|
إمانويل ليفيناس وإدموند هوسرل: تجاوز الفكرانية الفلسفية (الجزء الأول)
أحمد رباص
كاتب
(Ahmed Rabass)
الحوار المتمدن-العدد: 7989 - 2024 / 5 / 26 - 00:06
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تتوزع العقلانية المطبقة في فلسفة ليفيناس بين مستويين: مستوى نهج نصف منطقي ونصف عملي في علاقة الذات بالعالم، ومستوى مقاربة ما قبل منطقية في علاقة الذات بالمستقبل والألوهية. ويمكن إثبات الفرق في معالجة الموقفين من خلال الانتقال من المعنى إلى المعقول، وهما أفهومان أساسيان يشهدان هنا على تجاوز النظرية نحو ما وراء لا تتوافق وسائل مقاربته مع تلك التي يمارسها العقل. وبالتالي سيكون من الجدير التساؤل حول التمييز بين المقاربتين، التأملية وقبل التأملية، ذواتي أفق نشأة فكر ليفيناس انطلاقا من تجذره في فينومينولوجيا هوسرل. - النزول على أرض الملموس من بين الأطروحات التي قدمها من خلال أعماله، طور ليفيناس باستفاضة فكرة أولوية الحياة على بالفكر. ويمكن تلخيصها بفكرة أن التجربة المعاشة هي أساس أي فعل ذي أساس نظري وليس العكس. تُظهر القراءة المتأنية لنصوصه منذ أطروحته الأولى (1928) أن الاكتشاف الفينومينولوجي لقصدية الوعي يجعل من الممكن تفضيل العملي على النظري، بطريقة لا تعود فيها الحقيقة تُعطى للذات تبعا لمعرفة قد تكتسبها ولكن بشكل مباشر وبدون وساطة مع ضمان أرضية أصلية موضوعية ملتومة بما هو فعلي. من خلال الفحص الدقيق لهذه العلاقة القصدية بين الذات والموضوع، فضل ليفيناس الشاب هذا المنظور في الفكر الهوسرلي، "فلسفة حية [...] في قلبها يتعين الارتماء والتفلسف". ولذلك فإن ثيمة الملموسية هي التي تكشف أولاً عن الرهان المتمثل في المقاربة الهادفة إلى اكتشاف الواقع انطلاقا من خلال الاستثمار المعرفي الذي يسطّح المسافة بين الواقع والمثال. وهذه الرؤية العامة التي يحتفظ بها ليفيناس هنا من هوسرل هي التي تغذي التوتر بين الفكري والفعلي، والتي أصبحت تدريجيا، بالنسبة لليفيناس، نقطة وضاءة وجهت تفكيره من الثلاثينيات إلى الستينيات. مثلت هذه المقاربة الأولى بالنسبة إلى ليفيناس الشباب إمكانية إعادة تأهيل علاقتنا بالعالم من خلال إعادة التوازن للعلاقة ذات-موضوع بواسطة الأفكار الفينومينولوجية عن الارتباط، عن قصدية الوعي التي تحقق هدف الأشياء كما أعطيت لنا، عن المعنى بآفاقها المفتوحة بشكل دائم لتوضيح العالم مباشرة انطلاقا من البيانات الأصلية وأخيرا، عن تصور للذات يسمح لنا بالحديث عن فلسفة الذات التي تدرك العالم بينما تكون منخرطة في واقعه الفعلي. لكن سرعان ما نلاحظ أنه من خلال دفع هذه الأفكار إلى أقصى حدودها، وجد ليفيناس الشاب نفسه في مواجهة موقف فينومينولوجيي وصفه بأنه تأملي للغاية، واعتبره بالتالي غير كاف، معاتبل "هوسرل على فكرانينه". هذا التمشي، الذي ظل مرتهنا إلى حد كبير بتأثير هايدجر، ولكن أيضًا على ما وحد العديد من المفكرين الفرنسيين ضد المنزع التنظيري في الفلسفة في ذلك الوقت، مع المطالبة بالعودة إلى الملموس، استدعى نقدا للفكرانية. قادت هذه الاعتبارات ليفيناس، وكذلك ميرلو بونتي وسارتر، إلى إظهار أن أطروحة الملموسية لا تصمد أمام الفحص على الإطلاق، وبالتالي متهمين الفينومينولوجيا الهوسرلية بنزعة تنظيرية مفرطة. تم طرح الأسئلة التي غذا هذا الموقف الفلسفي الأساسي عند ليفيناس على النحو التالي: هل هناك حقا أولوية للنظرية؟ هل هناك مثال للتأمل يجب احترامه؟ إن الرؤية العامة التي احتفظ بها ليفيناس من الفينومينولوجيا تظهر للوهلة الأولى أن المقاربة الهوسرلية بدت وكأنها تعترف بتكييف الملموس، مما عزز مرة أخرى الفكرة التي مفادها أن الفكر لا ينفصل عن الحياة. تلعب الوظيفة المرجعية للحياة دورا استراتيجيا إلى حد أن أي اتصال مع كائن ممثل يتطلب وجوده (ظهوره) أمام الوعي. لا ينطبق هذا المبدأ الفينومينولوجي فقط على إعطاء الأشياء المادية من خلال أفعال مدركة أو ملموسة، ولكن أيضا على تحقيق مقاصد المعنى المتعلقة بالأشياء الخيالية والمتخيلة وغيرها. وهكذا تحتاج مقاصد العقل إلى الخبرة حتى تتمكن من الانتقال من الوقائع المفترضة إلى البداهة المترابطة، وهكذا تكون التجربة المعاشة ضرورية لأنه بدونها يظل كل معنى غير مفهوم عبثيا. مع هوسرل، يقول ليفيناس، لم نعد نسعى لإضفاء الشرعية على المعرفة في شكل بناء عقلي خوفا من تدخل عفريت شرير قد يصرف أفعال وعينا. في الواقع، جعل هوسرل غير شرعي البحث عن عنصر ثالث للوساطة بين الفكر والعالم التي جاءت أن لتوضيح وجعل الكينونة التي تقدم نفسها للعقل موضوعية. وتبعا لهذا الاكتشاف للقصدية بالتحديد، سيتمكن ليفيناس من التمسك ب"روح الفلسفة الهوسرلية" حتى في عمله المتأخر جدا "خلافا للوجود أوما وراء الماهية" (1974) . لكن فترة الشباب هذه سمحت له قبل كل شيء بتفضيل العملي على النظري على إثر الظهور المباشر للعناصر التي تشكل المعرفة. خاصة أنه بفضل القصدية، لم يعد من الضروري المرور من فحص نقدي للمعرفة للتمكن من تحديد الموضوع، ما دام أن التعاون الفعال بين الفعل القصدي والحدس يفعل ذلك بشكل مباشر. ومع ذلك، ظل ليفيناس يتهم هوسرل بعدم الذهاب إلى أبعد من ذلك في بحثه الفلسفي عن الحياة، وبقائه أسير الأولوية النظرية التي لا تسمح لنا باكتشاف الواقع كما هو، "في غياب الافتراضات". إننا نجد هذه الانتقادات بالفعل في صفحات الشباب التي مدحت فينومينولوجية الملموس، ولهذا السبب فإن وجاهة هذا الاعتبار الأول لا يمكن إهماله. إنه لا يعكس ببساطة تطور القراءة الليفيناسية، ثم التحول الذي قام به ليفيناس باتجاه المقاربة نصف المنطقية ونصف العملية في الفينومينولوجيا، ولكنه يعكس أيضا بذرة فكر أصيل. لقد جعل من الممكن تسليط الضوء على المسار الذي انطلق من فلسفة ما تزال تأملية بعمق (نظرية أو فكرانية، هذان المصطلحان مترادفان هنا)، إلى فلسفة تبرز البعد الأخلاقي للعلاقة بالآخرية في حد ذاتها بصرف النظر عن العلاقة النظرية بالعالم. (يتبع) المرجع: https://www.cairn.info/revue-internationale-de-philosophie-2006-1-page-35.htm
#أحمد_رباص (هاشتاغ)
Ahmed_Rabass#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جون ستيوارت ميل: رائد المساواة بين الرجل والمرأة
-
جون ستيوارت ميل: رائد المساواة بين الرجل والمرأة (2/2)
-
جون ستيوارت ميل: رائد المساواة بين المرأة والرجل (2/1)
-
جاك دريدا وعبد الكبير الخطيبي ارتبطا بعلاقة صداقة من نوع خاص
-
يوم دراسي حول راهنية فكر ليون برنشفيك الفلسفي (2/2)
-
يوم دراسي حول راهنية فكر ليون برنشفيك الفلسفي
-
غزة: كيف السبيل إلى خروج إسرائيل منها؟
-
النقابة الوطنية للإعلام والصحافة/ كدش تدعو كافة الصحافيين لل
...
-
الحرب على غزة: كيف السبيل إلى الخروج منها؟
-
سوق السبت: كلمة عادل البوعمري في إحياء الجمعية الوطنية للمعط
...
-
يوم دراسي حول راهنية فكر ليون برنشفيك الفلسفي (2/1)
-
المرصد المغربي لمناهضة التطبيع يوضح كيف انفجر الوسام في وجه
...
-
مترجم/ جان كافاييس في إرث ليون برنشفيك: فلسفة الرياضيات ومشك
...
-
مترجم/ جان كافييس في إرث ليون برنشفيك: فلسفة الرياضيات ومشكل
...
-
مترجم/ جان كافاييس في إرث ليون برنشفيك: فلسفة الرياضيات ومشك
...
-
المكتب التنفيذي لكدش وهو يستحضر ذكرى النكبة الفلسطينية يدعو
...
-
ظاهرة التسول في المغرب: حجمها ومخارجها وفق المجلس الاقتصادي
...
-
الطبقة الوسطى في المجتمع المغربي، هل تشهد نموا أم انكماشا؟
-
المعرض الدولي للنشر والكتاب: حفل توقيع ثلاثة كتب لعزيز الحدا
...
-
من ضمن فعاليات النسخة التاسعة والعشرين من المعرض الدولي للنش
...
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|