أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - احمد الحاج - معذرة أطفال العراق !!















المزيد.....


معذرة أطفال العراق !!


احمد الحاج

الحوار المتمدن-العدد: 7982 - 2024 / 5 / 19 - 19:51
المحور: المجتمع المدني
    


كانت عقارب الساعة الجدارية القديمة تشير الى تمام الساعة الحادية عشرة والنصف ليلا، نصف ساعة تفصلنا عن اليوم العالمي للطفولة، هزيم الرعد ، وصرير الريح كانا ينذران بقدوم شيء ما أستشعره ولا أكاد أبصره، نباح الكلاب البعيدة وضوء المصباح الخافت يضفيان على الأجواء مسحة كئيبة تشي بأسرار أخفيها ولا أكاد أبديها لولا صور أطفال كانت مأساتهم حاضرة بعد أن تصدرت الصفحات الأولى والتي لم أجد بدا من وضعها على الطاولة أمامي متأملا فيها وبشخوصها لتلهب حماستي ..لتستفز مشاعري ..لتشحذ همتي .. لتعصف بذهني ..لتحلق بمخيلتي الى أفق أرحب ، كان البرق يضيء وجَنَات الضحايا المتوردة بين الفينة والأخرى في موقف كل مافيه يهيب بي لفعل شيء ما ، نظم قصيدة ، رسم لوحة ، ذرف دمعة ، اطلاق العنان لصرخة قلم في عصر التصحر الثقافي والجدب المعرفي والجفاف الوجداني والكتابة عن مأساة أطفال لم تعد مأساتهم قاصرة مع مايكتنفها من الآم وأحزان على غياب الأب أو الأم أو كليهما معا، بل استفحلت وبشكل مخيف ينذر بأسوأ العواقب لتشغل حيزا قاتما في جميع الملفات الشائكة المعنية بحقوق الانسان ،لم يكن أمامي في تلكم الدقائق العصيبة سوى أن أمتطي صهوة قلمي لأشق غبار الكلمات ولسان حالي يردد ما سبق لسنديانة الشعر كما يطلق عليها"ماري عجمي"أن أبدعته في قصيدتها لرثاء احمد شوقي،قائلة في مطلعها"هزوا الغصون لعله نائم " ولقد هززت بدوري غصنا أخضر لعله يوقظ أميرة العراق النائمة ..مريم !!".
رقيقة كالهمس .. وضاءة كالشمس .. خصلات من شعرها الأسود الفاحم كانت تتدلى كعنقود عنب على عينيها الناعستين .. تلك هي مريم ابنة الثلاثة عشر ربيعا .. التي تسكن محلة الفضل من بغداد.. ما أعذبها .. ما أجملها لولا أن شحوبا مقيتا تسلل خلسة الى بشرتها البيضاء البضة فأفقدها نضارتها ، ولولا أن سكونا رهيبا زحف الى أطرافها من دون إرادتها فأحالها الى مومياء فرعونية لا تقوى على شيء ، لسانها كان لا يفتأ يتمتم بكلمات غير مفهومة ، عيناها كانت ترقب شيئاً ما من بعيد لا أدري ما هو ، لوهلة خلتها تتصنع حياء العذارى بتكلف لا يخفى على شخص خبرته الحياة، فعلمت ممن حولها أن وحشا لا يعرف الرحمة هو الذي فعل بها كل هذا .. وحش جعلها حبيسة البيت، بل وقعيدة الفراش أيضا فلم يعد من حقها أن تحلم كما تحلم زميلاتها في المدرسة، ولا أن تلعب كما تلعب شقيقاتها في دارها المستأجرة ، ولا أن تجلس خلف الشناشيل البغدادية التي تزين شرفتها كما تفعل بنات محلتها لترقب بائع (الشعر بنات) وتناديه على استحياء بصوت متهدج " عمو ..عمو ، ابيش الشعر بنات، أريد اثنين" .
ويحكم ما اسم هذا الوحش ، ما عنوانه ، دعوني أثأر لحسناء محلتنا ، افسحوا لي المجال لأنتقم من هذا الشيطان المريد ، أجيبوني ماذا دهاكم ، أليس فيكم رجل رشيد ؟!
ربت أحدهم كتفي قائلا لا تتعب نفسك فما وحش محلتنا بانسان، وليس لشبح عراقنا عنوان ، إنه مرض بات يفتك بالالاف من أطفالنا وسيظل يفعل ذلك حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا ..وحش يسميه الأطباء "ضمور العضلات الشوكي " ليس له في عراق الحضارات علاج ، وجل الذي نتمناه عليك هو أن تأتي لنا بكرسي متحرك مخصص لمرضى الشلل الرباعي تقضي مريم ما تبقى من حياتها عليه .. !
هرولت مسرعا الى أصحابي، الى جيراني، الى أحبابي، أستنجد بهم، بل قل أستجديهم ، فلم نكن نملك ثمن الكرسي (500) دولار وغبار غزو العراق 2003م لم ينجلِ بعد،وكلنا عاطلون عن العمل أنذاك، فأطلقنا حملة لجمع التبرعات استمرت شهرا كاملا تحت شعار"أنقذوا عذراء العراق مريم" وبعد جمع المبلغ المطلوب يممت وجهي شطر شارع (المشجر)وسط العاصمة الحبيبة بغداد واشتريت واحدا حملته على ظهري من شدة الزحام، وانطلقت به أشق محلات بغداد القديمة واحدة تلو الأخرى، فمن باب الشيخ الى قنبر علي وصولا الى محلة الفضل، دخلت محلتها وأنا في غاية السعادة والسرور، وكان الزقاق مكتظا بالناس، وقفت أمام خيمة منصوبة وصحت بأعلى صوتي " يا أم مريم زغردي ، عرش ابنتك مريم قد وصل!!" .
قالت والحزن يعلو محياها ، إرجع به من حيث أتيت فلا حاجة لنا به بعد اليوم !!
عقدت الدهشة لساني، وتسمرت مكاني، ولسان حالي يقول كيف أرجع بالعرش ومريم بأمس الحاجة اليه؟
همس أحدهم في أذني قائلا " لقد ماتت مريم وهذه هي خيمة عزائها!".
سقط قلبي في جوفي ولم تعد ساقاي تحملاني، جلست على الأرض القرفصاء، ليتناهى الى سمعي صوت القارئ عبد الباسط وهو يرتل قوله تعالى (وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت)، فأدركت من فوري بأن مريم يتيمة قد وأدها المجتمع بأسره إلا ما رحم ربك،فكل من شارك أو حرض على اغتيال الاطباء الاختصاص لحملهم على الرحيل خارج البلاد بغية افراغ العراق من عقوله وكفاءاته وخبراته فقد أسهم في وأد عذراء العراق مريم،كل من نهب المستشفيات والمستوصفات والمراكز الصحية في عهد الحواسم فقد أسهم في قتل مريم، كل من لم يلتزم ببنود اتفاقية حقوق الطفل التي أقرتها الامم المتحدة عام 1989، فقد أسهم في وأد مريم ...
سرت خلف النعش رافعا العرش لأهديه الى مريم أخرى جديدة وما أكثرهن في العراق الذي أضاع الخيط والعصفور فمرت عشر سنين عجاف وما يزال مستذئب الفقر ، ودراكولا ضمور العضلات الشوكي يفتكان بأيتامنا وفلذات أكبادنا لعلها تجد متسعا من الوقت للجلوس عليه قبل أن تطالها يد القدر !
في تلكم اللحظة المتشحة بالسواد إزدحمت بداخلي روايات اﻷدب العالمي التي تناولت اليُتم "علما أنه وفي عراق النفط والغاز والفوسفات والكبريت هناك أكثر من خمسة ملايين يتيم" وأشهرها رواية ” أوليڤر تويست “لتشارلز ديكنز، لتقفز الى ذاكرتي الحبلى قصائد افاضت في معاناة اليتم وأبرزها قصيدة (اليتيم) لإيليا أبو ماضي،و( كفالة اليتيم ) لحسب الله مهدي، و(شكوى اليتيم) لأبي القاسم الشابي، و(نظرة في شموخ اليتيم) لعبدالرحمن العشماوي و(اليتيم في العيد) للرصافي، فيما هرعت الى مخيلتي ومن دون استئذان كل اﻷفلام السينمائية التي كنت قد شاهدتها يوما في سينمات سميراميس وغرناطة والنصر وبابل والخيام وأطلس وكلها صارت اليوم أثرا بعد عين،وقد تناولت اليتيم وأبرزها فيلم اليتيمة،سعد اليتيم، اليتيم والذئاب،جعلوني مجرما، اليتيمتان، فيما كان صوت شيخ القراء "المنشاوي" يصدح من مئذنة جامع الاحمدي القريب : (كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ) ولم أجد بدا ساعتها من عقد العزم ، ومعاهدة النفس على مواصلة الكتابة عن الانسانية والطفولة المعذبة في العراق والمنطقة العربية لعلها تلفت انتباها، تنبه غافلا ، تحدث عصفا ، تكون بمثابة حجر يحرك جانبا من المياه الراكدة ، ومعذرة لكل الاطفال المعذبين عن جهد المقل ، وضعف ذات اليد ، وقلة الحيلة ، وكل ما نملك للدفاع عنكم إنما هي محض أقلام وبضع وريقات ومحبرة !
ولله در القائل في فضل اليتيم شعرا :

حَسْبُ اليتيم سعادةً أنَّ الذي..نشرَ الهُدَى في الناسِ عاشَ يَتيما



#احمد_الحاج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في رحاب -الفتاوى المؤصلة للقضية الفلسطينية- مع الفقيه المفكر ...
- اصدارات جديدة ...(تاريخ المستقبل خطوة الى الوراء خطوتان الى ...
- إضاءات على برنامج -تعلولة -مع الدكتور وسام الكبيسي
- يا نساء العالم اجتهدوا لا تحتدوا ولا تنتحبوا !!
- دردشة مع الدكتور أمجد الجنابي عن برنامج (ملتقى القلوب) بموسم ...
- تبصير الأنام بالفوائد المذهلة التي لا تحصى للصيام !
- شكرا للمجذوب الذي لقنني درسا ب فقه الوظيفة !
- ثلاثيات وآفات اجتماعية مقلقة!!
- لماذا يكره-الشمشونيون الأسطوريون- غزة ؟!
- -الرحالة المصري- كتاب جديد في أدب الرحلات والتراث والتنمية ا ...
- الظاهرة -الدحدوحية- ثبات في الأرض..تطبيق للفرض ..ستر للعرض!
- الدرر البهية بين يدي -الملحمة الفلسطينية-
- الوحشية الصهيونية ومقابر الصحفيين الجماعية !
- الإضراب الدولي الشامل لتنشيط الضمير الانساني الخامل وتنبيه ا ...
- حرب المستشفيات وتدمير البنيان والوجه القبيح لأمريكا والكيان ...
- مقاومة الملاعب والحلبات دعما لميادين العز والساحات !
- الى أوستن وليندا وكارين ... لاتكونوا للأبارتايد ولل -جيم كرو ...
- الى -الكبتاغون-الامريكي -تمثال حريتكم يكرس العبودية ولا يمسخ ...
- التاريخ يراقب والاعتذار من دون تغيير خطيئة كبرى !
- رسالة من حقل الأشواك الى الراجا -ريشي سوناك-


المزيد.....




- اللاجئون السودانيون.. مأساة لم ينهها عبور الحدود واللجوء
- الأمم المتحدة تحذر: شبح المجاعة يهدد 40 مليون شخصًا في غرب أ ...
- تظاهرات في تل أبيب مطالبة بصفقة للإفراج عن الأسرى
- الشروق داخل معسكرات النازحين فى السودان.. حكايات الفرار من ا ...
- استشهد زوجتي وإصابتي أفقدتني عيني
- مصدر فلسطيني: عودة النازحين قضية رئيسية في المفاوضات وتوجد ع ...
- دعوات إسرائيلية لمظاهرات تطالب بصفقة تعيد الأسرى
- مندوب فلسطين بالجامعة العربية يدعو لتفعيل الفصل السابع من مي ...
- عبد الرحمن: استقبال عناصر النظام البائد وتسوية أوضاعهم ممن ل ...
- دعوات إسرائيلية لمظاهرات تطالب بصفقة تعيد الأسرى


المزيد.....

- أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية / محمد عبد الكريم يوسف
- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - احمد الحاج - معذرة أطفال العراق !!