|
العتبات الممنوعة
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1759 - 2006 / 12 / 9 - 07:40
المحور:
ثقافة الحوار والاختلاف - ملف 9-12- 2006 بمناسبة الذكرى الخامسة لانطلاق الحوار المتمدن
1 يوماً ، كان العمرُ طفلاً والحياة أمامه كلها ، وبحولها . كنتُ يومئذٍ في منتصف الخامسة من عمري ، ألهو كغيري من لداتي بألعاب عشوائية الصنع ، يبتكرها لنا الأكبر منا سناً . وعلى حين فجأة ، دوى في الآفاق صدى الإطلاقات النارية الكثيفة ، التي ما لبث أن تخللها صيحات من حولنا من الكبار ، المتهاتفة بضرورة إلتزامنا المنازل . أتذكرُه غامضاً ، مبهماً ، ذلك الصباح الربيعيّ من يوم الثامن من آذار 1963 ، المُنبي بنذر الشرّ ؛ وخصوصاً لحظات إرتقائي سطح المنزل ، أسوة ً بالآخرين ، ممن راحوا يحدقون إلى مشهد مركز المدينة ، المترامي تحتنا . على أنه سرعان ما أُنزلنا عنوة ً من موقفنا ذاكَ ، إثرَ صيحة ثاقبة من العمّ الكبير ، المُهاب . ثمّ ما عتمَ أن إجتاحَ الحَيّ ، بعيْدَ ساعات اخرى ، قطيعُ الذئاب الحاقدة ، البعثية ، ناشرة ً فيه الرعبَ والفرَقَ ؛ حيّنا الكرديّ ، الذي كان موصوماً من لدنهم بالشيوعية والشعوبية . في ذلك العمر الغضّ ، شعرتُ للمرة الأولى بفقدان الأب ، مع إفاقتي في الصباح التالي مباشرة ليوم الإنقلاب ذاكَ ، الجهم ، لأعلمَ من إشارات مُلمّحةٍ بأنّ والدي قد تسلل إلى لبنان ، عبْرَ الحدود الجبلية ، القريبة نسبياً من الشام . عقدة الضياع لديّ ، ربما نشأت قبل ذلك بحين ٍ هيّن من الزمن ؛ مع إعتقال الوالد من قبل السلطات الناصرية وزجّه في سجن " المزة " ، الشهير ، حتى اليوم المشرقة فيه شمسُ الحرية . إثر عفو عام ، من الحكومة الإنقلابية الجديدة ، عاد أبي من منفاه ذاكَ إلى دمشق . إلا أنّ شمسَ الحرية ، لن يُقدّرَ لها الإشراق مرة اخرى ، أبداً .
2 يوماً ما ، والعمرُ فتىً بعدُ ، فيه ما فيه من طيش ٍ وطيبةٍ ومغامرة ، كان الوطنُ لنا جحيماً والغربة ُ أملَ خلاص ٍ . آنذاك ، بدا لنا الغربُ دارَ مسرّةٍ ، مقارنة ً بالوحشة المُكتنِفة ديارنا . السينما ، هيَ ذلك الفانوس السحريّ ، المتلامعة فيه بوارقُ أحلامنا تلك ، المهجرية . لشدّما كان تأثرنا قوياً بالأفلام الفرنسية خصوصاً ، بأبطالها وبطلاتها. كل شيء في حياتنا ، كان وقتئذٍ مضروباً عليه سورٌ من السريّة . حتى حلم التغرّب ، كنا نبثه لبعضنا البعض ، هامسين ، خشيَة الرقيب الواشي ؛ نحن الذين كنا أيامئذٍ على صلة تنظيمية بشبيبة الحزب الشيوعي ، والمُفترض بأعضائه ومناصريه النضال ضد الأفكار البرجوازية صغيرها وكبيرها . المفارقة ، أنّ تفضيلنا للأفلام السياسية ـ بحسب التصنيف السائد ، الإعتباطيّ ـ ما كان يمنع كلّ منا من الإسترسال في حلمه ذاك َ ، المُحلق في سماوات البلدان الرأسمالية . وفي المقابل ، فلم يكن ليخطر لنا آنذاك تبديد الوقت بأفكار تستدعيها مثل تلك المفارقة ، الموصوفة . بيْدَ أنني أتذكرُ يوماً ، حضرتُ فيه فيلماً فرنسياً ، يقدم مقاربة لمسألة الهجرة . كان الفيلم بعنوان " العتبات الممنوعة " ، يحكي قصة شاب تونسيّ ، جذبه بدوره حلمُ الغرب ليجد نفسه في باريس . تلك الرحلة ، الرومانسية ، إنتهت ببطلنا ثمة في السجن ، بعدما إتهمَ بجريمة قتل . تأثري بالفيلم ، أذكره تماماً ؛ ولكنني أستدرك أيضاً ، بأنّ قصته ظلت بالنسبة لي كحادثة فردية ، طارئة ، ما كان لها أن تبدد حلم الترحال ، المستوطن آنئذٍ باطني .
3 ها أنذا في الغرب ، أخيراً . عامٌ آخر ، ويكتمل العقدُ الثاني من غربتي هذه . لكأنما هاتان المفردتان ( غرب / غربة ) ، قد إستمدا من مصدر واحدٍ ، في قاموس العربية ؟ وبغض الطرف عن تلك المسألة اللغوية ، فثمة حقيقة لا جدال فيها ؛ وهيَ أنّ وجهة تغربنا ، نحن المنساحين من بلدان العالم الإسلاميّ ، لا تعرف غيرَ جهة " الغرب " . نحن هنا إذاً ، أتينا خلل الحدود الخطرة ، المُكتنفة بالألغام القاتلة أو الغابات المتاهية ؛ عبْرَ البحر الكبير ، بسفن المهربين غير الصالحة للإبحار ، أو بقوارب الصيادين ، المثقوبة ؛ على متن الطائرات العملاقة ، إن شاءَ لنا السعدُ ، متأبطين حقائب متبطنة جوازاتنا المزورة .. أتينا ، لأننا يجب أن نأتي . وسنأتي أبداً : هرباً من عالم الفقر والفاقة والحاجة والظلم ؛ هرباً من سرية أحلامنا وآمالنا وعشقنا ورغبتنا ؛ هرباً من الفروض والواجبات والنذور والقبور والجحور والآلهة والشياطين والملائكة والجان والعفاريت والطغاة ؛ هرباً من ذلك العالم الغرائبي ، المسحور ، الذي زعم رحّالة الغرب ، في القرون السابقة ، أنهم واجدون فيه ليالي " ألف ليلة " : الغرب نفسه ، ها هنا ، وعلى شواطئ حقيقته الصخرية ، القاسية ؛ أين كان على مراكب أحلامنا أن تتحطمَ هباءً ، لينثرها في كلّ الجهات ريحٌ هازئة ، هاتفة بنا : أتبغونَ الفردوسَ ، إذاً ؟ .. حسنٌ ، هذا هوَ !
4 نريدُ أو لانريد ، ها نحنذا هنا . وها هوَ جيلٌ آخر ، جديدٌ ، من الغرباء في سلالتنا . لكأنما الغربة قدَر هذه العائلة ؛ منذ هجرة جدّ أجدادها من موطنه الكرديّ ، الجبليّ العصيّ ، المتسلسل من " طوروس " ؛ هجرته ، المبتدهة في أواسط القرن التاسع عشر ، والتي أسحقتْ حتى " الشام الشريف . في سني تلك ، الموسومة آنفاً ، الشاهدة على الإنقلاب البعثيّ ، كانت العربية قد أضحتْ لغتي ، داخل المنزل وخارجه . وإبني بدوره ، ما عاد يتحدث هنا سوى بالسويدية ، مع شقيقته وأترابه على السواء . أما الكرديّة ، فلن تحتاج والدتي بعد لإستعمالها ، منذ وفاة أبي في هذه البلاد الشمالية ، قبل عامين تماماً. ولكن اللغة ، على أهميتها ، لم تكن كل شيء . لقد فقدنا هنا ، في هذه البلاد الأكثر رقياً ، سعادة أن نكونَ " نحنُ " . أضحت حياتنا هبة ً لا حقاً ؛ وبواقع أنّ المادة ، في هذا المجتمع الصناعيّ ، أساسُ الحياة : بكلمة اخرى ، صرنا عالة . فحقّ العمل ، كأهمّ مثال ، مكفولٌ للجميع . هذا صحيح . بيْدَ أنّ الأمر ، ليس بهكذا مساهلة . لن نتكلم عن مقابلة ، تفصحُ عن " فضيحة " شعركَ الأسود ، بل عن مكالمة هاتفية مع ربّ عمل ما . فما أن ترطن ببضع كلمات ، إلا ويكون أمركَ قد حُسِمَ : آسفون ، لا مكانَ شاغراً لدينا في الوقت الحالي .. نرجو لكَ التوفيق ، في المرة القادمة ! ولن يجوز لنا ، للحقيقة ، تجاهل الحرية الكاملة هنا ، فيما يتعلق بممارسة الشعائر أو الأفكار سواءً بسواء . ولكنّ ما يُسمى في أوروبة ، عموماً ، بـ " سياسة الدمج الثقافي " ، لا تختلف في الواقع ، سوى شكلاً ، عن تلك السياسة ، الشوفينية ، التي أكلنا ثمارها ، المرّة ، بيَدِ أنظمتنا المشرقية ، المُستهجّة رأياً وعقلية ومسلكاً . هنا وهناك ، تبدو " الأقلية " بتنويعاتها الأثنية أو الدينية مشكلة ً أكثرَ منها حالة طبيعية ، صحية ، تعبّر عن جدلية التعدد والوحدة في المجتمع . فلا غروَ إذاً ، ألا يختلف كثيراً توصيفُ هذه " المشكلة " عندَ كليْهما ؛ أهل الديمقراطية الغربية وأهل الإستبداد المشرقي !
5 " العتبات الممنوعة " ؛ هذه هيَ ، حقا . قبل ثلاثة عقود ، أو تزيد قليلاً ، ما قدّر لي إستكناه المعنى الكامن خلف عنوان ذلك الفيلم ، الفرنسيّ . كان في ذهني عنوان آخر لهذا المقال ، " الجنّة المحرّمة " ؛ يُحيل إلى قصّة الطرد من الفردوس ، المعروفة بواقعتها الدينية . وإذ أوغلتُ هنا ، في مقالتي ، بالخصوصيّ في حياتي ، فلا بدّ من إستئذان القاريء بالمضيّ فيها إلى خواتيمها . فها هوَ شهر ديسمبر ، يُعيد إليّ ذكرى من كانوا قريبين إلى روحي . أتذكرُ أول من شاءَ له قدرَه أن يموت ، في شهر الميلاد هذا : إنه قريبي وأقرب أصدقائي ، " حسون " ، من كانَ شريكاً لي في ذلك الإلهام ؛ غواية الغرب : كان معنا آنذاك ، في كلّ غارةٍ صديقةٍ على صالتنا السينمائية الأثيرة ، " الكندي " . ولا يمكن لي ، في هذا المقام ، أن أسلوَ دموعه المتساقطة بفرحة طفلة ، حينما راحَ ذات مرة ينصت مبهوراً لتخلقاتي ، التي لا تقل طفولية ، المُسهبة في مغامرتنا القادمة ، المفترضة ، والمتجهة بأحلامنا إلى باريس ! عقد آخر ، يسير في ركابنا . ثمّ أجدني في غمرة الإحباط ، إثر عودتي من موسكو وفشلي هناك دراسياً . ولكنّ " حسون " كان ثمة في دمشق ، إلى جانبي : " لا يجوز لنا اليأس .. هل نسيتَ أحلامنا ، الفرنسية ؟ " ، يخاطبني صديقي بقوّة الإلهام ذاكَ ، القديم . ثمّ يمضي عقد تال ، ونجتمع معاً في أوروبة ؛ إنما في أقصى شمالها ، في ستوكهولم . كانت رفقتنا قد أشغرَتْ عن دروب الوطن ، بدءاً برحيلي إلى السويد في أواخر الثمانينات ، ومن ثم إلتجاء صديقي هذا ، إلى ألمانيا ، بعد ذلك التاريخ بعشرة أعوام تقريباً . ولكنّ " حسون " لم يمكث في السويد . عاد إلى موطن الجرمان ، بعد ثلاثة أشهر حسب ؛ عاد ليموت هناك ، على عتباته الممنوعة .. وربما إنتحاراً ؟ بدوري ، لم أتجاوز تلك العتبات ، وما كان ليجوز لي ذلك أبداً : كان عليّ أنا الكاتب ـ هنا في بلد " نوبل " الآداب ـ أن يظل إسمي مغموراً بين أوساطه الثقافية ؛ إسمي نفسه ، الذي أضحى بالمقابل " مشهوراً " في محاضر تحقيق البوليس وأروقة المحاكم ، بعدما لفِقتْ لي مؤخراً تهمة التهديد بالقتل .
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العصابة البعثية والتفجير الطائفي
-
سياحَات : دمشق بأقلام الرحّالة 1 / 2
-
جرائم أجاثا كريستي ، اللبنانية
-
الحزب الإلهي وأولى ثمار الحرب الأهلية
-
ناصر 56 : الأسطورة والواقع
-
رحلاتٌ إلى مَوطن الجرْمان 3 / 3
-
النظامُ القرداحيّ والقرون اللبنانيّة
-
رحلاتٌ إلى مَوطن الجرْمان 2 / 3
-
صدّام ؛ صورٌ شخصيّة للطاغيَة
-
مشاهدات : جولة في دمشق العثمانيين 2 / 2
-
مشاهدات : جولة في دمشق العثمانيين 1 / 2
-
رحلاتٌ إلى مَوطن الجرمَان 1 / 3
-
الحارَة ؛ بابُها وبشرُها
-
مشاهدات : جولة في دمشق صلاح الدين 2 / 2
-
زبير يوسف ؛ في منحَتِ الحَديد والتحدّي 2 / 2
-
مشاهدات : جولة في دمشق صلاح الدين 1 / 2
-
زبير يوسف ؛ منشدُ الأزمان القديمة
-
إسمُ الوردَة : ثيمة الجريمة في رواية لباموك
-
أورهان باموك والإشكالية التركية
-
معسكراتُ الأبَد : شمالٌ يبشّر بالقيامَة 2 / 2
المزيد.....
-
أمريكا تكشف معلومات جديدة عن الضربة الصاروخية الروسية على دن
...
-
-سقوط مباشر-..-حزب الله- يعرض مشاهد استهدافه مقرا لقيادة لوا
...
-
-الغارديان-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي ل
...
-
صاروخ أوريشنيك.. رد روسي على التصعيد
-
هكذا تبدو غزة.. إما دمارٌ ودماء.. وإما طوابير من أجل ربطة خ
...
-
بيب غوارديولا يُجدّد عقده مع مانشستر سيتي لعامين حتى 2027
-
مصدر طبي: الغارات الإسرائيلية على غزة أودت بحياة 90 شخصا منذ
...
-
الولايات المتحدة.. السيناتور غايتز ينسحب من الترشح لمنصب الم
...
-
البنتاغون: لا نسعى إلى صراع واسع مع روسيا
-
قديروف: بعد استخدام -أوريشنيك- سيبدأ الغرب في التلميح إلى ال
...
المزيد.....
|