|
تقديس و تقليد «السلف الطالح» مرفوض قطعاً !
أحمد إدريس
الحوار المتمدن-العدد: 7967 - 2024 / 5 / 4 - 20:14
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
هذا بلاغ لِمَن يُعرفون في دنيانا هذه تحت إسم "المسلمون" : « مَن كان يعبُد السلف، الذين أحسنوا و أساؤوا و أصابوا و أخطؤوا، فإن السلف قد مضوا و بادوا و ماتوا ؛ و مَن كان يعبُد الله، الخالقَ الأزلي المُتفرِّد بالرُّبوبية و قَيومَ السماوات و الأرض، فإن الله حي لا يموت. » لَوْ لم يتخلل المسيرة الطويلة لهذه الإنسانية العجيبة أفرادٌ قلائل لا يكتفون بتقليد الأسلاف، بل لديهم الشجاعة للخروج على المعروف المألوف المُتوارَث فيجتهدون لإبتكار أشياء جديدة و يظهر إبداعُهم في شتَّى مجالات الحياة و هم بالطبع بشر يُخطئون و يصيبون كما أنهم في الغالب أبعد الخَلق عن ادِّعاء امتلاك الحقيقة المُطلَقة و احتكارِها أو الإعتقادِ بذلك، لَولا هؤلاء ما كُنا لِنَنعم اليوم بالهاتف و السَّيارة و الإنترنت و باقي منافع الحضارة الحديثة.
السلف فيهم الصالح، نعم، و فيهم أيضاً الطالح… عن السلف الطالح ورثنا طامَّات، منها هذه المقولة التي لا تصدُر حتى من سفيه أو مَعتوه، و لكنهم نَسبوها لرسول الإسلام : « لَيَجيئنَّ ناس مِن أُمتي بِذُنوب أمثال الجِبال، فَيَغفِرُها الله لهم، و يَضعُها على اليهود و النصارى. » هذا حديث نبوي مزعوم، مروي في صحيح مسلم.
المشايخ و الفُقهاء الذين نُسمِّيهم "أهل العلم" اختلفوا حول صحة هذا الحديث : هل يُعقل أن تكون مِصداقيةُ هذا الكلام مَحلَّ اختلاف و جدل ؟ هل هذا يليق بِدينٍ يزعم مَن نصَّبوا أنفسهم مُمثِّلين له و متحدِّثين حَصرِيين بإسمه، أنه يتعيَّن على الخَلق أجمعين إنساً و جِناً اعتناقُه للنجاة من إقامة مُؤبَّدة في جهنم ؟ ثُم نستغرب، و نتساءل : لماذا يُصر الغرب على تشويه ديننا الخالي مِن أيِّ نقيصة و الذي لا يُضاهي جمالَه و بهاءه حتى الطاووس ؟
من المُحتمَل جداً بل المؤكَّد أن ما أقوله لن يَرُوق بعض الذين تَملأُ نفوسَهم زهواً و نَشوَةً مقاطعُ يوتيوبية تُظهر أشخاصاً يمدحون أو يعتنقون الإسلام، و لكنَّ هؤلاء المُغتبِطين يتغاضون و يتجاهلون و يفِرُّون من أخرى تُبدي أفراداً غير قليلين و لا تافهين من هذه الأمة يُعلنون مَقتهم أو تركَهم للإسلام ! بالإضافة إلى ذلك هناك أشخاص دخلوا في الإسلام، ثُم خرجوا منه بعد فترة معيَّنة، إثْر اكتشافهم لبعض ما في تُراثنا الديني من طامَّات : حصل هذا مرَّات غير قليلة.
اختلقوا حديثاً بهدف تمرير فِكرة ظالمة و شريرة : مَن فعلوا ذلك هل حقاً يؤمنون بِوُجود و رقابة الله ؟ هذا "الحديث" لم يكفهم، فدعَموه بـ"حديث" آخَر : « إذا كان يَوم القِيامة، دفعَ الله إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً، فيَقول : هذا فِكاكُكَ من النار. » و هذا أيضاً مروي في صحيح مسلم. و هو مكذوب دون شك مهما اخترعوا من تفسيرات أو تبريرات واهية تافهة لجعله معقولاً و بالتالي مقبولاً. الذي يُؤمن بالفعل بوجود الله، لا يكذب مُتعمِّداً على نبي الله… رجل الدين الذي يَقبل و يُروِّج لمثل هذه الأحاديث، المنسوبة كذباً و زوراً للنبي، مكانه الطبيعي مستشفى أمراض عقلية أو السجن. أو ينبغي أن يُقام عليه حد الردة، إذا كان من المُدافعين عن هذا الأخير و المُطالبين به، و ذلك لأنه أنكر و كفر بالقرآن : « يوم تأتي كل نفس تُجادل عن نفسها و تُوَفَّى كل نفس ما عمِلتْ و هُم لا يُظلمون »، « لا تزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى » (أي لا يحمل إنسان إثم غيره)، « اليوم تُجزى كُل نفس بما كسبتْ، لا ظُلم اليوم، إن الله سريعُ الحساب. » كل هذا في القرآن.
« أكبر الموانع في سبيل العقل "عبادة السلف" التي تُسمى بالعُرف، و الإقتداء الأعمى بأصحاب السلطة الدينية (…). و الإسلام لا يقبل من المسلم أن يُلغي عقله لِيَجري على سُنة آبائه و أجداده، و لا يقبل منه أن يلغي عقله خُنوعاً لِمَن يُسخِّره بإسم الدين في غير ما يُرضي العقل و الدين. » (عباس محمود العقاد، "التفكير فريضة إسلامية"، 1962)
مِن أين أتى و كيف استقر في الوعي العام و العقل الجَمعي لِمَن يُسمَّون بالمسلمين، الإعتقادُ الوهميُّ بالصفاء الكامل و المُطلق لِمَجموع ما وَرِثوه تحت مُسمَّى الإسلام ؟ فلطالما سمِعتُ على لسان الأئمة و الوُعاظ أن النبي تركنا على مَحجَّة بيضاء لَيْلُها كنهارها لا يزيغ عنها إلاَّ هالك، لكنْ ﻋﻨﺪ ﺍﻟﺘﺄﻣﻞ أﺠﺪ أنهم أوَّلُ مَن حاد عن نهج النبي الذي ما زالوا حتى يومنا هذا ينسبون إليه هذه المقولة المُنكَرة : « مَن بدَّل دينه فاقتُلوه. » وَضْع مثل هذا الكلام على لسان الرسول هو أفظعُ إساءةٍ له على الإطلاق ! و الله ما أساء أحد في الدنيا لِسُمعة و شخصية الرسول، كالأمة المحسوبة عليه، بدءاً بأفراد منها أَطلقوا على أنفسهم لَقبَ ورثة الرسول : أليس فيكم إذاً رجل رشيد، يا فقهاء و أئمة هذا الدين ؟
سؤال أطرحه على الجميع بدءاً بنفسي : لو بعقليتنا و أسلوبِ تفكيرنا عاصرنا البِعثة المحمدية، هل كنا سنستطيع كسر أغلال المألوف و اتباعَ محمد ؟ أم أن الكثيرين بل الأعم الأغلب كانوا سيقولون للنبي : « بل نتَّبِع ما وجدنا عَلَيهِ آباءنا » (قرآن). و هم الذين يُرددون اليوم "الحمد لله على نِعمة الإسلام" دون كلل و بِعُجب مضحك… هذه العبارة التي أصبحت مثار تندُّر و سُخرية على الإنترنت. بل إن هناك مَن استوحى منها عبارة حمد طريفة، صادفتُها مرات على مواقع التواصل الإجتماعي : « الحمد لله على نعمة الإنترنت فقد أنار العقول و أخرجها من شقاوة الجهل إلى نعيم المعرفة. »
فكرُنا الديني المُتداوَل إنْ لم يتجدَّد، فإنَّ أحلامنا بمستقبل أفضل ستتبدَّد. آمُل أن تنتصر الأمة المُسماة إسلامية التي أنتسب إليها، قبل فوات الأوان، على عَدُوِّها الأول و الأكبر و الأعظم و الأكثر فتكاً بها : لا أعني عَدُواً خارجياً بل جُملة من التصوُّرات و الأفكار و المُعتقدات، التي لا أساس لها من الصِّحة كما أني أصفُها دون أدنى تردُّد بالشريرة - ليس لأن حامليها سيِّئُون بالضرورة و لكنْ لأن ثمارها في الواقع شريرة -، فلقد أبعدتها عن سماحة و سَعة آفاق و الرحمة الشاملة لدين الإسلام. مجموعة من التصوُّرات و المُعتقدات التي نَتوارثُها على مَر الأجيال و التي يستحيل أنْ يقوم عليها مجتمع سَوي. إن ما نحتاج إليه هو إصلاح فكري حقيقي، فالحلول الترقيعية الحالية ستبقى بلا جدوى.
و عليه فإني أهتف بحرارة أننا في حاجة مُلحة أكثر من أي وقت مضى إلى مراجعة شاملة فردية و جماعية لِمَقولاتنا الفكرية المتوارَثة و لأنماط تفكيرنا و أساليب حكمنا على الأمور و حلِّنا لمشاكلنا و لأدوات تحليلنا و تفسيرنا للوقائع و الأحداث و لِطُرق تعاملنا مع العالَم. هذا من شأنه أن يُوَسِّع أُفق النظر إلى الأمور كما أنه يُكسبنا قدرة أكبر على التفاعل مع الآخرين و الإنفتاح على ثقافاتهم و الإستفادة منها و من دروس و خبرات التجربة الإنسانية الطويلة بشكل عام. كل ذلك من أجل أن نكون في مستوى الإستجابة الإيجابية لا لأهواء و إنما لمُقتضيات العصر… و لِكَي ندخل التاريخ من جديد.
اللهم اهدنا سُبل الرشاد و ألهمنا الصوابَ في القول و الفِكر و العمل، اللهم زِدنا فهماً و حكمةً و رجاحةَ عقلٍ و طهارةَ نفسٍ و فطنةً و وعياً. ارتفاع مستوى الوعي العام هو بداية الحل : « الأزمة هي أزمة الوعي، و الثورة الحقيقية هي ثورة الوعي. » (كريشنامورتي)
#أحمد_إدريس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
داعش… و ما أدراك ما داعش !
-
لست المهدي المنتظر
-
« لِمَ هذا الخذلان ؟ نحن لسنا كفاراً، نحن مسلمون ! »
-
تحيَّة لإنسان عظيم
-
تعليق بريء على دعاء…
-
سنة جديدة طيِّبة للجميع
-
شتان بين -الكونفوشِيُوسِيين- و -المُحمَّدِيين- مع الأسف !
-
«يحرم و لا يجوز الترحُّم على غير مسلم» : كيف يصدر هذا عمَّن
...
-
عنصرية حتى في الدعاء !
-
أخشى أن يكون أكثرُنا للحق كارهاً !
-
لا بد من إعادة الأمور إلى نصابها مهما كلف ذلك…
-
آن الأوان !
-
الإرهاب التكفيري : أسبابه و علاجه
-
أقترح على المبشِّر صاحب البرنامج القديم «سؤال جريء» أن يتناو
...
-
جوهر المشروع التنويري الأصيل
-
عاجلاً أو آجلاً، الصدق محمود العواقب ؛ عاجلاً أو آجلاً، الكذ
...
-
فليسقطْ حُكم الرِّدة المُجرم !
-
إسلام الأنوار هو طريق الخلاص
-
ضرورة أن ننتقل من نقد يُكرِّر نفسه و مُوغل في السَّلبية إلى
...
-
نحو ثورة في الفكر الديني
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|