تركيا والإخوان
فهد المضحكي
2024 / 5 / 18 - 12:17
لا تقوم العلاقة بين تركيا والإخوان المسلمين فقط على الروابط القوية التي تجمع النخبة السياسية الحاكمة في تركيا مع مختلف جماعات الإسلام السياسي في المنطقة العربية، وفي مقدمتها جماعة الإخوان، وإنما تتأسس أيضًا على ذلك النمط من الروابط التي تتجاوز الإطار السياسي إلى النسق الأيديولوجي الذي يجعل الجانبين ينتميان لتيار عقائدي واحد، وذلك منذ أن أقدم نجم الدين أربكان على تأسيس حركة «المللي جورش» في ستينيات القرن الماضي، والتي تمثل الجناح التركي لجماعة الإخوان. ومن رحم هذه الحركة خرج العديد من الأحزاب السياسية، من ضمنها العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، رغم أنه مثل التيار التجديدي الذي انقلب على تيار أربكان داخل حزب الفضيلة عام 2001.
ولإعطاء صورة واضحة وجلية عما سبق، سنتوقف عند وجهة نظر الكاتب والباحث د. محمد عبدالقادر خليل، وذلك لاعتبارها أكثر ترابطًا وشمولية، وأكثر أدراكًا لطبيعة العلاقة القائمة بين تركيا والإخوان.
بداية يشير إلى أن هذا التيار التجديدي قاده الثنائي عبدالله جول، الرئيس السابق لتركيا، ورجب طيب أردوغان، الرئيس الحالي، والذي استطاع عبر خطوط تدريجية أن يهيمن على معادلة الحكم داخل تركيا، وكذلك داخل الحزب الحاكم، بعد عمل متواصل عبر سنوات خلت من أجل إبعاد الحرس البراجماتي لصالح التيار المؤدلج الذي يؤمن بفكرة «الرئيس الخليفة» الذي يتخذ من الشعارات القومية سبيلاً لتعظيم حضور تركيا في وسط آسيا والقوقاز، ويتخذ من الشعارات الدينية منهجًا لإعادة صياغة روابط تركيا مع العالم العربي.
كل ذلك يهدف استعادة تركيا ميراث الدولة العثمانية، ليس فقط بالمعنى الروحي عبر إعادة تأطير الصورة الذهنية لتركيا، وإنما أيضًا بالمعنى العملي عبر إعادة سيطرة تركيا على أجزاء من الأراضي التي افتقدتها بعد الحرب العالمية الأولى بدعم من وكلاء محليين يهيمن عليهم عناصر من جماعة الإخوان في ميادين ملتهبة بالجوار التركي.
تَحدَّثَ عن الروابط بين نخبة تركيا الحاكمة وعناصر جماعة الإخوان المسلمين التي تعود بالأساس إلى كونها علاقة تاريخية لا تتأسس فقط على روابط النسب التي تجمع بين بعض العناصر في الجانبين، أو العلاقات الشخصية بين قيادات الطرفين بسبب حضور من رموز جماعة الإخوان في الدول العربية للمؤتمرات السنوية التي كانت تعقدها الأحزاب السياسية التي أسسها الراحل أربكان، وإنما تتأسس أيضًا على العلاقات المشتركة التي تطورت في ظل ما يطلق عليه الكاتب - ربما يفتقد إلى الدقة - بالمناخ العلماني الإقصائي الذي ترعرعت فيه نخب العدالة والتنمية.
ووفقًا لرأيه، ففي ظل هذا المناخ دفع نخبة العدالة والتنمية إلى النشأة السياسية والدينية على كتابات الكثير من قيادات جماعة الإخوان في نسختها المصرية، حيث لم يُسمح آنذاك في تركيا بتأليف أو طباعة الكتب الدينية، بما أوجد علاقات مركبة بين الجانبين، يتحكم فيها العديد من المحركات العملية التي ترتبط بالمصالح المشتركة، كما تتعلق بعناصر التنشئة السياسية، ونمط الإدراك المتبادل لمحورية كل طرف بالنسبة لمصالح - بل بقاء - الطرف الآخر.
وقد صاحب ذلك اعتراف من جانب جماعة الإخوان بأن تركيا تمثل النموذج القابل للاستنساخ، لا سيما في مرحلة ما بعد الثورات العربية. لم يعنِ ذلك تأسيس أحزاب تستلهم تجربة العدالة والتنمية حتى على مستوى المسمى الحزبي وحسب، وإنما تتعلق أيضًا بشيوع مصطلح الأمة على حساب مفهوم الدولة. وشمل ذلك أيضًا اعترافًا بأن مركز الثقل الإسلامي في عاصمة الخلافة الإسلامية - التي تحولت تدريجيًا من نظام ديمقراطي إلى دولة سلطوية يسيطر عليها نظام أبوي يتبنى أيديولوجية محافظة دينيًا ومتشددة قوميًا - يقوم على تركيز السلطة واستحضار فكرة «القائد الخليفة».
وقد شاع في أوساط الإخوان، وعبر الوسائل التي يسيطرون عليها، وصف أردوغان بـ«الخليفة». عبر عن ذلك، على سبيل المثال، الراحل يوسف القرضاوي، الزعيم الروحي للإخوان المسلمين، الذي قال: «إن أردوغان يمثل الخليفة والممثل لنموذج الحكم الإسلامي في العصر الحديث، وأنه هو الذي سيفرض الإسلام في كل أنحاء العالم». مضيفًا: «اتحاد فقهاء الإسلام أعلن أن الخلافة يجب أن تتشكل في إسطنبول لأنها عاصمة الخلافة... تركيا الجديدة هي التي تدمج بين الدين والدولة، القديم والجديد، العربي وغير العربي وتوحد الأمة في أفريقيا، وآسيا، وأوروبا، والولايات المتحدة، وكل مكان. الشخص الذي أحدث ذلك في تركيا هو رجب طيب أردوغان... هو القائد الذي يعرف الله، ويعرف نفسه، ويعرف شعبه، ويعرف الأمة، ويعرف العالم. عليكم الوقوف إلى جانب هذا الشخص وتقديم الولاء له والقول له: سر إلى الأمام».
وعلى الرغم من أن الرئيس التركي لا يعبر عن ذاته بحسبانه مرشد الجماعة أو خليفة المسلمين، غير أن تصريحاته ومواقفه حيال العديد من التطورات تشير ضمنيًا إلى أنه يعتبر نفسه المرشد لجماعات الإخوان عبر الإقليم، وثمة العديد من الأدبيات التي تشير إلى أن ذلك لا ينسجم مع أيديولوجيا الحكم التركي وحسب، وإنما يجسد أيضًا فكرة أن هذه الجماعة تحولت خلال العقد الأخير لتغدو إحدى أدوات تركيا لشرعنة دورها كدولة قائد لدول العالم الإسلامي.
ورغم ما تثيره هذه العلاقة من إشكاليات في إطار روابط تركيا من الفاعلين الإقليميين التي تنظر لتركيا بحسبانها دولة تدعم الجماعات الإرهابية، غير أن الأصرار التركي على عدم الإضرار بهذه العلاقة يرتبط بكون جماعة الإخوان تشكل أحد الأدوات التي يوظفها أردوغان لدعم شعبيته على الساحة المحلية، بما يجعل تركيا ليس بوارد التخلي عن الجماعة أو التضييق على عناصرها.
ولعل هذه الرسالة قد أكدتها القيادة التركية عبر العديد من المواقف خلال السنوات الماضية، ومن ضمنها التأكيد على أن حزب تركيا الحاكم ليس ببعيد عن مبادئ تنظيم الإخوان، الذي احتفل بالذكري التسعين لتأسيسه في إسطنبول، بمشاركة «العشرات» من قياداته في العالم.
على الرغم من أن أردوغان أظهر تقديره لميراث أتاتورك الثقافي، غير أن العديد من سياساته أظهرت تناقض مواقفه واتجاهاته مع الميراث السياسي والثقافي لمؤسس تركيا المعاصرة، الذي ألغى الخلافة عام 1924، فيما يبدو أنه أكثر انسجامًا مع أفكار حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان في عام 1928، والذي أعلن العمل على استعادة الخلافة التي أسقطها أتاتورك.
يفسر ذلك سياسات تركيا الخارجية حيال العديد من الدول العربية، لا سيما أن السياسات التوسعية التركية على الساحة الإقليمية ارتكزت على الأدوار التي أدتها الجماعة لخدمة حكم أردوغان، ليس على الساحة المحلية وحسب - عبر التجييش الداخلي في الخطابات الشعبوية والاستمرار في السيطرة على مقاليد الحكم- وإنما في نفس الوقت من خلال استخدامه لهم في مشروعه الخارجي، القائم على التغلغل في المنطقة العربية، والتأثير على سلمية تفاعلاتها، واستغلال قضاياها الصراعية، بما يحقق مصالح تركيا المتنوعة. لذلك لجأت تركيا إلى استخدام قدراتها المالية وإمكاناتها الإعلامية لخدمة مشروع الإخوان في مصر القائم على استهداف الدولة المصرية، والعمل على عدم استقرارها سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، وهو مشروع تركي ويوظف الإخوان في إطاره، سيما أنهم بحاجة للملاذ الآمن الذي يؤمن لهم القاعدة للانطلاق في تطبيق أفكارهم، واللجوء إلى العنف المسلح لضرب الدولة الوطنية والانقضاض عليها بعد ذلك.
الإرهاب هو سلاح الإخوان، وكل التنظيمات الدينية المتطرفة المتأسلمة، والجماعة هي في نفس الوقت أحد أدوات تركيا للتمدد عسكريًا في ساحات الدول العربية.
أما فيما يخص بارتدادات التحالف بين تركيا والإخوان، فإن مدخل استغلال العلاقة مع الإخوان لدعم مشروع تركيا الإقليمي لا يقتصر ارتداداته على العلاقة مع مصر. فقد شكل ذلك ملامح الاقتراب التركي في التعاطي مع الأزمة السورية منذ عام 2011، حيث جعلت أنقرة من أراضيها منطلقًا لتحرك المعارضة السورية، لا سيما جماعة الإخوان، ولاحقًا، وظفتها عسكريًا من خلال عملياتها العسكرية في الميدان السوري، وهي استراتيجية أن اختبرتها في العراق عبر قوات «الحشد الوطني» التي ضمنت من خلال علاقاتها معها ذريعة البقاء في مخيم «بعشيقة» في مدينة الموصل.
كما عملت تركيا على تبنى ذات النهج حيال إخوان ليبيا، وكذلك حركة حماس، التي تمثل الفرع الفلسطيني من جماعة الإخوان. فقد عمدت تركيا إلى توسيع هامش المناورة أمام الحركة في مواجهة بقية الفصائل الفلسطينية، وكذلك في مواجهة الدولة المصرية، وتبنت أنقرة مواقف هذه الحركة دون غيرها من الفصائل الفلسطينية، واختصرت دعم القضية الفلسطينية وتمثيلها حماس من منطلق إخواني. كما شكلت علاقاتها مع حزب الإصلاح اليمني أحد محدودات مواقفها من حرب اليمن.
وعلى الرغم من أن جماعة الإخوان شكلت محددًا في سياسات تركيا الخارجية حيال الدول العربية، غير أنها لم تبدو كذلك حين أقدمت أنقرة على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وذلك على نحو دفع الجماعة إلى إصدار بيان - قبل طوفان الأقصى - رسمي يحاول إعادة تلوين الحدث، وذلك عبر استغلال قضية الحصار الإسرائيلي على قطاع غزّة للتغطية على عودة العلاقات الإسرائيلية - التركية إلى مسارها التعاوني. وقد ورد في البيان أن جماعة الإخوان المسلميين ترحب بمساعي السلطات التركية لتخفيف الحصار عن غزّة، وأضاف: «إن أي جهد لفك الحصار عن غزّة هو جهد مشكور».
لقد تبنت العديد من الدول العربية سياسات إعلامية مشابهة للسياسات المصرية بسبب التوجهات التركية حيال جماعة الإخوان. وربما يشير ذلك إلى أن هذه الجماعة كما مثلت فرصة للسلطات التركية في ساحات الصراع المجاورة، فإنها شكلت عبئًا ثقبلاً على الدولة المصرية في إطار علاقاتها مع القوى الإقليمية الرئيسية.