"الديمقراطية شئ عقلاني في النهاية" مقولة كان يرددها الزعيم الهندي الراحل نهرو. ولعل مغزى القول هو أن إساءة إستخدام الديمقراطية قد تؤدي إلى البربرية. فهتلر وصل إلى دفة الحكم في ألمانيا عن طريق الديمقراطية، وحوَّل ألمانيا الديمقراطية في الثلاثينات إلى النازية والتي قادت إلى الحرب العالمية الثانية. فهتلر أساء إستخدام الديمقراطية بشكل بعيد عن العقلانية.
إذا إعتبرنا "الديمقراطية أفضل أنواع الحكم" إذا ما إستوعب الإنسان محاسنها وإيجابياتها، ومارسها بعقلانية، طبقا لمقولة وينستون تشرشل البريطاني، رغم أنه لا يخلو من أخطاء، فإننا نصل إلى فكرة جعل الديمقراطية هي الطريق الأمثل لتجنب الإستغلال والإضطهاد في داخل الدولة، إذا كانت الممارسة عقلانية. ولعل الديمقراطية بالنسبة لبلد متعدد الأثنيات والأديان واللغات كالعراق خير نموذج للحكم إذا ما أقتُرن بالتربية الديمقراطية، والتنوير، والثقافة الديمقراطية. ولدينا أمثلة كثيرة، تجعلنا نقتنع بجدوى الديمقراطية التنويرية على أساس الإعتراف بحقوق الإنسان والأقليات والأديان ضمن مؤسسات ديمقراطية مثل سويسرا مثلا. في حين هناك ديمقراطية شكلية في بعض الدول كتركيا، وهي مبنية على أساس الشكل والإنتخاب فقط، في حين أن الممارسة إستبدادية ولا تقر بحقوق الأفراد والقوميات الغير تركية.
تكثر التساؤلات هذه الأيام عن مدى ديمقراطية الأجواء السياسية والإجتماعية والإقتصادية في العراق بعد سقوط الصنم في 9 أبريل من هذا العام. وهذه التساؤلات لها ما يبررها لأسباب عديدة أهمها حرمان الشعب العراقي بعربه وكرده وأقلياته من التربية الديمقراطية والممارسة الديمقراطية، نتيجة تسلط الأنظمة الدكتاتورية على رقاب الشعب العراقي منذ عهد الجمهورية العراقية الأولى في 1958 ولحد هزيمة العقل الفاشي في 9 أبريل عام 2003. وقد تجاوز النظام الفاشي البعثي الصدامي حدود الدكتاتورية والإستبداد إلى ممارسة الإرهاب والقهر والمجازر وغسل الدماغ ودفن المعارضين أحياء والإغتصاب ودوامة الحروب على الدول المجارة للعراق. إضافة إلى سياسة محو الشخصية القومية للشعب الكردي والأقليات القومية والدينية الأخرى، والتهجير والتعريب وحرق القرى، والقائمة طويلة. كما نجح الحكم الفاشي في شراء الذمم والنفوس الضعيفة من الصحفيين وجعلهم صحّافيين على شاكلة محمد سعيد الصحّاف بما فيهم بعض الفضائيات العربية المريضة، مستخدما بذلك الأموال العراقية النفطية لتثبيت حكم القمع والإرهاب. في هذه الأجواء تربى أجيال كثيرة من الشباب منذ 1968 ولحد اليوم، في أجواء عبادة الشخصية، والخوف من الذات والخوف من الآخر إلى درجة فقدان ثقة الأب بالإبن، والأم بالبنت. وفي كل ذلك كانت الديمقراطية كفرا، والممارسة الديمقراطية تجاوزا للقانون، وإعتداء على السلطان. في هذه الأجواء العراقية عاش العراقي الذي فُقد مواطنته وأصبح في خدمة الوالي الذي فرض أن يُعبد أصنامه في ساحات العراق.
جاء التغيير في 9 أبريل من هذا العام، واعتبر الخبراء السياسيون والإستراتيجيون بأنه تغيير غير متوقع بتلك السرعة، بل إعتبروه صدمة غير متوقعة. لقد سقط الصنم وهرب الطاغوت واختفى، وحدثت المعجزة. دخلت القوات الأمريكية والبريطانية العراق محررين/ محتلين. ولم تستطع الجماهير العراقية إستيعاب الوضع الجديد بسرعة، وهي لا تُلام في ذلك، لأن هذه الجماهير بصراحة متناهية، وبأسى عميق في القلب، يعيشون في حالة تردد بين الماضي المؤلم، والحاضر المضطرب، والمستقبل المجهول. هذه الجماهير التي تستحق أعظم الإحترام والتبجيل، وهي التي كانت معرضة لعمليات الإبادة والإهانة والذل في ظل حكم الطاغوت، نهضت من قلقها النفسي، وفتحت عيونها في الظلام، وخرجت إلى النور، فاصطدمت بخيوط الشمس البنفسجية التي أثرت في النفوس والقلوب قبل العيون. وأخذت تستنشق الهواء الصافي وتتنفس في أجواء جديدة لم تعايشها، خاصة بالنسبة للذين ولدوا بعد إنقلاب البعث في 1968.
الوضع قد يختلف نسبيا بالنسبة للشعب الكردي وبعض الأقليات التي كانت تعيش في كردستان العراق بعد إيجاد المنطقة الآمنة عام 1991، والإنتخابات البرلمانية الكردستانية في 2 أيار 1992. وأؤكد القول بأن الإختلاف نسبي، فمن جهة تخلص الشعب الكردي والأقليات في كردستان من حكم البعث المباشر، ومن جهة أخرى كانت كردستان معرضة لحصارين، الحصار العراقي من جهة، والحصار الدولي من جهة أخرى. لكن كان هناك بعض الممارسات الخاطئة التي مارستها القيادات الكردية، إلى عام 1998، حيث حرب إقتتال الأخوة الأكراد ضد بعضهم البعض، وشمل الإقتتال بين فصائل الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب العمال الكردستاني والإتحاد الوطني الكردستاني والتنظيمات الإسلامية والإسلاموية. وحدثت تصفيات جسدية، وتفجيرات وأعمال إرهابية من قبل الكرد أنفسهم ضد بعضهم البعض في منطقتي سوران وبادينان، وخاصة من قبل الإسلامويين، وتشَكل أقليمين كرديين يحكمهما تنظيمان إثنان، مع برلمانين وحكومتين. وأنا هنا لست بصدد نقد الوضع في كردستان، فقد كان الوضع في المنطقة المحررة لكردستان أفضل بكثير من بقية أنحاء العراق. وإشارتي إلى كردستان بالذات هو لفهم ما يمكن أن يسير بنا الوضع في العراق، وعليه لابد من الإستفادة من التجربة الكردية، وما يمكن أن يفرزها الوضع من ترسبات في الأجواء الديمقراطية، وهذا شئ طبيعي سواء كان في كردستان أو العراق بعد التغيير الذي حصل وما يمكن أن يحدث.
أنا هنا بصدد فهم الوضع العراقي ككل، فالكرد شأنهم شأن العرب، لم تكن لهم تربية ديمقراطية، ولا ممارسة في العمل الديمقراطي، فاصطدموا بالواقع الجديد بعد تشكيل المنطقة الآمنة، ومعايشة وضع شبه ديمقراطي إلى وضع ديمقراطي بعد الوضع الإستبدادي الإرهابي الذي قاده نظام صدام حسين. وكان لابد من حدوث تجاوزات وإصطدامات وخروقات قانونية وما شابه بين القيادات الكردية. وتحَسَن الوضع تدريجيا، واستوعب الشعب الكردي التطورات الجديدة، وأدرك مدى خطورة التدخلات الأقليمية في خلافات الكرد، وخاصة التدخلات الإيرانية والتركية والسورية والعراقية طبعا. وامتثلت القيادات الكردية إلى حكم العقل بدلا من حكم الدولار وعائدات الكمارك والعشائرية في السنين الأولى من التجربة الديمقراطية، فاتفقت على إنهاء حرب إقتتال الأخوة، وحل التناقضات الأساسية ولو جزئيا لحد الآن، وبمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية بموجب إتفاقية واشنطن التي سميت "إتفاقية المصالحة والسلام" في 17 أيلول عام 1998. لكنني مقتنع لحد اليوم بأن كثير من الحساسية والتناقضات لا زالت باقية بين بعض التنظيمات والقيادات الكردستانية. ولا زال أمامنا أقليمين كردستانيين وحكومتين إحداهما في أربيل والأخرى في السليمانية، رغم الإجتماعات المشتركة. ونتمنى توحيد الأقليمين والحكومتين والبرلمانين بشكل كلي وعملي، لخير الشعب العراقي ككل.
وإذا ما قارنا الوضع في العراق بشكل عام بعد سقوط حكم الإرهاب البعثي في 9 أبريل عام 2003، بالوضع الكردي بعد تشكيل المنطقة الآمنة في عام 1991، والإنتخابات البرلمانية الكردية عام 1992 لأدركنا مدى وعي الشعب العربي بالمقارنة مع الشعب الكردي. لقد تجاوز العرب حربا أهلية على غرار الحرب الكردية الكردية لحد الآن، لكن خطر الزلزال الداخلي قائم، إذا لم يجد الشعب العراقي، وقياداته حلا للوضع الجديد. وهنا تقع المسؤولية على عاتقنا جميعا نحن العراقيون في الداخل والخارج، بالعمل بجدية وإخلاص مفعمين بالمسؤولية، بعدم تشنج الأوضاع، وإفشال مخططات الأعداء في الداخل والخارج أيضا.
إذن، التردد الذي ذكرته أعلاه، وما نجابهه في الخارج، وما تجابهه جماهيرنا العراقية الباسلة في الداخل، وهي الأهم، هو تردد مشروع ومقبول. لكن بيت القصيد هو الجواب على السؤال الكبير، وهو:
"هل تجد القوى الوطنية العراقية - الأسلامية والعلمانية نفسها قادرة على ممارسة دورها من خلال تشكيل حكومة وطنية تمثلها ، تساهم في بناء حاضر ومستقبل العراق الجديد أو تشكيل حكومة ( تكنقراط ) ، تتولى هي إدارة البلاد وصياغة مستقبله السياسي والأقتصادي ، تكون قريبة من طموحات وتطلعات الشعب العراقي ؟"
القوى الوطنية العراقية – الإسلامية والعلمانية – ليست قوى غريبة عن المجتمع العراقي، فهي تدخل في صميم النسيخ الإجتماعي العراقي، وهي بالتالي نتاج الآلام والمأسي التي عاناها الشعب العراقي في الداخل، وحتى بالنسبة للمعارضة العراقية في الخارج أيضا. فقد كانت المعارضة في إحتكاك وتواصل مع الداخل بكل تفاصيلها، وكانت تتعايش مع الظلم الذي كان يعانيه ويتعرض له الشعب في الداخل. وأعتقد جازما بأن هذه القوى ستكون على مستوى نسبي من المسؤولية، وهذه النسبية قادرة على تجاوز الأزمة نسبيا أيضا لبضعة سنين، إلى أن تستوعب الجماهير الوضع، وتلتحم مع هذه القوى الوطنية. ويجب أن نعترف بأن هناك ثقة مشوبة بالشك بين الجماهير والقوى الوطنية، لكنني لا أعتبر ذلك غريبا. فللشعب الحق في ذلك، لأن التردد الذي ذكرته أعلاه سيبقى قائما بعض الوقت، مثلما هو قائم بين الكرد أنفسهم لحد اليوم رغم مرورهم بالتجربة الديمقراطية النسبية في كردستان منذ الإنتخابات في أيار 1992.
فقدرة القوى الوطنية العراقية على تشكيل حكومة وطنية مطعمة بشكل أساسي بعناصر وطنية وتكنوقراطية ملمة بالسياسات الداخلية والدولية. عناصر كفوءة تستوعب مشاكل الجماهير، وتعمل لإيجاد حلول لتلك المشاكل، وتساهم في توعية جماهيرية لكسب الثقة بالنفس، ولتساهم مساهمة جادة في صنع القرار الشعبي بعيدا عن الخلافات الحزبية والطائفية والعرقية والمذهبية. وأن يكون الوطن ومصلحته فوق الإعتبارات الشخصية والحزبية الضيقة، بعيدا عن التأثيرات والعقليات الإستبدادية البعثية. ولا بد من إستمرار الحوار الوطني – الوطني ، والحوار العراقي/ العربي، والحوار العراقي الأمريكي والأوربي، وفتح جميع الأبواب الوطنية والعربية والدولية لصالح العراق والمصالح الدولية المشتركة من أجل السلام. والعمل بمسؤولية للتوصل إلى صيغة براغماتية للحكم، والإنتقال التدريجي إلى الممارسة الديمقراطية النزيهة، والبناء الديمقراطي، وإجراء إنتخابات ديمقراطية في أوضاع إعتيادية، تساهم فيها الجماهير، والتأكيد على الكفاءات والنزاهة والوطنية والإخلاص.
أنا متفائل غير قانع، فتفاؤلي منبثق من ثقتي بالشعب العراقي العظيم، وبنضوجه السياسي، وقدرته على تجاوز الأزمة، لكن الحكم السرطاني الذي حكم العراق طوال 35 عاما، وإستئصال ذلك الورم السرطاني من جسم العراق، والجرح العميق في كيان الأمة، بحاجة إلى وقت ليلتئم، ولذك فإن هذه المرحلة حساسة وخطيرة. وفي هذا فإن المسؤولية لا تقع فقط على عاتق القوى الوطنية العراقية الإسلامية والعلمانية، إنما تقع على عاتق جميع العراقيين الشرفاء، رجالا ونساءا.
أما عدم قناعتي الممزوج بالتفاؤل، فهو أنني أريد أن يسير الوضع نحو الأمن والإستقرار والديمقراطية. فأنا لا أرضى بالوضع الراهن، وعليه فإن الشعب العراقي بحاجة إلى التعاون الجاد، والتخلص من التردد في الوقت الحاضر بعد سقوط الصنم، وضرورة العمل نحو الأفضل، وتكاتف الصفوف، والتجرد من المذهبية والعرقية والتعصب، والتخطيط لإستلام الشعب السلطة من القوات الأمريكية والبريطانية، ورحيل تلك القوات عن العراق، لجعل العراق حرا أبيا.
وأود هنا أن أؤكد بأنه يجب على الشعب العراقي أن لا يقع في الأخطاء التي وقع فيها الكرد، ولا يزال، في تجربته الديمقراطية عبر ما يقارب إثناعشر عاما. فالتنظيمات الكردستانية وقعت في أخطاء كبيرة جدا، لعل أهمها، حرب إقتتال الأخوة الكرد بين بعضهم البعض كما ذكرت آنفا، والتشنجات العشائرية والقبلية. لكن المشكلة الكبرى كانت ولا تزال التأكيد على التحزب السياسي المتزمت من قبل جميع الأحزاب، معتبرا الإنتماء الحزبي اساس الإلتزام بدلا من الإنتماء الوطني، وتحولت الأحزاب السياسية الكردستانية إلى ميليشيات مسلحة. فأصبحت المؤهلات شئ هامشي، وأصبح الحزب طريقا للغنى وإستلام المسؤوليات. ولعل أبرز مثال حي لذلك، هجرة مئات الألاف من الكرد من كردستان العراق إلى الخارج منذ نشوء المنطقة الآمنة عام 1991. وكان يُقترض أن تصبح الهجرة في أقل مستوياتها في فترة التحسن الإقتصادي والسياسي والإجتماعي نسبيا، حيث شهدت كردستان مرحلة بناء وتعمير، وإحياء الحياة في القرى والأرياف، وحصول عوائل آلاف الشهداء على دور سكنية، وإشباع كثير من الحاجيات المادية، وتشكيل عشرات التنظيمات، وإصدار عشرات الصحف والمجلات. لكن مع الأسف كان كل ذلك يصب في مصب العقلية الحزبية الضيقة والمتزمتة، إلى درجة أصبحت الخلايا الحزبية لبعض هذه التنظيمات في الخارج إلى مؤسسات للتجسس على الكرد من حزبيين ومستقلين، وهي مع الأسف بقايا الممارسات البائدة في كردستان. ولم تصل عقلية بعض القيادات الكردية بعد إلى مرحلة النضوج الفكري، والممارسة العقلانية الديمقراطية، والتي عبر عنها (نهرو) بأن "الديمقراطية شئ عقلاني في النهاية".
هنا أود أن أنبه بأن وقوع التنظيمات العراقية في مثل هذا المستنقع في هذه الظروف الحساسة، يجعل من الشعب العراقي شعبا مهاجرا على غرار الشعب الكردي، ويقع الشعب العراقي في أزمة ثقة بين القيادات والشعب، كما تتحول الأجواء إلى شكوك وتردد، وحروب أهلية.
إن الديمقراطية ليست مجرد انتخابات عامة كما يحلو للبعض أن يردد، بأن له حق التصويت. فالانتخابات هي وسيلة أو طريق للديمقراطية، ومن الخطا إعتبار الديمقراطية غاية. لقد عبر عن هذه الحقيقة المفكر الفرنسي جان جاك روسو: "الفرد حر لحظة إدلائه بصوته، ومتى ما وضع بطاقة التصويت في صندوق الإنتخابات يرجع عبدا". وعليه فإن المؤسسات الديمقراطية أهم من الديمقراطية الشكلية. فإحترام حقوق الإنسان يعتبر العمود الفقري للديمقراطية، فإذا ما مُنع التعبير عن الرأي، وحُرم على الفرد نقد السلطان أو رئيس الحزب أو المرشد الإسلامي، فلا يمكن أن نقول بأن هناك ديمقراطية. لا بد من صيانة الحرية الفردية على أساس المسؤولية وليس الإباحية والإعتداء على الآخرين.
إذن الديمقراطية شئ عقلاني في النهاية، وهي تربية ومسؤولية وممارسة. وهي في بلد كالعراق وفي الوضع الراهن لا يمكن بناؤها إلا بعملية طويلة الأمد. فنحن بحاجة إلى حريات صحفية وتنظيمية ونقابات حرة ومنظمات جماهيرية وقوى ضغط شعبية مستقلة إلى جانب الأحزاب السياسية. ونحن بحاجة إلى حملات توعية تنويرية وتثقيف جماهيري على كافة الأصعدة. ونحن بحاجة إلى إعادة بناء مجتمع مدني على أساس شعبي ديمقراطي وليس مجرد حزبي متزمت، وفصل السلطات الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية، إضافة إلى حرية السلطة الرابعة، وأعني الصحافة. وكل هذه العملية تتطلب فترة طويلة، تحتاج فيها الجماهير الشعبية إلى دراسة وتقييم وتنوير.
ولهذا فإن الحاجة اليوم إلى حكومة مؤقتة ديمقراطية أو شبه ديمقراطية في ظل الوضع الحالي، قد تكون الخطوة الأولى لتهيئة الأجواء الديمقراطية في المستقبل القريب. وعلينا أن نعترف بأنه ستحدث تجاوزات حتى بعد هذه المرحلة الأولية، وستستمر أبواق بعض الفضائيات العربية المؤيدة لإضطهاد الشعب العراقي، كما ستستمر الولاءات الطائفية والعرقية والحزبية المقيتة، وهي كلها عقبات في طريق البناء الديمقراطي والتي يجب دراستها ومعالجتها بحكمة وواقعية وصبر ومرونة.
لكنني أعتقد بأن التزمت الحزبي والمذهبي قد يكونان أكثر هذه العقبات. وانا هنا لست بصدد رفض العمل الحزبي أبدا، ومن الجهالة أن نرفض العمل التنظيمي لأنه القوة الفعالة للتنظيم والقيادة، لكنني بصدد رفض تحزب الشعب وعسكرة الأحزاب، وجعلها أداة لإضطهاد الشعب ومحوالكفاءات للجماهير التي لا تنوي الدخول في هذه الأحزاب. إنني أعتقد بقناعة بأنه من الضروري جدا وجود أحزاب سياسية ولكن يجب أن تكون أحزاب وطنية وديمقراطية وليست عشائرية قبلية مذهبية طائفية. فالتأكيد هنا هو ضرورة أن تكون هذه الأحزاب وطنية وديمقراطية بالممارسة وليس بالأسم والشكل والمنهاج والنظام الداخلي فقط. وهذه الأحزاب يجب أن تكون أحزاب مسؤولة أمام وعي الشعب، دون جعل أبناء الشعب أدواة للحزب، وجعل الحزب أداة للعشيرة أو القبيلة أو الشيخ أوالآغا أو المرشد الديني. فإذا قارنا بين الأحزاب الديمقراطية في الغرب الديمقراطي كالسويد مثلا، نجد بأنها أحزاب كوادر، أي أن قوة الحزب تكمن في عدد ناخبي الحزب وليس في عدد أعضاء الحزب، والحزب هنا ليس وسيلة للغنى وسرقة أموال الشعب، وليس أداة لجعل الشعب في خدمة الحزب، إنما جعل الحزب في خدمة الشعب. كما أن إستلام المسؤوليات، مستثنيا بذلك نسبيا، الوزارات، لن تخضع لرقابة الحزب بل لرقابة القانون. ولا يؤخذ بنظر الإعتبار الإنتماء الحزبي كمعيار للوطنية، لأن هناك حزبين غير وطنيين مثلما هناك حزبيين وطنيين شأنهم شأن غيرهم. بل ربما هناك كثير من المشبوهين يختفون وراء واجهات بعض الأحزاب لتمرير مصالحهم الشخصية. فالديمقراطية تقتضي حق المواطن داخل أو خارج الحزب أن ينقد الحزب نقدا إيجابيا دون أن يصبح النقد وسيلة للإضطهاد. ويقدم للفرد الشكر إذا ما كتب رسالة نقد بَناء وعتاب ضد رئيس الحزب. بربكم أخبروني هل لدينا أحزاب كردستانية وعربية من هذه الفصيلة في العراق؟ هل لدينا حزب واحد من هذا الطراز في العراق ككل؟ أليس من حقنا أن نرفض الإنتماء الحزبي المقيت الذي يسلب من المواطن مواطنته ليصبح عبدا للحزب؟ علينا أن نفهم بجلاء بأن الخوف من الديمقراطية والنقد العقلاني يُبعدنا عن الإستقرار والأمن والحرية. فالديمقراطية عامل أساسي وثابت لكل دولة، ولهذا فإن الديمقراطية مصونة بموجب الدستور، وللمواطن في الدول الديمقراطية الحرة، الحق في تقديم شكوى حتى على الملك ورئيس الدولة، وهناك محاكم تنظر إلى القضية بموجب الدستور.
نعم، القوى الوطنية العراقية قادرة أن تشكل نسبيا حكومة وطنية وتكنوقراطية لتتجاوز المرحلة الإستثنائية الراهنة. نعم ستحدث تجاوزات هنا وهناك وهذا شئ طبيعي، ولكن الوقت والتربية الديمقراطية والممارسة الوطنية النزيهة والحوار الثقافي والديمقراطي البناء كفيلة بالوصول إلى مرحلة العمل الديمقراطي، وإنتخاب حكومة وطنية ديمقراطية في المستقبل.
أما تشكيل الحكومات من خلال إجتماعات حزبية بعيدا عن مشاركة الشعب فهي شكل آخر من أشكال تشكيل الحكومات عبر الإنقلابات، ومثل هذه الحكومات اللاشعبية تعجز أن تقود العراق إلى التقدم والتحرر والسلام والإستقرار. وهذا مع الأسف سر العبودية التي عشناها منذ تأسيس دولة العراق بعد الحرب العالمية الأولى ولحد اليوم. حيث يحصل مرشح الرئاسة على 99% من الأصوات، والشعب مقيد الفكر والعقل، وعلى عينيه عصابة سوداء. وهذا هو حال العرب والكرد والترك والفرس وكل شعوب منطقة الشرق الأوسط. فهل أصبح لنا وعي بالتاريخ؟ وهل نقرأ التاريخ بوعي بدلا من قراءته للتسلية؟
أما التواجد العسكري الأجنبي فهو مؤقت، ويصعب عليه القيام بتجاوزات كبيرة بسبب الرقابة الدولية. لكن علينا أن نقر أيضا بأن الولايات المتحدة تجد الذرائع لضرب كل مقاومة لقواتها في العراق دون أن تأبه بالرقابة الدولية. ونعترف أيضا بأن تحرير العراق من ظلم الدكتاتور صدام تحول إلى إحتلال أقرته الأمم المتحدة. ولا نعلم كم من الأشهر والسنين تحتاجها أمريكا لتشبع من العراق، وتبحث عن لقمة طيبة أخرى؟ لكننا نعلم علم اليقين بأن نظام صدام كان دمويا وفاشيا، ولا يمكن قبوله، بل لا بد من رفضه وإدانته والعمل بكل الطاقات الممكنة لعدم رجوعه. ويجب علينا أيضا أن نرفض الإحتلال، ونطالب بجلاء الأجنبي بعد تهدءة الأوضاع. ويجب أن نفهم الوضع العراقي والدولي الحالي بأنه لابد من إيجاد شئ من الإستقرار والنظام، وإنتخاب حكومة ديمقراطية نزيهة، وإستتباب الأمن قبل رحيل القوات الأمريكية، وإلاّ فإن العراق مهدد بالحرب الأهلية، وحينذاك تكون المأساة أعمق وأشمل، حيث تفسح المجال للتدخلات الأجنبية وربما تقطيع أوصال العراق، وتحويله إلى دويلات تابعة فاقدة السيادة.
إن الشعب العراقي واعي لحاضره ومستقبله رغم المآسي التي تعرض لها، وسيتجاوز التردد الذي يعيشه، ويحقق النجاح الديمقراطي، ويعيد للعراق مكانته الدولية المرموقة. وستجلوا القوات الأجنبية بعد إستنقرار الأوضاع، وإنتخاب حكومة ديمقراطية تمثل إرادة الشعب، كل الشعب، بعيدة عن التشنجات الطائفية والأثنية والمذهبية والحزبية. ونحن العراقيون نعتز بعراقيتنا، ونشعر بفخر بأننا عراقيون، وسيبقى العراق عزيزا في القلوب وفي النظامين الأقليمي والعالمي. فلنفهم التاريخ ونقرؤه بوعي ومسؤولية، لأن الحرية لا تُمنح بل تُكتَسب بالعلم والمعرفة والنضال.
عراقي مقيم في السويد