|
يهوذا واعتراض الطريق
مجدي مهني أمين
الحوار المتمدن-العدد: 7969 - 2024 / 5 / 6 - 09:28
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في الآية الثالثة من الإصحاح 27 من إنجيل متى نجد كلمتين متجاورتين متضادتين تماما في المعنى كالتالي: - حِينَئِذٍ لَمَّا رَأَى يَهُوذَا الَّذِي أَسْلَمَهُ أَنَّهُ قَدْ دِينَ، نَدِمَ وَرَدَّ الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخِ. المسيح "أدين"، يجب أن يفرح يهوذا، لكننا نجده "يندم" ويرد المال الذي حصل عليه، ويقول كلمته المؤلمة "لقد أخطأت إذ أسلمت دما بريئا" (متى4:27)،
- كيف نفسر هذا التناقض؟
هنا، هل يمكن أن تقدم "نظرية المؤامرة" تفسيرا لهذا التناقض؟ فطوال إصحاحات الإنجيل نرى إلحاحا من اليهود على أمرين، الأول أن يتحرروا من الرومان ويعود لهم المُلك، لذا نراهم يسألون المسيح متي يَرُد "الْمُلْكَ إِلَى إِسْرَائِيلَ؟"(أعمال الرسل 6:1)، وهي قضية شغلتهم كثيرا وترتب عليها ثورات أدت إلى قيام القائد الروماني تيطس، فيما بعد، بحملة كبيرة دمرت الهيكل.
الأمر الثاني كان في تنصيب المسيح ملكا، ونجدها في إنجيل يوحنا "وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكا انصرف أيضا إلى الجبل وحده" (يوحنا 6:15).
وبالطبع يمكننا أن نربط الأمرين معا، فبتفكير سياسي بسيط، نجد أن يسوع له قدرات فائقة في تهدئة الرياح، وإشباع الألاف بخمسة خبزات وسمكتين، وشفاء الأعمى، والمفلوج، وغيرها من المعجزات الخارقة، وهي معجزات تجعل منه قائدا لا يُقهر، كما أن كلامه عذب منعش للقلوب، والسياسة تتطلب هذه اللغة العذبة الملهِمة؛ فهي لغة يتجمع حولها الناس من كل مكان. وتجمُّع الناس حول قائد مُلْهَم سيكون قادرا على تحقيق النصر وسحق الرومان.. ولكن المسيح يقول دائما: "مملكتي ليست من هذا العالم"(يوحنا 36:18).
المسيح يعطي كافة الملامح للقائد المحرِّر، لكنه يمتنع عن القيام بالدور السياسي الذي يريدونه منه، ويستبدله بدور آخر ألا وهو تحرير الإنسان من الخطية، والحقد، والكراهية، والخوف، والأنانية وكافة العوامل التي تحرم الإنسان من أن يعيش كامل إنسانيته.. وكلامه الحلو ليس من أجل تجميعهم حوله، لكن من أجل توعيتهم بقيمتهم ومكانتهم عندما يقومون بالدور المنوط بهم كأبناء صالحين أبرار.
فمن وجهة "نظرية المؤامرة"، لعل يهوذا كان يفكر في "فرض المواجهة بين المسيح والنظام بأكمله"، فالكهنة "يُحمِّلون الناس أَحْمَالًا عَسِرَةَ الْحَمْلِ وهُمْ لاَ يَمسُّونَ هذه الأَحْمَالَ بِإِحْدَى أَصَابِعِهُمْ" (لو 11: 46)، والرومان الذين يقولون" لِهذَا: اذْهَبْ! فَيَذْهَبُ، وَلآخَرَ: ائْتِ! فَيَأْتِي"(لو 7: 8)، ولكن لا يستحقون ان يدخل المسيح تحت سقف بيت أحد منهم، كلهم لا يساوون شيئا، وفرض المواجهة يمكن أن يحسم الأمر.
وكادت النظرية، لو افترضنا وجودها، أن تلقى نجاحا في أولى لحظاتها، فقد جاء يهوذا ومعه "جُنْدَ وَخُدَّام مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ"، وقال لهم يسوع: «مَنْ تَطْلُبُونَ؟ أجَابُوهُ: «يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ». قَالَ لَهُمْ: «أَنَا هُوَ»، فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ: «إِنِّي أَنَا هُوَ»، رَجَعُوا إِلَى الْوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى الأَرْضِ" (يو18: 4- 6).. انتصار واضح من أول مواجهة.
ولعل هذا الانتصار هو ما شجَّع بطرس كي يضرب بالسيف عبد رئيس الكهنة فيقطع أُذُنه.. واضح أنها ضربة مرتبكة لشخص هامشي من أشخاص الحملة، ولكن يسوع يلمس أُذُن العبد ويبرئها، وتتوالى الهزائم فيأخذ الجُنْد يسوع لبيت رئيس الكهنة.. يستجمع بطرس شجاعته ويتبع الجند، وتخونه شجاعته وينكر أن له علاقة بالمسيح، هزائم متوالية، لقد تم إحكام الحلقة، "وأدين يسوع، وندم يهوذا وَرَدَّ الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخِ".
نعم، لم يكن يسوع سياسيا بالمعني الذي نفهمه، وكلامه الحلو لم يكن كي نلتف حوله ونكون قوة لا تُقهر بل كان كي يعود كل منا لذاته ويُشفى من التشوهات التي انتابته نتيجة أخطائه كي يعود للصواب مثلما عاد الابن الضال، أو كي يُشفي من التشوهات التي لحقت به نتيجة أخطاء الناس من حوله عندما يغفر لهم ويسامحهم ويمنحهم المزيد من الفرص كي يتحرروا من قيودهم..
إنها دعوة لرحلة تتطلب قوة روحية، قوة مثل تلك التي امتلكها بطرس الذي ارتعد سابقا أمام جارية وأنكر علاقته بالمسيح، كي يخطب في كافة جموع اليهود ليشهد لقيامة المسيح، موجها إليهم اللوم لأنهم صلبوا يسوع البار، ويفتح خطابه الطريق لآلاف كي يؤمنوا بالمسيح، كي يؤمنوا بنوع جديد من علاقة مع الله، علاقة حُرة من قيود الفريسين والكهنة، ولم يتوقف عند أورشليم بل ذهب إلى روما عاصمة العالم وقتها، كي يشهد هناك للمسيح، فيترك الرومان معتقداتهم ويلتحقون بهذا الإيمان الجديد..
أما يهوذا، أيا كانت دوافعه، فقد خرج من هذه المسيرة، وبدلا من أن يكون شاهدا للمسيح، أصبح درسا لكل منا كي يحسب النفقة في كل خطوات حياته، ويتحرر من الأهداف ضيقة الأفق؛ خاصة لو كانت أهدافا تلحق الأذى بمَن حوله، بل لعله يكون قد أعطانا درسا أن الخير ينتصر دائما مهما حاول بعضهم أن يعترض الطريق لأن الخير قوته تسكن في داخله وتجذبنا إليه.
#مجدي_مهني_أمين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الناظر شيوعي!!
-
الأخت أديلا، المحاربة المبتسمة
-
صلاح سبيع، عندما تكون التنمية وجهة نظر
-
أبونا وليم، صفحة من كتاب الإيمان الحي
-
أَعْطُوهَا الْوَلَدَ الْحَيَّ وَلاَ تُمِيتُوهُ فَإِنَّهَا أُ
...
-
شنودة الذي حل ضيفا على هذا المجتمع القاسي
-
ساويرس، بكري، علاء، والحق الضائع وغير الضائع
-
الموعِظَة على الجبل، والعِظَات المصاحبة
-
لكن عشق الجسد فاني
-
الرجل رأس المرأة
-
المؤمن ثقيل الظل
-
الصيدلي المتشدد والعمل الإرهابي في سيناء
-
دون مزايدة
-
عَيِّلة تايهة يا ولاد الحلال
-
أبونا عيروط، إصلاح الخطاب الديني
-
يا أهل المحبة
-
نبيل صموئيل: المصلح المسالم
-
المستشارة تهاني الجبالي
-
شريف منير وحكاية فيلم -ريش-
-
طفلة بني مزار
المزيد.....
-
قائد الثورة الاسلامية: إذا هددت أمريكا أمننا فسنهدد أمنها
-
قائد الثورة الإسلامية: لم يلتزم الأمريكيون بتنازلاتنا السخية
...
-
قائد الثورة الإسلامية: المفاوضات مع هذه الحكومة الأمريكية لي
...
-
قائد الثورة الإسلامية: إذا اعتدى الأمريكيون على أمن شعبنا سن
...
-
قائد الثورة الإسلامية: التفاوض مع أمريكا ليس له أي تأثير في
...
-
قائد الثورة الإسلامية: إذا تم هددونا سنهددهم وإذا نفذوا الته
...
-
قائد الثورة الإسلامية: إذا هددونا سنهددهم وإذا نفذوا التهديد
...
-
قائد الثورة الإسلامية: إذا اعتدوا على أمننا سنعتدي على أمنهم
...
-
قائد الثورة الإسلامية: إذا هددنا الأمريكيون سنهددهم نحن أيضا
...
-
قائد الثورة الإسلامية: إذا نفذ الأمريكيون تهديدهم سننفذ تهدي
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|