|
!!الحوار المتمدن والتحليق بالكتابة
صالح سليمان عبدالعظيم
الحوار المتمدن-العدد: 1759 - 2006 / 12 / 9 - 10:40
المحور:
ثقافة الحوار والاختلاف - ملف 9-12- 2006 بمناسبة الذكرى الخامسة لانطلاق الحوار المتمدن
مما لا شك فيه أن الطفرة الهائلة لاستخدام الإنترنت في العالم قد غيرت من الكثير من قواعد المراقبة التي اعتادت السلطات الرسمية الأمنية أن تمارسها في حق شعوبها ومواطنيها بشكلٍ عام، والكتاب والمفكرين منهم بشكلٍ خاص. فالأنماط القديمة من المراقبة مثل مصادرة كتاب، أو إغلاق صحيفة، أو منع دخول مطبوعة ما قد عفا عليها الزمن، وأصبحت من مخلفات العصور الماضية، التي ارتبطت بالأساس بالكلمة المطبوعة. أما في العصر الحالي، حيث استخدام الإنترنت، والصحافة الالكترونية، وانشاء المواقع المختلفة من أجل كافة الأغراض والتوجهات والمشارب، فقد فقدت رقابة الدولة، بمعناها الكلاسيكي، الكثير من نفوذها في مجال المراقبة والمتابعة واحصاء خلجات الشعوب ومواطن التفكير.
ولايختلف الوضع في العالم العربي كثيراً عما حدث في كافة أرجاء العالم، فالانتشار الواسع المدى للإنترنت، قد لعب دوراً كبيراً، وربما مضاعفاً، في الحد من رقابة الدولة في العالم العربي على الكلمة المكتوبة، وملاحقة الكتاب والمفكرين. فرغم ما تقوم به الدولة من اغلاق لبعض المواقع، وحجب للبعض الآخر، فإن الإنترنت قد أثبتت أنها الوسيلة الأكثر قدرة على التلون والالتفاف على أية محاولات رقابية قد تقوم بها الدولة في العالم العربي.
فالقائمين على هذه المواقع، ومعظمهم من المقيمين في الخارج، ومن حملة الجنسيات المزدوجة، يمكنهم أن يبثوا مواقعهم من أى مكان في العالم. وكلما حجبت لهم السلطات في العالم العربي موقعاً، فإنهم يعيدون انشاء آخر، ليبثون رسائلهم وهجومهم على هذه السلطات. بل إن اللافت للنظر هنا أيضاً، أن حجب موقع ليس مثل مصادرة كتاب أو مجلة، حيث يقوم مستخدموا الإنترنت عبر امكانية كسر البروكسي بالدخول على المواقع التي تجبها السلطات الرسمية.
في ظل هذا الاستخدام الواسع المدى للإنترنت في العالم العربي، وفي ظل ضعف الرقابة الخاصة بالدولة على مجريات وشؤون الإنترنت، فإن المثقفين قد وجدوا في ذلك فرصتهم الذهبية لإطلاق سراح المكبوت لديهم من أفكار ورؤى، وخصوصاً تلك التي تتعلق مباشرة بمهاجمة النظم الحاكمة في العالم العربي، وفضح مماساتها القمعية المختلفة. لا تقف المسألة عند هذا الحد، فقد أصبحت الإنترنت المأوى الآمن لمن لم يجد فرصته في التعبير عن آرائه وأفكاره، وبشكلٍ خاص تلك القوى التي تستشعر ظلم الأغلبية لها، مثل العديد من أبناء الأقليات في العالم العربي، سواء الأقليات دينية أو عرقية.
وفي هذا السياق، جاءت الكثير من المواقع على خلفية تصفية الحسابات مع الأنظمة الحاكمة في العالم العربي، بل إن الكثير منها قد جاء على خلفية تصفية الحسابات مع الأغلبية من المواطنين، ومع العروبة، ومع الإسلام، وحتى مع اللغة العربية التي يكتبون بها. كما أن الكثيرين من الكتاب قد وجدوها فرصة لتصفية الحسابات مع العديد من الكثير من العادات والتقاليد والقيم المجتمعية العربية التي لم يستطيعوا لفترات طويلة مناطحتها ومواجهتها، وذلك بسبب من قبضة المؤسسات الرسمية الحكومية أو لهيمنة العديد من المؤسسات الدينية التقليدية المحافظة.
واللافت للنظر هنا أن العديد من هذه المنابر العربية تؤكد في التعريف بنفسها على أنها منابر حرة تتوخى الكلمة الحرة واحترام الرأى والرأى الآخر. أما ما يُمارس عبر هذه المواقع فهو لا يرتبط بهذا التوجه على الإطلاق، حيث سيادة الرأى الواحد، والتوجهات المسبقة، التي تتيح للبعض نشر ما يريدون، وحجب ما لا يريدون نشره، ولا يتفق مع أهواء القائمين على هذه المواقع. لذلك، جاءت العديد من هذه المواقع وهى تحمل نفس سمات الأنظمة والمؤسسات العربية من حيث القمع وحجب الصوت المخالف والمعارض لتوجهات القائمين علي الموقع.
ولو أن أصحاب هذه المواقع قد أعلنوا منذ البداية أهدافهم من انشاء مواقعهم، والأهداف التي يتوخونها من وراء ذلك، لأراحوا واستراحوا. فمن حق أبناء الأقليات أن يُنشئوا موقعاً يدافعون من خلاله عن حقوقهم، ويفضحون فيه السلطات التي تغتصب حقوقهم. لكن أن يعلنوا أنهم يستهدفون اشراك الجميع من أجل التوصل لحلول جذرية تفيد المواطن العربي أينما كان بغض النظر عن عقيدته وانتماءاته العرقية، ثم نجد أنهم وعبر مواقعهم يدافعون فقط عن مصالحهم الضيقة، بغض النظر عما يصيب الجميع من مآسي وكوارث، فهو ما يضع هذه المواقع في دائرة الاتهام، ويقترب بها من نفس الممارسات التي تقوم بها الأجهزة القمعية الرسمية في العالم العربي.
في هذا الإطار، يمكن تقييم موقع الحوار المتمدن، وهو يستهل عامه السادس من الوجود على ساحة الإنترنت. ففي ظل هوجة المواقع الإنترنتية في العالم العربي، ظهر موقع الحوار المتمدن مثل غيره من المواقع الأخرى، من خلال مجموعة من الكتاب والمفكرين والمثقفين والنشطاء العراقيين، برغبة متعالية، حتى ولو شكلياً، على الهويات المُقيدة والضيقة والمرهونة لأهواء الغير وتطلعاتهم، الذين حددوا أهدافهم في نشر الآراء والأفكار بشكلٍ حواري ديمقراطي متمدن. وربما يفيدنا في هذا السياق ما أعلنه الموقع ذاته في صدر صفحته الأولى، حيث بيان الموقع المختصر، إذا جاز اللفظ، والذي جاء فيه أن الحوار المتمدن "أول صحيفة يسارية علمانية الكترونية يومية مستقلة في العالم العربي، منبر حر لنشر الآراء والحوار حول المواضيع المهمة المتعلقة باليسار، العلمانية, الديمقراطية, حقوق الانسان, التمدن, وحقوق المرأة. من أجل خلق مجتمع انساني, مدني, علماني, يكفل الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية الأساسية للإنسان."
وهو هدف متسع وفضفاض وعريض، وربما مائع ومرن، يجمع بين العديد من المتناقضات في الوقت نفسه. وربما جاء هذا التناقض من كون القائمين على الموقع أنفسهم هم من اليساريين الماركسيين السابقين، الذي دوختهم التحولات العالمية، وسقوط الاتحاد السوفييتي، والضعف الهائل الذي أصاب الفكر اليساري الماركسي العالمي من ناحية، والتحولات العاتية التي أصابت العالم العربي، وصبت في فائدة المعسكر الغربي الأمريكي من ناحية أخرى. كمأ أن هذا الإعلان الواسع الفضفاض يمثل الملجأ والملاذ لإيجاد صيغة توازنية توفيقية تحافظ على الرغبة اليسارية الحقيقية للقائمين على الموقع، وتمنح الموقع طابعاً ديمقراطيا، وأخيراً تحقق للراغبين في الإعلان عن هوياتهم، ومنهم القائمين على الموقع، أو للكثيرين ممن يحملون نفس الهويات العرقية، القدرة على التعبير عن أنفسهم، والإعلان عن تضحياتهم، والحفاظ على قومياتهم المهدرة.
وبسبب ذلك، جاء الموقع ممتلئاً بكل أنواع الكتابات والتوجهات والمشارب والأيديولوجيات، من مسلمين ومسيحيين ويهود، أكراد وشيعة وسنة، أغلبيات وأقليات، محافظين وتنويريين، ماركسيين ويساريين، رجال ونساء، أسماء لامعة وأخرى تبحث لنفسها عن وهج اللمعان ومساحة في الوجود. هكذا، جاء الحوار المتمدن عبر خمس سنوات من الوجود على ساحة الإنترنت. ورغم هذه الأجواء التي تحمل من كل بستان زهرة، أو من كل قلم انتاج، فإن الموقع، حمل بكل متناقضات الكتابة العربية، سواء من المقيمين بين أحضان العالم العربي، أو من المقيمين خارجه، في المهجر الأوروبي والأمريكي. ففريق ضد الحجاب وفريق معه، وفريق مع حسن نصر الله وفريق مع الحريري، وفريق ضد الأمريكان وفريق يدعو لقدومهم، وفريق ضد الإسلام وفريق يدعو له... إلخ من مثل هذه التناقضات التي حملها لنا الحوار المتمدن عبر العدد الواحد. وربما لا يوجد في عرض العالم العربي وساحاته الإنترنتية موقع قد جمع كل هذه التناقضات المقرفة والممتعة في الوقت نفسه مثلما هو الحال مع الحوار المتمدن.
وليس أجمل من هذه التناقضات الضخمة، سوى تلك الروحية التي سمح من خلالها القائمون على الموقع بنشر مثل هذه التناقضات الأيديولوجية العميقة في الفكر العربي المعاصر، حتى ولو جاءت متعارضة مع توجهاتهم اليسارية الماركسية، ومع انتماءاتهم العرقية الضيقة. فقليلة هى المواقع التي تستطيع ممارسة مثل هذا التجرد في السماح بعرض ما يخالف توجهات وأفكار القائمين عليها. هناك العديد من المواقع التي تدعي الحيادية، لكنها في التحليل الأخير تؤطر ما تنشر وفقاً لأهواء القائمين عليها، ووفقاً لأهواء مموليها والدول الداعمة لها. وربما يبدو هنا أن تلك التناقضات في النشر هى ما تكشف عن عدم خضوع الموقع لأية إملاءات مسبقة من بعض الدول وبعض التوجهات العربية المعاصرة، رغم النكهة العراقية الغالبة على الموقع. وهو الشيئ الذي نتمنى أن يستمر عليه الموقع، رغم تصاعد تكاليف استمراريته، وهو ما يلقي عبئاً علي الجمهور العربي في تدعيم الموقع ماليا حفاظاً على استمراريته، وعلى حياديته الرائعة.
أخيراً يصب ما سبق في مسألة على قدر كبير من الأهمية، وهى تحفيز الموقع، من حيث لا يدري، الكتاب على الكتابة. فمن خلال تنوع المواضيع والاتجاهات والأيديولوجيات، ومن خلال ثقة الكتاب بجدية الموقع، واحترامه لكتابه وقرائه على السواء، يستنفر الكتاب قواهم وقدراتهم من أجل التعبير عن آرائهم والتحليق بأفكارهم خدمة لأنفسهم ومصالحهم وانتماءاتهم. إن التضاربات الحادة التي يعرض لها الموقع، وتلك الانقسامات الهائلة، هى نبت طبيعي للواقع العربي المنقسم والمتشظي أصلاً. ومن خلال تلك المواقع الجادة مثل الحوار المتمدن يمكن للجميع أن يكتب وأن ينفث عن مشاعره ويعبر عن مصالحه وانتماءاته، لتبقى في النهاية الكلمة الصالحة العلمية، القادرة على التحليل المجتمعي العميق، هى الأكثر بقاءً والأكثر استمرارً. تحية للقائمين على الموقع وعقبال مئة سنة عربية فوق الخمس سنوات السابقة!!
#صالح_سليمان_عبدالعظيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإصلاح السياسي في العالم العربي
-
خمسة وأربعون عاماً على رحيل فرانز فانون
-
صدام حسين، تاريخ الانقلابات
-
اختزال واقع المرأة العربية
-
-عراق على الوردي وثقافة -الكسار
-
أنماط معاصرة من المثقفين
-
ثقافة المفتاح العربية
-
كوندوليزا رايس والقيم البيضاء
-
هرمونات كرسي السلطة في العالم العربي
-
لماذا نكتب؟
-
أزمة الثقة في المجتمعات العربية
-
أزمة الثقة في المجتمعات العربية
-
قضاة يرفضون بيت الطاعة
-
الإنترنت مهد الكراهية
-
ليبراليون جدد أم مكارثيون جدد
-
تفعيل الكراهية
-
للمرأة الفلسطينية كل الإجلال
-
قراءة في بيان الليبرالية الجديدة
-
الشخصية العربية المعاصرة، قراءة أولية
-
11 سؤال عن 11 سبتمبر
المزيد.....
-
الأكثر ازدحاما..ماذا يعرقل حركة الطيران خلال عطلة عيد الشكر
...
-
لن تصدق ما حدث للسائق.. شاهد شجرة عملاقة تسقط على سيارة وتسح
...
-
مسؤول إسرائيلي يكشف عن آخر تطورات محادثات وقف إطلاق النار مع
...
-
-حامل- منذ 15 شهراً، ما هي تفاصيل عمليات احتيال -معجزة- للحم
...
-
خامنئي: يجب تعزيز قدرات قوات التعبئة و-الباسيج-
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تصفية مسؤولين في -حماس- شاركا في هجوم
...
-
هل سمحت مصر لشركة مراهنات كبرى بالعمل في البلاد؟
-
فيضانات تضرب جزيرة سومطرة الإندونيسية ورجال الإنقاذ ينتشلون
...
-
ليتوانيا تبحث في فرضية -العمل الإرهابي- بعد تحطم طائرة الشحن
...
-
محللة استخبارات عسكرية أمريكية: نحن على سلم التصعيد نحو حرب
...
المزيد.....
|