في صيف العام 1999 شهدت المدينة الجامعية في أمير آباد-الحي الشمالي من جامعة طهران- احتجاجات وتظاهرات طلابية صاخبة استمرت لستة أيام ثم انتهت إلى مواجهات دامية بين الطلاب وقوى الأمن. وعلى اثر ذلك تم اعتقال العشرات من قادة التنظيمات الطلابية الذين طالبوا بالديموقراطية وضرورة التغيير والإصلاح. يوم 9 يوليو اعتبر بمثابة نقطة الانعطاف التاريخية في مسيرة الحركة الطلابية الإصلاحية الباحثة عن موقع متقدم لها في مشروع التنمية السياسي لتكتل الإصلاح والتغيير الذي أفرزته انتخابات 23 مايو 1997، ووصول الزعيم الإصلاحي محمد خاتمي إلى الرئاسة. لقد بدأت الحركة الطلابية احتجاجاتها آنذاك اعتراضا على إغلاق صحيفة "سلام" المستقلة، وضد مشروع تعديل قانون المطبوعات. ولكن تيار اليمين المحافظ الممسك بمقاليد السلطة سارع إلى قمع التظاهرة التي لم يسبق لها مثيل منذ 1983 وهي الفترة التي استطاع فيها الخميني وأنصاره المحافظين إحكام السيطرة على الساحة السياسية الإيرانية وفرض مفهوم "ولاية الفقيه" كأساس مشروعية الثورة الإسلامية ضد المعارضين من الأحزاب الوطنية واليسارية، بل ومن المعارضين لـ "ولاية الفقيه" داخل الحوزة العلمية في قم. تظاهرة الطلاب عام 1999 أقلقت بشكل ملحوظ اليمين المحافظ، ولذلك توالت سلسلة من القرارات والإجراءات بهدف تقليص دور الإصلاحيين وتصويرهم بالخارجين على الثورة وقيمها، وبالنسبة للمؤسسة العسكرية الخاضعة لمرشد الجمهورية على خامنئي والمتحالفة مع تيار المحافظين من الملالي، فإن عددا من الضباط المحافظين بعثوا برسالة تحذيرية إلى الرئيس الإصلاحي خاتمي اتهموه فيها بالتراخي تجاه الحركة الطلابية التي تهدد في اعتقادهم الثورة والأمن القومي. تلك الخطوة اعتبرت بمثابة إعلان حرب على الإصلاحيين، خصوصا حين سربت الرسالة ونشرت في إحدى الصحف المحافظة. ولكن استطاع النظام تجاوز الأزمة حين صرح قائد الحرس الثوري الجنرال رحيم صفوي بأنه لن يسمح بإضعاف الرئيس محمد خاتمي، والتجسيد الواضح لموقف النظام من تظاهرة الطلاب وما تبعها من توترات جاء على لسان مرشد الجمهورية على خامنئي الذي أبدى دعمه المطلق للرئيس خاتمي، وقد وصف خامنئي حوادث العنف بقوله:"إن العنف الذي جرى ضد الطلبة، بل حتى ذلك الذي جرى ضد المعارضين، لا يمكن أن يكون مقبولا في مجتمعنا الإسلامي، حتى ولو حدث باسم الدين أو الولاية وتحت راية الدفاع عنها".
هذا الموقف لم يكن مرشحا للاستمرار، بل ربما انقلب إلى ضده خلال التظاهرات الطلابية الأخيرة. والتي يجمع المراقبون على أنها الأبرز في إيران ما بعد الثورة، وأنها مختلفة على مستوى التنظيم هذه المرة، والشعارات المرفوعة كذلك. فقبل ثلاثة أسابيع أصدر مكتب تعزيز الوحدة -أبرز وأهم تنظيم طلابي في إيران الذي يجتمع تحت مظلته تسعين في المائة من اتحادات الطلبة في الجامعات الإيرانية- بيانا أكد فيه عزمه على إحياء ذكرى انتفاضة الطلبة يوم 9 يوليو، وذلك في تحد صريح لمرشد النظام علي خامنئي الذي حذر الطلبة من مغبة إقامة أي اجتماع في ذكرى احتجاجات 9 يوليو ، مهدداً إياهم بـقبضة من الحديد من قبل الذوبانين في ولاية الفقيه وهو عنوان يطلق على أنصار «حزب الله» و "البسيج" المليشيات الإسلامية الغير مسلحة والموالية للنظام المحافظ. وفي خطوة كانت تهدف إلى حرمان الطلبة من إمكانية إقامة مظاهراتهم المقررة، أصدر آية الله خامنئي تعليمات صارمة إلى وزير العلوم مصطفى معين بإجراء امتحانات الطلبة في وقت مبكر وإغلاق الجامعات في السابع من يوليو. ولكن حينما علم الطلبة بالأمر قرروا اختبار مدى جدية تهديدات خامنئي بإقامة تظاهرة صغيرة أمام الحي الجامعي احتجاجاً على قرار المجلس الأعلى للثورة الثقافية فرض رسوم مرتفعة للطلبة ابتداء من العام الدراسي المقبل. وعلى اثر ذلك سارعت قوات الأمن إلى تطويق المظاهرة، ولكن قوات الأمن هذه المرة رفضت التعليمات الصادرة إليها بقمع المتظاهرين، ولجأت إلى التهدئة، وطلبت من الطلبة عدم التنديد بمرشد الجمهورية، مع ضمان حقهم في الاحتجاج، ولكن هذا السلوك من قوات الأمن قابله تعنيف شديد من قبل المحافظين، والذين قاموا بدورهم بحث العناصر التابعة لـ "حزب الله" على مواجهة المتظاهرين، وأسفر ذلك صداما شديدا بين الطرفين، ولكن القيادات الطلابية سرعان ما تنبهت إلى أن العناصر الموالية للمحافظين تسعى لجر التظاهرات الطلابية إلى مزلق العنف، ولذلك دعت إلى الاعتصام داخل الحرم الجامعي والامتناع عن الرد، وفي أثناء ذلك أطلقت إذاعة «ياران» الفضائية التي تبث برامجها من لوس انجليس ولندن نداءات إلى الأهالي بحماية أبنائهم المعتصمين، وتدفق على اثر ذلك آلاف المواطنين من الرجال والنساء للمشاركة في المظاهرات. وأعلنت اتحادات 38 جامعة ومعهداً في مختلف أنحاء إيران إقامة مسيرات ضد إجراءات السلطة بحق طلبة جامعات طهران. ولذلك عمت المظاهرات أكثر من سبعة أقاليم شارك فيها عشرات الآلاف حتى الآن. وفي رسالة من 134 من النواب الإصلاحيين إلى خامنئي جاء فيها: "للشعب الحق في الإشراف كلياً على عمل قياداته وفي تقديم النصح لهم وفي انتقادهم، كما له الحق بإقالتهم أو الإطاحة بهم إذا لم يكن راضياً عنهم". وجاء في الرسالة التي اتسمت بلهجة حادة أن «وضع أشخاص في مواقع السلطة المطلقة والإلهية هو هرطقة واضحة تجاه الله وتحد واضح لكرامة الإنسان». ورد خامنئي على ذلك بإصداره قراراً يقضي باعتقال 137 ناشطاً سياسياً بينهم عدد من الكتاب والأساتذة ونواب من البرلمان.
هذه هي خلفية الأحداث التي جرت مؤخرا في إيران. ويبدو واضحا أن ما يحدث هو انعطاف كبير في مسيرة الثورة، ورغم مسارعة أركان النظام إلى اتهام أميركا بإدارة الاحتجاجات -نظرا للترحيب الأمريكي بها- وذلك محاولة منها لتحجيم دور الطلاب، ونسبتهم إلى العدو في سبيل إسقاط قيمة الاحتجاج أمام الرأي العام الإيراني، إلا أن ذلك لم يأتي بالنتيجة المرجوة، ويستبعد أن يفسد الترحيب الأمريكي الاحتجاجات زخمها وأهميتها كما سارع بعض المراقبين في تصويره، وذلك لسببين: أولا، الترحيب الأمريكي لم يكن الوحيد بل سارعت دول عديدة إلى ذلك، ووصل الأمر أن يطالب الأمين العام للأمم المتحدة -المفترض به الحياد-"بضرورة أن يكون تغيير النظام من داخل الإيرانيين أنفسهم". وهو ما يجعل الاستياء من سياسة الجمهورية الإسلامية دوليا وليس قاصرا على الأمريكيين، خصوصا في ظل أزمة مشروع إيران النووي، والذي فضلت فيه إيران اتباع النهج الكوري. ثانيا، حجم المشاركة الشعبية الهائلة من جميع الشرائح الاجتماعية، والتي اشتركت في ترديد كثير من الشعارات المناوئة للنظام، مما يجعل من المتعذر على النظام تخوين أو تجاهل كل هذا القدر من الاستياء الشعبي. خصوصا في ظل تردي الأحوال الاقتصادية وارتفاع نسب البطالة إلى مؤشرات خطيرة.
لقد اعتقد الإصلاحيون في إيران منذ منتصف التسعينات أن سعيهم للتغيير لابد وأن يكون عبر بوابة الثورة ذاتها، وأن العمل من داخل الثورة وعبر مشروعيتها سيضمن نفاذ أجندة الإصلاح دون اللجوء للمواجهة. وكان يعنّ للإصلاحيين حينها قبول واحتضان اليمين المحافظ، باعتباره أحد أعمدة البيت الداخلي، والقيام بفرز حقيقي في داخل صفوفه الفكرية والسياسية والإعلامية. ولذلك كان الإصلاحيون حريصون على عدم الصدام أو التنديد بمبادئ الثورة، ورموزها. وحتى حين بدأت سلسلة الاغتيالات والمحاكمات المشئومة ضد المعارضة، وبعض الإصلاحيين عام 1998 ظل الإصلاحيون أكثر ثباتا وهدوءا. إن شعارات الطلبة عام 1999 كانت تهدف إلى إيصال رسالة إلى المحافظين بأن الوصاية العقائدية قد ولى زمنها، وأن الدفاع عن الثورة يتطلب إعادة النظر في الأداء والخطاب السياسي لها.
عدا أن شعارات المظاهرات الأخيرة تكشف عن تغيير قادم في هذه الاستراتيجية، الثورة اليوم ذاتها في نظر جيل الشباب متهمة .. وتتراوح مطالبهم بين الدعوة إلى إلغاء ولاية الفقيه وإجراء استفتاء بشأنها واستقالة الرئيس محمد خاتمي والمطالبة بإقامة نظام علماني وفصل الدين عن الحكم .. ويبدو واضحا أن جيل الشباب والذي يمثل أكثر من 65% من الشعب الإيراني لم يعد مقتنعا بشعارات الثورة وحكم رجال الدين. وهناك تخطي صريح لزعامة خاتمي وإستراتيجيته في احتواء المحافظين. طبعا بعض النواب الإصلاحيين يبرر ذلك بأنه استياء مؤقت من قبل الطلبة لتأخر خاتمي في الدفاع عن احتجاجاتهم كما فعل عام 1999 ، بيد أن الشعارات تقول أكثر من ذلك. إيران في مرحلة تحول كبير، وتجربة الدولة الإسلامية اليوم هي على المحك، أما الأيدلوجيا الإسلامية الشيعية والسنية فقد أثبتت بأنها على تضاد مع المقومات الوطنية. وها هو الحوار الوطني –كما عرضه النظام الإسلامي في إيران- يسقط ضحية العنف وإسكات الرأي الآخر (الغير إسلامي) بدعوى أنه غير متوافق مع الضوابط والثوابت الشرعية التي يقررها المحافظين من الملالي.
ولكن هل يؤذن ذلك بنهاية دور الإصلاحيين وتجاوز سقف "الـخاتمية"؟ .. إذا كان ذلك صحيحا أو قريبا من الصحة.. فما هو السبب في تعذر مشروع خاتمي للإصلاح؟.. الذين لا يؤمنون بتغير المسرح الدولي وضرورات الديموقراطية والحريات سيكون عليهم انتظار الانفجارات في الداخل قبل أن يتجهوا بأعينهم صوب الخارج .. ربما نجيب على هذه الأسئلة في المقال القادم.
كاتب سعودي