحد منا بشيء من ثياب من يتقدمه، بينما نحن منحنون بشدة، خلافاً لما في الصورة التي نشرها عسكري إسرائيلي في صفحته على فيسبوك من غزة، يوم 8 كانون الأول الماضي. ليس معلوماً إلى أين يأخذ الجنود الإسرائيليون السبعة الفلسطينيين العزل الثلاثة وعشرين، ومنهم طفل واحد على الأقل ورجلان مسنان، أما نحن فقد أخذنا عبر ما تراءت لنا مسالك متاهيّة إلى "مهاجع" قضى بعضنا فيها سنوات من الرعب والجوع واليأس. في اليوم التالي جُرِّدنا من ثيابنا تماماً مثل الفلسطينيين في الصورة، وجرى "استقبال"ـنا رسمياً، واحداً احداً، بالدولاب. قد يُعترَض على تدوين هذا التذكر في سياق غزة من باب أنه ربما ينسبن الإجرام الإسرائيلي، وهي حجة متواترة في أدبيات الهولوكوست، تصبو إلى جعل ضرب واحد من المآسي ومن الآلام المأساة السيدة والألم السيد: ما يُلحق بنا على يد إسرائيل في حالة، وما لحق باليهود على يد النازيين في حالة أخرى. لكن ما لا يصح أن يكون مقبولاً بخصوص الهولوكوست لا يصح قبوله بخصوص فواجع السوريين طوال جيلين. هناك بنى لممارسة السلطة تقوم على الإذلال والحط من الكرامة هي ما يطبع الحكم الأسدي في سورية والنظام الإسرائيلي في فلسطين، وهي ما أوصلت مجتمعنا لهذه الدرجة من التمزق والوهن وقلة النفع. على أن أول غرض لهذا التذكر هو التعبير عن السخط حيال ضمور حس العدالة من منظورين يتقاسمان تأويل حرب الإبادة الإسرائيلية الجارية في غزة، منظور ممانع ومنظور ليبرالي. الأول غير معني بالعدالة للسوريين واللبنانيين والعراقيين واليمنيين، وكذلك الإيرانيين، يتعامل مع بلدان ومجتمعات كاملة كأوراق في صراع على النفوذ لمصلحة قوة توسعية ذات تطلعات امبراطورية، إيران، التي توافق نفوذها في المجال العربي مع تعمم الحالة الميليشياوية، ومع تدمير العديد من مدننا في سورية والعراق واليمن، وبصورة ما بيروت ذاتها، وكذلك مع درجة متقدمة من التدمير الاجتماعي عبر الطائفية المسلحة. الممانعة تعرف ذاتها بالضدية كما تدل كلمة ممانعة بالذات، وليس بشيء إيجابي، ليس بأي حد من العدالة والحرية والحقوق على أي حال. ولدينا كما لدى غيرنا لا تشغل العدالة موقعاً مهماً في المنظور الليبرالي الذي يأخذ في سياقاتنا صورة اهتمام بتحديث الأفكار والذهنيات والبنى الاجتماعية أكثر مما بقضايا الحقوق والعدالة. وتغيب بخاصة قضايا العدالة في الشؤون الإقليمية والدولية، وما يتصل بالاستعمار والامبريالية من علاقات تمييز وسيطرة وحروب مدمرة. والمشكلة أنه من المستبعد أن يتحقق لنا تقدم على مستوى تحديث وعقلنة البنى الاجتماعية والفكرية في ظل أوضاع من الأشد تمييزية وانعداماً للعدالة في العالم، إن على المستوى الاجتماعي ضمن بلداننا، أو بين هذه البلدان (بعضها بالغ الغنى وبعضها بالغ الفقر)، أو بينها وبين القوى الدولية النافذة. إسرائيل تجسيد مستمر لللاعدالة من حيث أنها مدعومة بتطرف من قبل القوى الغربية الغنية والقوية على نحو يكفل تحطيمها لأي مقاومات من طرفنا، ويحول دون أي حلول سياسية بأدنى حد من العدالة، ثم من حيث أنها تجسد التمييز العنصري في أقسى أشكاله. بضروب التمييز الفاحش واللاعدالة القصوى، صار الشرق الأوسط، ومنه إسرائيل وإيران، ومنه الأنظمة العربية، بَرّيّة يسودها قانون الغاب، ولا توفر بيئة مناسبة لغير البري من ميليشيات وعصابات قتل وتطرف عدمي. ورغم التشاؤم الليبرالي العريق، لا يبدو أن هذا المنظور يتبين أننا خسرنا "إلى الأبد" فرص التحديث الاجتماعي والذهني بأثر ضروب التمييز والتدمير الذي تعرضت له مجتمعاتنا على موجات طوال جيلين وأكثر. أعني بالأبد زمناً قد يبلغ قرناً، ولا يقل عن جيلين أو ثلاثة، زمن لا ينتهي إلا بأن تصير مشاغل اليوم وأسئلته بلا معنى. لكن إسرائيل كنموذج للإبادة السياسية (بوليتيسايد) للشعب الفلسطيني، والانتقال إلى الجينوسايد حين يقاوم، هي بالضبط النموذج المعتمد في معظم بلداننا، منها بخاصة سورية التي جرى الانتقال فيها مرتين من الإبادة السياسية للسوريين، أي تحطيم منظماتهم السياسية المعارضة والمستقلة، إلى المجازر الإبادية، التي شاركت إيران والميلشيات اللبنانية والعراقية التابعة لها في ثاني المرتين (من 2011 إلى اليوم). قد يقود منطق التعبئة المرتفع الصوت منذ بدء حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة إلى المطالبة بغض النظر أو تأجيل الانقسامات في طرفنا، لكن بأي معنى يكون الملايين من السوريين طرفاً مع نظام الإبادة الأسدي الذي قتل ما لا يقل عن نصف مليون منهم، بما في ذلك بالأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة وصناعة تعذيب مزدهرة؟ أو مع حزب الله الذي حاصر حتى الموت جوعاً مضايا والزبداني، واحتل القصير وهجر سكانها ويمنعهم من العودة إليها إلى اليوم؟ أو مع إيران التي تتصرف كقوة استعمارية، وتتلاعب بالنسيج الاجتماعي في بلداننا مثل القوى الاستعمارية التقليدية، وتشارك إسرائيل في إضعاف المجال العربي، وفي رفض الحلول السياسية للصراعات في مجتمعاتنا، وفي إيران ذاتها؟ ما يخادع الممانعون أنفسهم بشأنه هو أننا فقدنا "إلى الأبد" فرصة نصرة فعالة للشعب الفلسطيني، أقله عبر معاملة كريمة للفلسطينيين في بلدان مثل سورية ولبنان والعراق، هذا وربما معاملة كريمة للسوريين والعراقيين واللبنانيين في أوطانهم. ترى، لماذا لا يمكن التضامن مع الشعب الفلسطيني، بما في ذلك مع مقاومي غزة حالياً، والثبات على مبدأ حق الفلسطينيين في السيادة وتقرير المصير، وفي الوقت نفسه إدانة المركب الامبراطوري الميليشياوي الممانع الذي يتعامل أداتياً مع الكفاح الفلسطيني؟ لماذا يجب أن ننسى هذا أو ذاك، إسرائيل كاستعمار استيطاني عنصري ذي طاقة إبادية عالية، أو المحور الإيراني، الاستعماري والقاتل بدروه؟ أو نغفل عن كون النظم السياسية العربية بتفاوت نظم إبادة سياسية، تنسخ علاقة إسرائيل بالشعب الفلسطيني، ومنها ما تعمل على تطبيع هذه القوة العنصرية، الإمارات والسعودية ومصر، هي نفسها بالمناسبة ما تعمل على تطبيع نظام الإبادة الأسدي؟ يفترض المرء أن موقع العدالة الشاغر هو الموقع الذي يشغله يسار تحرري، لكن يبدو أن هذا الموقع شهد تآكلاً في الثمانية أشهر لمصلحة الممانعة، الموقع الذي يلبي الحاجة للضدية واليقين القَبَلي في هذه الأوقات العصيبة. في محاضرة مصورة، قال من يفترض أنه أحد ممثلي يسار نقدي وتحرري إن بداية استخدام الطيران الحربي لاستهداف المدنيين جرت على يد قوات الاحتلال البريطاني ضد ثورة العشرين في العراق، وكذلك أول استخدام للغازات السامة، وقبل ذلك ذكر شيئاً عن إطلاق الدبابات قذائفها على مواطنين مجتمعين بانتظار المساعدات والطحين. السياق يدفع المرء إلى توقع أن يبادر المتكلم بعد ذلك فوراً إلى القول إن مثل ذلك حصل بالحرف في سورية قبل سنوات قليلة فحسب وعلى يد نظامها وحماته، فارتكبت مجزرة المطاحن في حمص المحاصرة في الشهر الأول من 2014، وذهب ضحيتها ستون من رفاق عبد الباسط الساروت وهم يحاولون الحصول على طحين لإطعام الأهالي المحاصرين، وقبلها ارتكبت مجزرة مماثلة في الغوطة الشرقية المحاصرة في آب 2013، قبيل "استخدام الغازات السامة لقتل المدنيين" في الشهر نفسه، ثم عشرات المرات بعدها، وبالطبع استخدام الطيران الحربي ضد المدنيين، فضلاً عن صواريخ سكود البعيدة المدى. وقبل ذلك، مجازر طوابير الخبز في مناطق حماه وحلب بدءاً من صيف 2012 معروفة لمن يريد أن يعرف. لكن ليس بهذا الاتجاه سار المتكلم، سار باتجاه الدفاع عن الميليشاوية والجهادية وإيران، وهذا باسم منطق تعبوي يبدو أن شعاره الضمني لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. تُرى، ألم يُسلَك مثل هذا المسلك مائة مرة من قبل، ولم يثمر ولو مرة واحدة؟ الموقع العادل الذي يستفقده المرء هو موقع على مستوى التحليل على الأقل، إن لم يكن موقعا على مستوى الحضور السياسي والفاعلية السياسية. قد يتجاوز الأخير قدرتنا بعد ما تعرضنا له من تحطيم متعدد الأوجه، نال فيمن نال من المتكلم المومأ إليه، لكن أن نفتقد حتى الموقع العادل تحليلياً يعني أن نتواطأ ضد أنفسنا، ليس كأفراد أو مجموعات متناثرة محددة، بل كدور، دور الشهود ومن يعملون على قول الحق. وكشاهد، هل يتعين عليّ أن أنسى أني كنت يوماً في موقع الفلسطينيين في الصورة، وقعوا في أيد معادية، ويساقون إلى المجهول؟ لن يكون ذلك خيانة للذات فقط، وإنما هو خيانة لفكرة العدالة ولملايين من السوريين الذين حطمت حياتهم. وهل في خيانة السوريين ما يمكن أن يكون أمانة لشعب فلسطين وكفاحه المأساوي؟ ينبغي أن يكون المرء موالياً للاستعمار الإيراني حتى يقول ذلك.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في شأن اليهود والغرب والتطبيع الممتنع
-
في تفنيد مركزية سورية ناشئة
-
الشرق الأوسط، حيث لا مساواة ولا حرية ولا أمن
-
في الكوارث ونمط التغير الكوارثي
-
حوار مع -المفكرة القانونية- حول سورية وغزة وألمانيا والعالم
-
في أربعين هبة حاج عارف: أن لا ننسى
-
عن آرون بوشنل والضمائر والمبادئ
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
-
-عرب ويهود- و-سقوط الجولان-: عن كتابين من ماض يمضي ولا يمضي
-
ماذا بشأننا؟ لماذا ليس بيننا عادلون عاقلون؟
-
غزة وعالم الامتيازات والحل الفاشي
-
الطائفية والديني السياسي
-
ما يقع هو المستحيل، ماذا حدث للممكن؟
-
في شأن مفهوم الجينوسايد ومشكلاته
-
اشتراكية: تمرين في الخيال السياسي
-
تاريخ: مفاصل زمنية وسجلّات ثقافية وسياسية
-
في وداع رياض الترك
-
سورية وفلسطين وما وراء نموذج الإبادة السياسية
-
عودة إلى السجن
-
ما يحدث في غزة يحدث في العالم
المزيد.....
-
-جزيرة النعيم- في اليمن.. كيف تنقذ سقطرى أشجار دم الأخوين ال
...
-
مدير مستشفى كمال عدوان لـCNN: نقل ما لا يقل عن 65 جثة للمستش
...
-
ضحايا الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة تتخطى حاجز الـ44 ألف
...
-
ميركل.. ترامب -معجب كل الإعجاب- بشخص بوتين وسألني عنه
-
حسابات عربية موثقة على منصة إكس تروج لبيع مقاطع تتضمن انتهاك
...
-
الجيش الإسرائيلي: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان في الجليل الغر
...
-
البنتاغون يقر بإمكانية تبادل الضربات النووية في حالة واحدة
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل أحد عسكرييه بمعارك جنوب لبنان
-
-أغلى موزة في العالم-.. ملياردير صيني يشتري العمل الفني الأك
...
-
ملكة و-زير رجال-!
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|