تلاشت مشاهد الاستقبال الكبير والاحتفالي الذي أعدته الأحزاب الكردية في شمال العراق / كردستان ، لأول حاكم أمريكي للعراق هو الجنرال "غاي غارنر" وحلت محل تلك المشاعر المحتدمة والمجاملات التي بلغت حدا جعل جلال الطالباني رئيس حزب الاتحاد الوطني الكردستاني يقترح على "غارنر" الإقامة الدائمة في بلده الثاني " كردستان " حين يبلغ السن التقاعدي ، حلت محلها إذاً حالة من الجفاء والحذر و الانسحاب من الميدان الشبيهة كثيرا بحالة المقاطعة غير المعلنة للحاكم المدني الأمريكي الجديد وخليفة "غارنر " السيد "بريمر" . فما الذي حدث ويحدث في حقيقة الأمر ؟ وهل هناك مشكلة أو أزمة عميقة في العلاقة بين الجانبين ،دفعت بشهر العسل الكردي الأمريكي إلى نهايته القاتمة ، أم إن الأمر لا يعدو كونه حالة عابرة من سوء الفهم بين حلفاء طريق طويل ؟
لقد راهنت الأحزاب الكردية مبكرا ، وبعد تردد لم يدم طويلا ، على المشروع الأمريكي للتغيير في العراق عن طريق الحرب ، وقد بذلت تلك الأحزاب ( يتعلق الأمر في الحقيقة بحزبين كبيرين هما الاتحاد الوطني والديموقراطي تلتف حولهما مجموعة متنوعة من الأحزاب الحليفة الصغيرة ) جهودا كبيرة لتأكيد عمق تحالفها مع الإدارة الأمريكية واندراجها في مشروعها الاستراتيجي ، وقد فهمت القوى الكردية مبكرا جدا أن وزنها السياسي إقليميا لم يعد يعتد به لأسباب كثيرة منها : التحالفات الهشة والمتشابكة التي عقدتها مع جميع الدول الإقليمية ، إضافة إلى إنها لم تكف قط عن التفاوض السري وشبه السري حتى مع نظام "صدام حسين" ولفترة قصيرة قبل سقوطه ،مما جعلها تعاني من حالة مستمرة من تآكل وزنها السياسي على الأرض ترافقت مع تحولها إلى طرف مستهدف من قبل حلفاء الأمس الإقليميين بعد احتلال بغداد وليس لها من مظلة تحتمي بها في الوقت الحاضر غير تلك التي يتأبطها "بريمر" .
لقد لعبت التصريحات والوعود الأمريكية السخية نحو الأكراد وطموحاتهم وحقوقهم في فترة ما قبل الحرب دورا فعلا في تسريع قيام تحالف مهم وراسخ بين الطرفين . و معروف أن تلك التصريحات الأمريكية السخية ،وخصوصا تلك التي ترددت أصداؤها في ردهات مؤتمر "لندن " للمعارضة العراقية والمؤتمرات والاجتماعات السياسية التي تلته، لم تقفز – أمريكيا - على الخط الأحمر الإقليمي والمتعلق بموضوع إقرار وفرض نظام الحكم الاتحادي " الفيدرالي " في العراق من طرف واحد ودون أن يكون الموضوع مشروطا باستفتاء شعبي يقره أو لا يقره . ويبدو إن علينا أن نضع يدنا على هذا العنصر من عناصر الدفع باتجاه حالة الأزمة الراهنة ولكنه لن يكون العنصر الأهم أو الأوحد . غير أن الأحزاب الكردية استمرت في تعاونها وتعاملها الإيجابي مع الإدارة الأمريكية وممثلها الجديد في بغداد ، ونفذت ما أنيط بها من التزامات أمنية وسياسية كثيرة رغم حدوث العديد من الثغرات والانتكاسات كما حدث مثلا خلال عمليات طرد العراقيين من أصول عربية من مدن وقرى عديدة في المناطق الشمالية أو تلك المحاذية للمناطق ذات الغلبة الديموغرافية الكردية ، ثم جاءت الانتكاسة الأكبر في العلاقات بين الجانبين حين طوى "بريمر" وعود ومخططات "غارنر" و "زلماي خليل زاده" بإقامة حكومة عراقية مؤقتة وانتقالية ، وسحب البساط من تحت أقدام الجميع في الحالة السياسية العراقية التي تشكلت بعد سقوط بغداد ليقدم لهم بدلا منه نسخة غامضة من " مجلس عراقي للمستشارين " . وقد تساوق ذلك مع استصدار الولايات المتحدة لقرار جديد من الأمم المتحدة تقر فيه بأنها قوة احتلال في العراق وتتحمل مسئوليات الدولة المحتلة ولكن أيضا تتمتع بحقوقها كطرف منتصر .
إلى هنا والمصيبة عامة كما يقال وليست خاصة بالأكراد فقط ،ولكن لماذا بادرت الأطراف الكردية إلى الانسحاب السريع والمفاجئ واختفت من الساحة اختفاء شبه تام ؟ هل هناك مخاوف أخرى تمليها الحالة الجيوسياسية على الأرض وتصاعد العمليات العسكرية التي تستهدف القوات الأمريكية ؟ أم هي حركة استباقية اضطرت إليها الأحزاب الكردية تحسبا لما قد يلجأ إليه بريمر في حالة حدوث انهيار شامل أو تمرد شعبي واسع في المناطق الكردية ؟ ويمكن النظر بواقعية إلى هذا الاحتمال في ضوء بوادر وإشارات كثيرة على حدوث ذلك التمرد الشعبي . فمنذ فترة ليست بالقصيرة تعاني المناطق التي تسيطر عليها الأحزاب الكردية في الإقليم من مشاكل أمنية كثيرة اضطر معها بعض المسؤولين الكبار للتدخل في محاولة لوضع حد لحالة الانفلات كما حدث حين تدخل السيد "جلال الطالباني" علنا وعبر أجهزة الإعلام وطالب أجهزته بمنع تحول مدينة السليمانية التي تسيطر عليها إلى قاعدة وتجمع ضخم للسيارات والآليات المسروقة من شتى أنحاء العراق ، و هناك أيضا أزمة سيولة مالية تعاني منها المؤسسات الرسمية ، منعتها من صرف مرتبات العمال والموظفين لعدة أشهر وكساد تجاري متفاقم ..الخ . ولكن ما الذي يمكن أن يلجأ إليه بريمر من بدائل في حال إصراره على تمشية خيار الحكم المباشر للعراق ورفض الطبقة السياسية العراقية عموما وفي المنطقة الكردية خصوصا والتي احتفظت حتى الآن بعلاقات ودية مع الإدارة الأمريكية الحالية لهذا الخيار ؟ هل يداخل الأحزاب الكردية شعور بالقلق من لجوء الحاكم الأمريكي لرفع السوط التركي في وجه أية حالة رفض أو تمرد على مشروع الاحتلال والحكم المباشر ؟ هذه كلها أسئلة تستشرف آفاق الحالة الراهنة للعلاقات بين الإدارة الأمريكية وحلفائها العراقيين في ما كان يسمى قبل الاحتلال "المعارضة العراقية " عموما وبالأحزاب الكردية العراقية تحديدا .
لقد مَثَّلَ "غاي غارنر" مرحلة أولية لها ظروفها الخاصة لتأسيس شكل من أشكال إدارة الأوضاع العراقية لفترة ما بعد سقوط بغداد ، ولهذا كان خطاب "غارنر" وحركته السياسية اليومية وطبيعة علاقاته محكومة بتلك الظروف الخاصة والتي وسمت بميسم الانفلات الشامل والفوضى المعممة ، ومع تراكم الإنجازات الصغيرة وترسخ أقدام الوجود الأمريكي البريطاني في العراق بدأت مرحلة جديدة مختلفة تماما عن سابقتها ، فإذا كان "غارنر" يُـمني العراقيين بحكم "وطني" خلال بضعة أسابيع ،تحولت قبل رحيله بقليل إلى بضعة أشهر ، فإن الحالة العامة ومع انقضاء أسبوعين على قدوم بريمر انقلبت إلى شيء آخر ومختلف تماما ، فأعلن هذا الأخير صراحة عن مشروعه للحكم المباشر بمساعدة مجلس من "المستشارين العراقيين" فيما راحت مصادر الخارجية البريطانية تتحدث اليوم عن احتمال أن يطول بقاء القوات البريطانية في جنوب العراق لأربعة أعوام (صحف 17/6/2003 ) .
واضح أن الصورة مشوشة لدى جميع الأطراف ما عدا الطرف المقرر والمخطط وهو الطرف الأمريكي ، وسوف تضطر القوى السياسية العراقية ، والتي كانت ومازالت صديقة للأمريكان إلى مراجعة برامجها وشعاراتها بهدف الخروج من هذا المأزق الذي ُدفعت إليه دفعا بأقل الخسائر فلا أحد يفكر بعد الآن ببطر الحصول على الأرباح . أما القوى السياسية العراقية التي ناوأت الوجود الأمريكي وقابلته بالعداء منذ البداية ولكنها لم تدعُ إلى المقاومة العنيفة ضده واكتفت حتى الآن بالدعوة إلى المقاطعة أو الامتناع عن التعاون ،فسوف تراجع هي الأخرى برامجها وشعاراتها وتنتقل بسرعة تتناسب وكثافة وإيقاع الأحداث السياسية والأمنية والاقتصادية إلى طور آخر من أطوار التعامل مع الوجود الأمريكي . وسيكون منطق هذه القوى مدعما بحجج قوية وعوامل تفعيل كثيرة وفرتها النقلة السياسية الخطيرة التي جسدها بريمر في مشروعه للحكم الأمريكي المباشر للعراق .
في هذه اللوحة المتشابكة والسريعة التشكل والتغير ستواجه القوى والأحزاب الكردية العراقية استحقاقات مهمة ، لبعضها طابع تاريخي ورئيسي ، ولكي تقوم تلك القوى والأحزاب بأداء ما عليها من واجبات ومسئوليات يلزمها أولا وقبل كل شيء التخفيف من غلواء رهاناتها السياسية على الخارج ، خصوصا وإن تلك الرهانات أضحت خاسرة باعتراف الجميع ، وهذا بدوره يستلزم تغير بوصلة الرهانات والتحركات السياسية ودفعها نحو العمق العراقي الاستقلالي عموما والكردي خصوصا ، والتخلي عن منطق فرض الأمر الواقع والاستقواء بالآخر القوى ، وخصوصا فيما يتعلق بمشكلات الحكم وشكل الدولة العراقية التي تشترط الأحزاب الكردية أن يكون اتحاديا " فيدراليا " قسريا و دون أن يكون للشعب العراقي رأي في هذا الموضوع الذي يهم حاضره ومستقبله .
إنها أزمة عميقة بين أطراف الحالة العراقية إذاً ، وهي أزمة مفتوحة على احتمالات تنذر بتحولات وتغيرات كبرى ، و يخطئ خطأ استراتيجيا من يتصور أو يصور لجماهير الكرد العراقيين التي تعرف دقائق تاريخها جيدا إن ما حدث هو مجرد سوء فهم عابر ستعود بعدها المياه إلى مجاريها .
"الحياة "