روسانا توفارو
الحوار المتمدن-العدد: 7964 - 2024 / 5 / 1 - 09:36
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
Tufaro R. “Workers do not liberate themselves other than with their own hands”—The Political Experience of Workers’ Committees in the Industrial District of Beirut (1970–1975). International Labor and Working-Class History. 2023104:143-163. doi:10.1017/S0147547923000224
يمكن قراءة إلى جانب هذه الورقة المقالات التالية: أبحاث حول الواقع الاجتماعي- الاقتصادي، في لبنان؛ الحركة النقابية والعمالية في لبنان، تاريخ من النضالات والانتصارات (2013)؛ الطائفية في لبنان، العلمنة ودور اليسار (2015)؛ ومقال باسم شيت ما بين الطائفة والطبقة: مثقف (2010) روسانا توفارو- عن التاريخ/التأريخ الطبقي المغيب: نضالات الطبقة العاملة والسياسات الاشتراكية عشية الحرب الأهلية اللبنانية (2020)
مقدمة
في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1972، استيقظت الضاحية الجنوبية لبيروت على حالة من الفوضى. حوالي الساعة 8 صباحاً، ظهرت وحدات كبيرة من قوى الأمن الداخلي عند أبواب مصنع غندور لفض إضراب نظمه العمال القاعديون منذ أسبوع. خلال الاشتباكات التي تلت ذلك، ردت قوى الأمن الداخلي على العمال بطلقات نارية، موقعة شهيدين والكثير من الجرحى. كانت ردة الفعل الشعبية على الجريمة هائلة. وقد تلا هذا الإشتباك، سلسلة من المظاهرات الحاشدة التي انتشرت بسرعة من ضواحي بيروت إلى مجمل البلد.(1) في الوقت عينه، نظم إضراب عام يطالب بالمحاسبة السياسية.(2)
كانت نهاية إضراب معمل غندور الدموية وردة الفعل العنيفة المثيرة للجدل، إحدى الحلقات ضمن سلسلة طويلة من النضالات العمالية التي ميزت “عقد الستينيات الطويل” والتي أسالت الكثير من الحبر. في الحقيقة، هناك عدد قليل من الأكاديميين الذين كتبوا عن السنوات الملتهبة التي سبقت الحرب الأهلية، لكنهم امتنعوا عن إدارج الإضراب ضمن الأحداث التاريخية التي شهدها العقد. مع ذلك، ومن المفارقات أن معظم الكتابات التأريخية، قلما أظهرت الإضراب كتاريخ للعمال. بدلا من ذلك، على الرغم من أن الإضراب لا يقتصر على حلقة من حلقات العنف الكثيرة- والثانوية في الحقيقة- في روايات الأزمة اللبنانية، (3) فقد كُتب عن الإضراب في أفضل الأحوال كنتيجة ثانوية للأزمة المتزامنة للرأسمالية اللبنانية.(4) في الحالتين، يبدو الإضراب كحالة، وردة فعل، منعزلة، على نحو مضلل من العملية الأشمل للتنظيم الشعبي للطبقة الجديدة من القواعد الشبابية التي أنتجها التوسع الصناعي على شكل لجان عمالية. بقيت التجربة السياسية للجان العمالية على هامش دراسات تاريخ العمال في لبنان، والتي ركزت اهتمامها بدرجة كبيرة على البحث في الحركة النقابية الرسمية (5) أو مؤخراً على التحركات وأشكال التنظيم.(6) ساهم ذلك في تقديس النمط المهيمن في التأريخ على النشاط الشعبي اللبناني في بدايات السبعينات، الأمر الذي شكل إشكالية مضاعفة، إلى جانب حرمان القواعد من المكانة كـ”موضوعات للتأريخ بحد ذاتها، حتى بالنسبة لمشروع تولته بنفسها”، (7) فقد فشلت في إعطاء الاعتبار الواجب لظاهرة اجتماعية-سياسية ميزت السياسات الشعبية اللبنانية في تلك الفترة الدقيقة، حيث مثلت اللجان العمالية إنبثاقاً مباشراً لها.
في الواقع، وبدءاً من أواخر الستينيات، دخل النموذج الرأسمالي في لبنان في أزمة بنيوية عميقة، ما أدى إلى تشبع سوق العمل على نحو كبير في مواجهة تزايد التضخم، والتفكك السريع للريف. وتزايدت التوترات الاجتماعية بسبب عدم رغبة الطبقات المهيمنة العنيدة بـ[تقديم] “أي تنازل عن امتيازاتها لصالح قضايا الإصلاح”، (8) الأمر الذي أخذ شكل صراع طبقي حقيقي “من فوق” عن طريق الأجور المنخفضة، والانتهاك الممنهج لقانون العمل، وقبل كل شيء، عرقلة ممنهجة لأي مبادرة حكومية لإعادة التوزيع. وكانت النتيجة عقداً من الاحتجاجات الاجتماعية، والذي سرعان ما توفرت أطره الفكرية والتنظيمية من قبل مجموعة واسعة من القوى التقدمية (مثل: الماركسية والاشتراكية والقومية العربية)، التي كانت تعيش في تلك الفترة سنواتها الذهبية. ونتيجة لذلك، ظهرت قوى اجتماعية جذرية جديدة، وتضامنات ومجموعة من النزاعات، ونجحت في التأثير من الأسفل على صياغة التطورات السياسية التي انخرطت فيها البلاد بأكملها. وفي حالة التعبئة العمالية القاعدية، لعبت منظمة العمل الشيوعي في لبنان الدور القيادي، والتي ووفق مبادرتها، وبدءاً من السبعينيات، أنشئت أولى الاتحادات العمالية البديلة للنقابات العمالية الرسمية، ممثلة بالاتحاد العمالي العام.
عبر استرجاع التجربة السياسية للمجالس العمالية، ستتناول الورقة الأشكال والمسارات التي أصبحت بها الطبقة العمالية الصناعية جزءاً عضوياً من مسار ردكلة المجموعات التابعة اللبنانية عشية الحرب الأهلية اللبنانية (1975- 1990). وعلى نحو خاص، دراسة المجموعات التابعة إنطلاقاً من معايير أنطونيو غرامشي المنهجية، (9) والتحقيق في المصادر العربية غير المستكشفة، ستركز الورقة بداية على تحليل التغييرات البنيوية التي خضعت لها الصناعة اللبنانية المتوسعة من أواخر الستينيات، وآثارها العمالية. وسننتقل بعدها إلى دراسة بناء الديناميات السياسية التي مكنت من ولادة وتعزيز المجالس العمالية، مع إيلاء اهتمام خاص للدور الذي لعبته منظمة العمل الشيوعي وإطارها الإيديولوجي. وأخيراً، تختتم الورقة بدراسة تأثير المجالس العمالية على صياغة التطورات السياسية التي شهدتها البلاد.
تؤكد الورقة على أن ظهور وتأكيد النشاط الجذري والتحويلي للتعبئة العمالية القاعدية، إلى جانب تمثيله كنتيجة ثانوية مباشرة للضغوط والقيود البنيوية، كان مديناً على نحو كبير للبنية التحتية الأيديولوجية والنضالية الجديدة التي ساهم اليسار العربي الجديد بنشرها وتعميمها. وبفعل ذلك، تسعى الورقة إلى ربط الجسم البحثي الحالي حول الاقتصاد السياسي، في لبنان ما بعد الكولونيالية، مع مجموعة جديدة من الدراسات حول اليسار الجديد العربي (10) واللبناني (11) التي ازدهرت في السنوات الأخيرة وجرى التحقيق بدقة في التأثير الاجتماعي والسياسي التحويلي للاختمار الأيديولوجي والسياسي والذي كان موضوعاً غير مستكشف على نطاق واسع.
صناعة جديدة “قديمة”، طبقة عاملة جديدة تماماً: الطفرة الصناعية في السبعينيات والأصول الاجتماعية لجيل جديد من القاعدة العمالية
تاريخياً، احتلت الصناعة موقعاً هامشياً جداً في البنية الاقتصادية للبنان المستقل. (12) ما أعاق التنمية الصناعية كان مزيجاً من الطلب الداخلي المحدود، وتبني رسوم جمركية ضعيفة وغير حمائية، وقبل كل شيء، تكرار السياسات الاقتصادية المكرسة بشكل كامل لتطوير قطاع الخدمات. نتجت هذه السياسات عن المركز المهيمن الذي احتلته البرجوازية التجارية المالية في دولة ما بعد الكولونيالية التي نشأت خلال الانتداب، والتي استغلت استيلاءها على السلطة السياسية لخدمة مصالحها الاقتصادية على حساب القطاعات الإنتاجية. (13)
وتحديداً، بما يعكس النمط النموذجي للرأسمالية الطرفية التابعة، تركزت التنمية الصناعية اللبنانية في الأغلب على فروع الصناعات الخفيفة لتلبية الطلب الداخلي على السلع الأساسية (النسيج، والأغذية، ومواد البناء على وجه الخصوص)، الأمر الذي تطلب مستوى منخفض من التخصص والاستثمار التكنولوجي. إضافة إلى ذلك، ونظراً للأبعاد المحدودة للقطاع، لم يتجاوز عدد العمال فيه سوى 15 بالمئة من القوى العاملة. (14) وتميز التطور بالحفاظ على ازدواجية شديدة بين قطاع شبه حرفي كبير وقليل الإنتاج وعدد محدود من المصانع الحديثة الكبيرة، التي تسيطر على معظم الإنتاج الإجمالي، إضافة إلى احتكار أو شبه احتكار انتاج سلع معينة. (15) عام 1969، على سبيل المثال، كانت شركة واحدة تسيطر على 85 بالمئة من الإنتاج الوطني لمشتقات الحليب، و94 بالمئة من غزل ونسيج القطن كان بيد 3 شركات، وسيطرت 3 مصانع على كل الانتاج الوطني للترابة. (16) سار التركيز كذلك على أسس عائلية واضحة. عام 1971، تشير التقديرات إلى أن العائلات الثلاث الكبرى من الصناعيين اللبنانيين كانت تسيطر على ما يتراوح بين 15 و20 بالمئة من إجمالي الإنتاج الوطني. (17)
بدأ هذا المشهد بالتغير بسرعة مع حرب حزيران/يونيو 1967، (18) عندما فتحت أسواق الخليج، بعد إغلاق قناة السويس، أمام السلع اللبنانية، مدشنة مرحلة من التوسع الصناعي الكبير بين عامي 1967 و1973، فارتفعت مساهمة الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي من حوالي 10 إلى 17 بالمئة، وزاد إنتاج القيمة المضافة بنسبة 111،4 بالمئة، وتزايد حجم الاستثمارات بنسبة 50 بالمئة على الأقل. (19) والأمر اللافت على نحو خاص هو الارتفاع في حجم الصادرات إلى الخليج، والتي ارتفعت في نفس الفترة من 87،4 مليون ليرة عام 1967 إلى 446،3 مليون ليرة. (20) وكان توفير رأس المال لهذا التنامي السريع عبر التدفق المتزايد للأموال الغربية خدمة للصناعة اللبنانية، في إطار استراتيجية اقتصادية شاملة تهدف إلى تحويل القطاع الصناعي اللبناني إلى “صناعة تصديرية” لاستمرار اختراق الأسواق العربية من خلال الاستفادة من القرب الجغرافي، والاتفاقيات الجمركية والتجارية بين الدول العربية، واليد العاملة “الرخيصة”. (21) وقد أدى ذلك إلى تعزيز الطبيعة التبعية للقطاع الصناعي اللبناني، ما أدى إلى إبقاء تطوره محدوداً وبسيطاً.
كان للازدهار الصناعي في نهاية الستينيات وأنماطه المحددة، بطبيعة الحال، نتائج هامة على العمالة الصناعية. الأولى، كانت قياماً سريعاً لطبقة عاملة جديدة تماماً، نتجت عن التوسع السريع للصناعات الممكننة التي ضمت أكثر من مئة عامل. (22) كان النمو واضحاً. في فترة 1972- 1975 وحدها، وصل المتوسط السنوي للعمالة الجديدة في الصناعة إلى 20 ألفاً (بزيادة 18 بالمئة سنوياً)، وهو رقم يعادل عقد 1960-1970 بأكمله، ليصل إلى 113 ألفاً ونسبة 20 بالمئة من مجمل اليد العاملة. (23)
ارتبطت الثانية بتزايد الاستغلال (24) وتهشيش العمالة الصناعية. في الواقع، وعلى الرغم من الزيادة الاسمية الكبيرة في الاستثمارات في التقدم التكنولوجي، من أجل التنافس مع الشركات الأجنبية والتأكد من تحقيق أرباح تعادل أرباح القطاعات التجارية والمالية المهيمنة، بقي المصدر الأساسي للحصول على فائض القيمة في الصناعة اللبنانية موجوداً في ظل الضغوطات الشديدة المفروضة على اليد العاملة. وقد مورست هذه الضغوط بادئ ذي بدء من خلال اعتماد سياسات أجور حافظت على متوسط للرواتب عند حدود الحد الأدنى للأجور القائم. عام 1974، على سبيل المثال، كانت الأجور في القطاع الصناعي والحد الأدنى للأجور القانوني متساويين تقريباً. في قطاع الملابس، المعتمد على التعاقد من الباطن والعمل النسائي واليومي بشكل مرتفع، كان متوسط الأجور أقل من الحد الأدنى للأجور بنسبة 15 بالمئة، وبالنسبة للعاملات المياومات غير المتخصصات وصلت النسبة إلى 30 بالمئة. (25) ثانياً، كان الاعتماد على العمل الإضافي بنيوياً، حيث تراوحت ساعات العمل الأسبوعية في الضواحي الصناعية لبيروت بين 50 إلى 53 ساعة، مقابل حد أقصى قانوني يبلغ 48 ساعة بدءاً من عام 1970. (26) وقد ترافق ذلك مع اعتماد سياسة توظيفية تقوم على “الاستهلاك والطرد”، يطرد العمال بموجبها، بعد استغلالهم خلال أفضل أيام شبابهم، بشكل جماعي، حتى يتمكن أصحاب العمل من اختيار عمال جدد، من جديد، من بين الآلاف من الشباب العاطلين عن العمل الذين يدخلون سوق العمل كل سنة. إن تغذية هذا الجيش الاحتياطي الصناعي الذي لا ينضب كان على ما يبدو بسبب التفكك المستمر للريف الذي شهدته البلاد منذ الاستقلال، في ظل صعوبة الحصول على الائتمان، والافتقار للمرافق والبنى التحتية الكافية، والسعي المتنامي للسيطرة على سوق المحاصيل من قبل أوليغارشيا تجارية تمارس المضاربة على أسعار الشراء. شهد هذا التقسيم تسارعاً متنامياً منذ منتصف الستينيات، حيث انتهت سياسات التنمية الريفية التي أطلقها الرئيس السابق فؤاد شهاب، في نهاية الأمر، وتحسنت إمكانية الاستغلال وتعززت الأعمال الزراعية الاحتكارية على حساب صغار الملاكين الزراعيين والفلاحين الذين لا يملكون الأراضي الزراعية. (27) وكنتيجة لذلك، كان يصل آلاف النازحين الريفيين إلى ضواحي العاصمة كل عام بحثاً عن فرص عمل. وهناك، لم يترك لهم تشبع سوق العمل سوى القليل من الموارد ما عدا أن يصبحوا جزءاً من الجيش الضخم من العمال غير الرسميين في كل المهن، وعمالاً موسميين في السياحة. مع ذلك، إن طرق أبواب المصانع، إذا نجح، بقي أحد أكثر الخيارات “ربحية” بالنسبة للشباب العاطلين عن العمل للمساهمة في تأمين احتياجات العائلات، أو تحمل تكاليف التعليم، أو الاستمتاع بجزء هامشي من أوقات التسلية في “عاصمة العرب الكوزموبوليتية”.
ما سمح في استغلالهم الشديد هو الثغرات الكثيرة في قانون العمل اللبناني. فبحسب المادة 50 منه، كان من حق صاحب العمل طرد العمال تعسفاً مقابل الحصول على تعويض إنهاء الخدمة وحده. وكثيراً ما جرى تجاوز هذا الشرط من خلال توظيف عمال دائمين ولكن على أساس يومي، حيث استبعد القانونُ من الحق بالحصول على تعويضات إنهاء الخدمة العمالَ الذين شغلوا مدة تقل عن سنة متواصلة مثبتة. (28) سمح ذلك لأصحاب العمل تجنب دفع تكاليف أيام الراحة والإجازات، أو خفض نسبة مساهمتهم في الضمان الاجتماعي. إضافة إلى ذلك، أعفى قانون العمل أصحاب العمل من دفع الحد الأدنى للأجور للعمال الذين تقل أعمارهم عن العشرين عاماً.
وكان لانتشار هذه السياسات صدى واضح في الصورة الديمغرافية للعمال الصناعيين. عام 1970، بلغت نسبة العمال الصناعيين الذين يقل عمرهم عن 20 سنة 35 بالمئة (4 بالمئة منهم كانوا تحت سن 15 سنة)، ومن هم عمرهم أقل من 25 سنة كانت نسبتهم أعلى من الفئة العمرية 25- 34 سنة. إضافة إلى ذلك، كان حوالي 80 بالمئة منهم من أصل ريفي، و95 بالمئة منهم كانوا قد عملوا لمرة واحدة على الأقل [في عمل آخر سابق] في السنوات الخمس السابقة. (29)
الاستغلال، التأديب والعقاب: ظروف العمل في الصناعة اللبنانية “الكبيرة”
إلى جانب الأجور المنخفضة، وانعدام الأمان الوظيفي الدائم، والاستغلال البنيوي، كان على الطبقة العاملة الجديدة التعامل كذلك مع ظروف العمل السيئة، والإساءة المستمرة، والانتهاك الممنهج لحقوق العمال. وكان أهم انتهاك هو ذلك المتعلق بالضمان الاجتماعي.
أقر قانون الضمان الاجتماعي عام 1963 بمبادرة من الرئيس السابق فؤاد شهاب، ليكون الأساس لمشروعه الرامي إلى تحديث الدولة. منذ نقاش القانون نفسه، تعرض لمعارضة شديدة من رجال الأعمال، الذين لم يكونوا على استعداد للتخلي عن جزء من أرباحهم، أو التسامح مع ما يشكل، بحسب وجهة نظرهم، تدخلاً غير مقبول من الدولة في السوق الحرة. ترجمت هذه المعارضة بسلسلة من المبادرات المعارضة التي رمت إلى تأخير تنفيذ القانون، وإعادة المفاوضة على التعويضات المقررة ومعايير التغطية [للضمان] وفقاً لرغباتهم. وقد وضع هذا الأمر العمال في صلب الحرب الطبقية بين الدولة ورجال الأعمال، حيث دفعوا أغلى الأثمان. عام 1970، على سبيل المثال، وبعد عام من الضغوطات والتهديدات، رد رجال الأعمال على تنفيذ القسم الأول من أحكام القانون بفصل جماعي للعمال العاملين لأكثر من عامين، وهو ما كان يشكل العتبة المحددة لأصحاب العمل للبدء في دفع اشتراكات الضمان الاجتماعي. (30) تكررت المسألة بعد سنة، عندما ووجه القسم الثاني من أحكام القانون بمقاطعة مفتوحة لدفع اشتراكات الضمان الاجتماعي. (31) وإذا كانت المقاطعة قد توقفت بحلول عام 1972، لكن نفذت مقاطعة أخرى تمثلت بالامتناع عن دفع غلاء المعيشة التي وافق عليها البرلمان عام 1971. (32)
كما انعكست سياسة الصناعيين غير الأخلاقية القائلة “لا تكلفة بأي ثمن” في زيادة سوء ظروف العمل. ونادراً ما تأمنت أدوات الحماية الكافية (مثل: الملابس والأقنعة والقفازات…)، خاصة للعمال القاعديين. (33) ويمكن القول الأمر عينه عن الظروف العامة لبيئة العمل، والتي غالباً ما افتقرت إلى تكييف الهواء والتهوئة الكافية، والأقسام الصحية، والمياه الصالحة للشرب. (34) فرض الانضباط بواسطة أسلوب قمعي وزجري يقوم على المراقبة والعقاب يتولاها الوكيل، أي من يشرف على تنسيق عمل الوحدة الإنتاجية. في الواقع، استعمل نظام الوشاية لصالح الإدارة للضغط على العمال والتبليغ عنهم وزرع الشك وعدم الثقة. كان سلاحهم التأديبي الأساسي هو تطبيق التخفيض التعسفي للأجور، والذي طبق لأسباب سخيفة مثل التأخر لدقائق معدودة عند المدخل، أو الانتاجية اليومية “المنخفضة” الحقيقية أو المزعومة، أو لحظة راحة (فعلياً بحدها الأدنى). وكان تطبيقهم لذلك روتينياً إلى حد أن التخفيضات في نهاية الشهر يمكن أن تبلغ ما يصل إلى يومين أو ثلاثة أيام عمل كاملة. (35) وأخيراً، عوقب العصيان، خاصة ذلك السياسي، بشكل عام، عن طريق الطرد التعسفي.
تجدر الإشارة إلى أن عمليات التوظيف والطرد كانت أساسية للغاية ووحشية واعتيادية. بالنسبة للتوظيف، فقد كان يحصل عند بوابات المصنع، حيث كان تتجمع، في يوم محدد من أيام الأسبوع، جمهرة من الشباب العاطلين عن العمل قبل ساعة فتحها بحثاً عن عمل. وهنا يختار مسؤول إداري العدد المطلوب من العمال الجدد، ويرسلهم مباشرة إلى الخط الانتاجي لفترة اختبارية. اقتصرت معايير الاختيار على نحو عام على التوافق مع متطلبات العمر والجندر المطلوب لأداء المهمة المطلوبة. أما بالنسبة للطرد، في حال كان تأديبياً، كان يكفي إبلاغ المعني شفهياً بحسب القانون. وبالنسبة للطرد غير التأديبي، نص القانون على وجوب تقديم إشعار رسمي قبل شهر واحد على الأقل. مع ذلك، ونظراً للطابع غير الرسمي للعقود والصعوبة التي يواجهها الموظفون في الشهادة بشأن الانتهاكات، كان يمكن تخطي هذا الشرط [التبليغ] بكل سهولة، ولم يكن غير مألوف حصول عملية الطرد يوم الدفع.
وكانت ظروف العمل السيئة مرتبطة كذلك بعدم وجود نقابات صناعية قوية. ففي قطاع الصناعات الغذائية، مثلاً، الذي كان يوظف حوالي 23 بالمئة من اليد العاملة الصناعية المأجورة، لم يرخص لأي نقابة قطاعية على الإطلاق. وكذلك في ظل غياب للنقابات القطاعية، بلغت نسبة العمال في قطاعات المفروشات والزجاج والمعادن 20 بالمئة من العمال. (36) أكثر من ذلك، حتى في ظل وجود النقابة، فإنها لم تكن ضمانة كافية وتلقائية لظروف عمل أفضل. ومن الأمثلة على ذلك العمال في قطاع النسيج، الذين كانوا يمثلون 20 بالمئة أخرى من إجمالي العمال المأجورين في القطاع الصناعي ومثَّلَهم اتحاد وطني يميني، إضافة إلى اتحاد إقليمي أصغر شيوعي الولاء. عام 1969، وبعد مساومات طويلة، نجحت النقابات في الحصول على اتفاقية عمل جماعية. مع ذلك، وبسبب قلة القدرة النضالية والتواجد للنقابة في المصانع، استمرت الممارسات المسيئة دون أي تغيير. وقد تعززت الهشاشة التي تعرضت لها الطبقة العاملة على نحو أكبر بسبب الوزن الهامشي الذي شغلته النقابات الصناعية داخل الاتحاد العمالي العام، إضافة إلى وجود تناقضات داخلية ضمن الاتحاد نفسه.
منذ البدء بتطبيق قانون العمل عام 1946، خضعت النقابات اللبنانية لعملية إعادة تشكيل مستمرة من فوق بهدف إضعاف قوتها، وتحويلها إلى مراكز هيمنة للنخب الحاكمة. (38) كانت الوسيلة الأساسية لإعادة التشكيل هذه عبر الاستعمال السياسي للترخيص النقابي تبعاً لاستراتيجية ذات وجهين لاحتواء الوزن السياسي للنقابات اليسارية في حين شجعت العمال على الانضمام للنقابات العميلة للسلطة- أو في أحسن الأحوال الإصلاحية أو المناهضة للشيوعية. وقد أنتج ذلك مع الوقت مشهداً نقابياً رسمياً يميل بشدة لصالح قطاع الحرف اليدوية والقطاع الخدماتي، وقبل كل شيء، لصالح الاتحادات العميلة للسلطة غير الممثلة للعمال ولكن المرتبطة بقادة سياسيين بارزين.
إنطلاقاً من هذه الخلفية، ومن بداية الستينيات، ظهر جيل جديد من القادة النقابيين الإصلاحيين من النقابات المرخصة الموجودة، تمكنوا من نيل تأييد العمال. (39) وكان صعودهم السياسي مدفوعاً من قبل من الجهاز الأمني الشهابي والولايات المتحدة، التي اعتبرت، في ظل الحرب الباردة، هؤلاء النقابيين الجدد يشكلون بديلاً أكثر فعالية من الحرس النقابي القديم بهدف احتواء تأثير النقابات اليسارية المتزايد. (40) ودخلت الأخيرة بدورها، في تلك الفترة، مرحلة من التعبئة والتنظيم المستمرين، والتي أدت في نهاية الأمر، وبفضل ظروف سياسية مؤاتية، عام 1966 إلى الحصول على الترخيص القانوني لها. (41) وقد مهد ذلك الطريق لعملية توحيد طويلة توصلت عام 1970 إلى انضواء كل الاتحادات النقابية المرخصة ضمن الاتحاد العمالي العام، (42) والذي بات أكبر هيئة تمثيلية نقابية للعمال اللبنانيين. (43)
وكان للتوحيد فضل كبير في تجميع العمال والموظفين اللبنانيين حول برنامج مطلبي مشترك، من بين مطالبه الأساسية إلغاء المادة 50 من قانون العمل والدفاع عن حق العمال بالضمان الاجتماعي. مع ذلك، فإن الهيمنة الداخلية للنقابات العميلة والإصلاحية (44) قد خلقت حلقة مفرغة حيث بقيت الفعالية السياسية للاتحاد العمالي العام مقيدة بالمطالبة بزيادة الأجور- الهزيلة أصلاً- ما جعل من كل المسائل المرتبطة بحقوق العمال هامشية. وقد كانت تلك الهيمنة مضمونة من خلال اعتماد المنطق التمثيلي الداخلي القائم على “اتحاد واحد، صوت واحد”، والذي صمم خلال عملية التوحيد تبعاً لذات استراتيجيات الاحتواء المناهضة لليسار والتي ساهمت في توجيه السياسات النقابية في السنوات الثلاثين الماضية. وقد مهد هذا الأمر الطريق حتى فقد الاتحاد العمالي العام لشرعيته بسرعة بحسب وجهة نظر الفئات العمالية الأكثر ضعفاً، من بينها الطبقة العمالية الجديدة، والتي ستبحث في نهاية الأمر في مكان آخر عن حل لتحسين ظروف عملها.
“التمحور حول الطبقة العاملة”: منظمة العمل الشيوعي وتنظيم اللجان العمالية
وفي حين كانت مواقف الفئات العمالية القاعدية تناضل من أجل تأمين مصالحها والتمثيل المناسب في الساحة النقابية الرسمية، اكتسبت مسألة ظروف عملها، وقبل كل شيء، تنظيمها، أولوية متزايدة ضمن الأجندة النضالية لليسار الماركسي اللبناني.
تماشياً مع الزخم الثوري في العالم خلال الستينيات، وبدءاً من نهاية الخمسينيات، شهدت المنطقة العربية تنامياً ملحوظاً في تشكل الجماعات اليسارية الجذرية. من بينها، احتل ما سمي باليسار العربي الجديد مكانة بارزة، الذي ضم جيلاً جديداً من الناشطين ومن المنظمات الراديكالية التي ظهرت وانشقت عن الأحزاب الاشتراكية والشيوعية والقومية العربية الموجودة خلال الستينيات، بحثاً عن نماذج تنظيمية وفكرية جديدة لدفع النضال من أجل التحرر الجذري لمجتمعاتهم. (45) وقد تطورت هذه التنظيمات كردة فعل على التحول البيروقراطي الاستبدادي للأنظمة الاشتراكية العربية في السلطة (سوريا والعراق البعثيان، ومصر الناصرية، من بين الأهم)، وقبل كل شيء، فشل الأخيرة في الوفاء بوعود تأمين العدالة الاجتماعية والوحدة العربية والالتزام بمناهضة الامبريالية التي أضفت الشرعية على استبدادية تلك الأنظمة. خلال عملية الانشقاق والتجذر، جاءت النقطة التي أدت إلى طوفان الكأس وتجسدت بالهزيمة العربية في حرب حزيران/يونيو عام 1967، أو النكسة، التي قدمت، في نظر هؤلاء المناضلين الشباب، كدليل قاطع على ضرورة إحداث تغيير جذري في هذا المصير. وخلال البحث الكثيف عن الذات، الذي أعقب ذلك، تحول أفق خيالهم الثوري بسرعة من القاهرة ودمشق إلى هافانا وهانوي، مع العالمية الثالثية، والماوية والشيوعية الأوروبية، وقبل كل شيء، الماركسية اللينينية من العقيدة السوفياتية التي قدمت الإطار الأيديولوجي للنضال. (46)
أما بالنسبة للبنان، فقد كانت أهم منظمتين لليسار الجديد هما تجمع لمثقفي لبنان الاشتراكي ومنظمة الاشتراكيين اللبنانيين- المنظمة الماركسية اللينينية اللبنانية المنشقة عن حركة القوميين العرب. (47) عام 1970، اندمجت المنظمتان في منظمة العمل الشيوعي في لبنان. (48) نبعت الأسس البرنامجية للاندماج من نقد راديكالي للوضع الدولي والمعنى السياسي للنكسة، ما تطلب، بحسب المنظمة، من الثوار إعادة تحديد أجنداتهم السياسية بحيث يحصل التوفيق بين “القضاء على الهيمنة الامبريالية وترسيخ بناء الاشتراكية، وبناء أسس علاقات الإنتاج الاشتراكية”، (49) كما في فيتنام وأميركا اللاتينية. وهذا يعني، قبل كل شيء، إقامة كتلة تاريخية – عضوية- تنبع من “الطبقات الثورية” (أي الطلاب والفلاحين والطبقة العاملة)، لكي تتحول إلى القوة القيادية للنضال من أجل التحرر الطبقي والوطني. لتحقيق هذا الهدف، كان من الضروري إجراء تحول جذري في أنماط التنظيم والتعبئة المهيمنة لصالح العمل المباشر والتضامن النضالي، حيث فقط من خلال الوحدة العملية لـ “الطبقات الثورية”، بحسب منظمة العمل الشيوعي، يمكن أن تتغير العلاقات الاجتماعية المهيمنة على نحو راديكالي. (50) وقد جرى تأطير هذا البرنامج الملح ضمن نقد مباشر لليسار “القديم” وبرامجه العمالية، من ضمنه الحزب الشيوعي اللبناني، الذي اتهمته منظمة العمل بـ “الانتهازية اليمينية” لتفضيله السياسات المؤسساتية على النضال القاعدي، محوّلاً نفسه “إلى حزب مصالح العناصر البرجوازية الصغيرة والمثقفين المرتبطين بالحكومة والمجموعات التقليدية من العمال وصغار الموظفين”. (51) واتهمت منظمة العمل الحزب الشيوعي بالفهم المختزل لأزمة الرأسمالية اللبنانية باعتبارها حالة من “الركود الاقتصادي وبنية سياسية غير سليمة” وغير ناجمة عن “تواطؤ الطاقم الحاكم في البلاد مع الامبريالية”. (52)
ضمن هذا الإطار، وفوراً بعد الاندماج، أنشئت الخلايا العمالية المخصصة لتنظيم العمال القاعديين ضمن منظمة العمل. وقد تأثر هذا النموذج التنظيمي الذي سعت المنظمة إليه بتجارب الطبقة العاملة و”العمالوية” التي نشأت في الفترة نفسها في أوروبا، وخاصة في إيطاليا، والتي نقلت معرفتها إلى لبنان من خلال التوزيع الكثيف لمجلات اليسار الأوروبي الجديد، مثل “الأزمنة الحديثة” لـ جان بول سارتر. (53) هناك، وعلى خلفية التوسع الصناعي المستدام، بدأ منذ نهاية الستينيات جيل جديد من العمال القاعديين من أصل ريفي بالتنظم ضمن لجان شعبية مستقلة، معتمدة على العمل المباشر مقابل عدم فعالية النقابات العمالية الرسمية وذلك بهدف تحسين ظروف عملهم. (54) وسرعان ما اجتاحت تعبئة هذه اللجان التضامن الطليعي العمالي الناتج عن الحركة الطلابية عام 1968، واضعة الأسس لكتلة اجتماعية وسياسية راديكالية جديدة ومشكّلةً إحدى أكثر الكتل التحويلية في العقد التالي. (55) وقد تلاقى هذا الأمر مع طموح منظمة العمل الاستراتيجي في تنظيم “الشيوعيين المتفانين والمناضلين من خلال حلف إيديولوجي وعملي من شأنه الجمع بين الجماهير العمالية والمزارعين وكل الجماهير المناضلة بشكل يومي للتعلم منهم والتعلم فيما بينهم”. وبفعل ذلك، وضعت المنظمة نفسها “على الطريق نحو مشاركة كاملة في تقدم الحركة الوطنية الديمقراطية ونحو ترسيخ الطبقة العاملة في موقع ثابت داخل تلك الحركة”، (56) والتي اعتبرت أنها جزء لا يتجزأ من الحركات الثورية التي تناضل ضد الاضطهاد الطبقي والامبريالي في كل العالم.
تكثف هذا التوتر المزدوج في نهاية المطاف ضمن الشعار البرنامجي “التمحور حول الطبقة العاملة”، واتخذت الخطوات الأولى لتطبيقه عبر إنشاء اللجان العمالية تحت رايتها.
شبح يطارد المصانع: انتشار اللجان العمالية ونضالها وتنظيمها الداخلي
وفي الانتقال من النظرية إلى التطبيق، وجدت منظمة العمل نفسها أمام تحديين أساسيين. الأول كان الوصول فعلاً إلى الطبقة العاملة ومواقفها، وذلك لأن أعضاء منظمة العمل ضمت في صفوفها بدرجة كبيرة طلاباً ومثقفين برجوازيين وبرجوازيين صغار. وترافق ذلك باستحالة عملية في استعمال المصانع كمساحات للتنظيم والتسييس، بسبب سيطرة الوكلاء إلى جانب الهشاشة العمالية داخلها.
وإدراكاً منها لهذه الصعوبات، كانت الخطوة الأولى التي اتخذتها المنظمة هي إطلاق “تحقيق عمالي” (57) بين القواعد العمالية للتعرف بشكل مباشر من أفواههم إلى ظروف عملهم ومعيشتهم. (58) كان التحقيق جزءاً من عملية “اختراق” أوسع وأشمل للطبقة العاملة شارك فيها أعضاء منظمة العمل، حيث بدأ هؤلاء، بعد إنشاء مجموعات اتصال صغيرة، في التجول في أحياء الطبقة العاملة والمشاركة في الأنشطة الترفيهية للعمال، وذلك من أجل إقامة تفاعل أولي وبناء ثقة متبادلة. (59) كان تركيز هذا النشاط المبكر على الضواحي الصناعية لبيروت، حيث تمركز حوالي 85 بالمئة من القدرة الصناعية المحلية، وسكنت أغلبية القاعدة العمالية. وسرعان ما ترافق هذا النهج مع توزيع لمنشورات ولاحقاً لنشرة بعنوان “نضال العمال”، الرامية إلى رفع مستوى الوعي بين العمال حول حقوقهم، والاعتراف بأهمية الوحدة والتنظيم، والتشديد على المركزية الاستراتيجية للعمل المباشر. كان هدفها التحايل على عدم إمكانية الوصول السياسي للمصانع، والربط بين العمال وتنظيمهم على نطاق واسع. ومنذ البداية، انتشرت التعليمات حول سبب وكيفية تشكيل اللجان. وبعد بدء تشكيلها، استعملت نشرة نضال العمال لتعميم الدعوات للنضال، ومشاركة التقارير حول ظروف العمل أو تقدّم التعبئة من مصنع إلى آخر، ونشر الإعلانات والتحليلات والأخبار من بقية القوى الاجتماعية المتحركة. وهذا ما جعل من النشرة “رفيقاً ورقياً” حقيقياً، حيث عملت كمكبر صوت وصورة رمزية للجان العمالية كلما مُنعت من التواجد الجسدي والتواصل الكلامي [مع العمال].
وقد سارت عملية اختراق الطبقة العاملة بالتوازي مع العمل المكثف على نفس القدر للتنظيم بين الطلاب والفلاحين، (60) والذين دخلوا في الفترة عينها مرحلة تعبئة مكثفة. في سهل عكار، وبدءاً من عام 1969، انتفض المزارعون الذين لا يملكون أرضاً ضد الملّاك الغائبين، وعمليات الإخلاء القسري، وتنامي الأعمال الزراعية الاحتكارية. وفي نفس السياق، نشط في الجنوب مزارعو التبغ ضد [شركة] الريجي للمطالبة بأسعار شراء أفضل، ومنح تراخيص جديدة، والحق في الانضمام إلى النقابات والضمان الاجتماعي. (61) إلى جانب ذلك، ظهرت في المدارس والجامعات حركة طلابية جذرية على نحو متزايد لتحدي “المجتمع الاستهلاكي” اللبناني وتكاليفه الاجتماعية، وكذلك ضد السياسة الخارجية اللبنانية وموقع لبنان من القضية الفلسطينية، والتي شكلت، وقتها، أم النضالات وقوة استقطاب بارزة داخل المجتمع اللبناني. (62)
على عكس توقعات منظمة العمل الأولية، كان انتشار اللجان العمالية سريعاً على نحو خاص. وبحلول عام 1971، انتشرت اللجان العمالية في كل المنشآت الصناعية الكبيرة في الضاحية الجنوبية لبيروت. ومع نهاية العام التالي، تواجدت اللجان بشكل راسخ كذلك في ضواحي بيروت الشرقية. أكثر من ذلك، تأسست اللجان في مصانع الجنوب والبقاع، (63)، وكذلك أقيمت العديد من اللجان العمالية في مؤسسات غير صناعية. (64)
كانت الوحدة الأساسية لإنشاء اللجان العمالية هي قسم من المصنع. وجمعت اللجنة العامة للمصنع اللجان العمالية للأقسام، وشارك ممثلوها (شخصان من كل وحدة) في اجتماعات اللجان المشتركة بين المصانع. ونسقت خلايا منظمة العمل هذه الأخيرة، والتي كانت بمثابة حلقة الوصل بين اللجان العمالية وبقية المنظمة- وخاصة اللجنة المركزية والمكتب السياسي- وبين اللجان العمالية نفسها. توزعت الخلايا العمالية على أساس قطاعي (الأغذية، والخشب والمفروشات، والميكانيك، والنسيج…). (65) وعند كل مستوى، كانت الاجتماعات تحصل بوتيرة أسبوعية، حيث كان مندوبو الخلايا العمالية واللجان العمالية عقدة الوصل بين الشرائح المختلفة. مثلت الخلايا العمالية المكان السياسي الذي نوقشت واعتمدت فيه الأولويات الاستراتيجية التي ينبغي اعتمادها. وكانت الخلايا العمالية كذلك بمثابة رأس جسر لتنظيم اللجان الجديدة، وكذلك واجهة لانخراط العمال في منظمة العمل. وكانت الاجتماعات تعقد خارج المصنع، وعادة في بيوت المناضلين الخاصة أو في الأماكن العامة مثل حرش بيروت. وينبغي الإشارة كذلك إلى أنه ونتيجة للمناخ البوليسي المهيمن على المصانع، باتت الخلايا العمالية أشباحاً حقيقية داخل المصانع لدرجة أن أعضاء اللجان، ما عدا المندوبين أنفسهم، لم يعرفوا هوية الأعضاء في بقية اللجان ما عدا أولئك الموجودين في مجموعتهم. كذلك، جرى تجنب الأنشطة والحديث السياسي خلال دوام العمل بشكل صارم. وكانت تظهر لحظة الكشف خلال التعبئة الميدانية، وخاصة من خلال الإضرابات، حيث يكسر جدار السرية المحيط بأعضاء اللجان.
وكانت تنظم الإضرابات بشكل عام على الشكل التالي: بعد الاتفاق على ضرورته في اجتماعات الخلايا العمالية واللجان العمالية، “تحضر الأرضية” من خلال القناة المزدوجة لنشرة نضال العمال والشبكات النضالية الشخصية. وعند التأكد من أن المزاج العام ملائمٌ بشكل كافٍ، يحدد موعد التحرك بموافقة مسبقة من المكتب السياسي لمنظمة العمل. وفي اليوم المختار، تكون مهمة أعضاء اللجان والخلايا أولاً أن يكونوا بمثابة فتيل التعبئة، من خلال إعلان حالة التعبئة عند بوابات المصنع قبل بداية دوام العمل. وإذا نجحت الدعوة إلى التحرك، يقدم أعضاء الخلايا واللجان لائحة بالمطالب، وينظمون المفاوضات، ويصدرون البيانات، ويعدون الأعلام واللافتات، ويقومون بكل ما يلزم لتنفيذ التعبئة.
خلال السنة الأولى من نضالها، كرست الخلايا واللجان معظم جهودها لبناء وتعزيز قاعدة عمالية واعية ونضالية. وبدأت ثمار هذا التسييس في النصف الثاني من عام 1971، حين بدأت الإضرابات والتعبئة التي قادتها اللجان وهزت العالم الصناعي بشكل منتظم. خلال ربيع عام 1971، على سبيل المثال، نظم إضرابان في مصنع جابر-بيونير (300 عامل) ومصانع يونيفود (صناعة الأغذية) للحصول على الحق بيوم راحة مدفوع الأجر في المولد النبوي وأجور أعلى وظروف عمل أفضل. (66) طوال فصل الصيف، نُظمت المزيد من التحركات في سيفن-آب، وسليب كوموفورت (مفروشات، 1000 عامل)، وسينبوا (الخشب) للمطالبة بتحسين الأجور وظروف العمل، واحتجاجاً على الطرد التعسفي والخروقات لقانون العمل، والمطالبة بحرية تشكيل النقابات. (67) كما تزامنت الإضرابات مع المحاولات الأولى للحصول على الاعتراف الرسمي بشرعية تمثيلهم للعمال في المصانع. وقد أتيحت الفرصة المناسبة في الخريف من خلال انتخابات تجديد العديد من المجالس النقابية الصناعية، والتي قررت اللجان التنافس معها. (68) تجدر الإشارة كذلك، أنه وعلى الرغم من عملية التجديد التي قام بها الحزب الشيوعي اللبناني بعد مؤتمره الثاني عام 1968، (69) في تلك الفترة، استمر خلاف الحزب والمنظمة. وقد تجلت هذه المنافسة، على سبيل المثال، خلال انتخابات المجلس النقابي لـ لنقابة دهاني الديكور والليسترو، التي جرت عام 1971، التابعة للاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين، حيث رفض مندوبوه مشاركة مرشحي اللجان بأي شكل من الأشكال. (70)
على الرغم من انتشارها المتنامي والقدرة على التعبئة، بقيت النتائج التي حققتها اللجان العمالية في هذه المرحلة الأولى هزيلة جداً. وبما خص الإضرابات، لم تحقق أي مكاسب كبيرة ما عدا إعادة بعض العمال الذين طردوا بسبب نضالهم السياسي. كما استعملت عمليات الطرد- سواء قولاً وفعلاً- وقمع الشرطة وعمليات التزوير الانتخابي لمنع أعضاء اللجان العمالية من المنافسة والترشح لمجالس النقابات. (71) مع ذلك، فإن نتائج هذه العرقلة والقمع لم يرقَ إلى المستوى الذي طمح أصحاب العمل إلى تحقيقه. بدلاً من ذلك، ومن خلال الكشف التدريجي عن العلاقة العضوية وتقارب المصالح بين الدولة وأرباب العمل والاتحاد العمالي العام في المحافظة على الوضع المهيمن، لعبت اللجان دوراً تسريعياً في التجذر العمالي والانشقاق عن البنى النقابية الرسمية.
إضراب غندور ونهاية “عصر البراءة”
في ظل عملية التجذر القاعدية، شكّل إضراب غندور في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1972 نقطة التحول الأساسية.
بحلول وقت الإضراب، مثّل مصنع غندور نموذجاً مثالياً للصناعة اللبنانية الكبيرة. تأسس المصنع مع نهاية القرن التاسع عشر لصناعة الحلويات تديره عائلة غندور، بعد الطفرة الصناعية في الستينيات، بات مصنعاً ضخماً، مع رسوخ عائلة غندور كثاني أهم سلالة صناعية في البلد. وقد تمثل هذا التوسع في افتتاح مصنع ثانٍ عام 1970 شغّل 1250 عاملاً في الشويفات، متجاوزاً مصنع الشياح التاريخي (350 عاملاً) في الضاحية الجنوبية لبيروت. وهذا ما جعل من مصانع غندور أكبر مجموعة صناعية لا تتمتع بتمثيل نقابي رسمي، حيث لم يرخص أبداً لنقابة في قطاع الصناعات الغذائية، ولا حتى لنقابة “صفراء”. كانت مجموعة غندور كذلك مثالاً على العلاقات التي تربط بين رجال الأعمال والطبقة الحاكمة التي تميز بنية السلطة اللبنانية، وقد تجسد ذلك بتعيين رفيق غندور رئيساً لجمعية المقاصد- المؤسسة الخيرية السنية التي أسستها في نهاية القرن التاسع عشر عائلة الزعيم السني ورئيس الحكومة صائب سلام. (72)
أنشئت اللجنة العمالية الأولى في بداية السبعينيات وشكلت أولى اللجان التي أسستها منظمة العمل. (73) ومنذ تأسيسها، نشرت تقاريرها في صفحات نضال العمال، وفي مجلة الحرية الأسبوعية التي أصدرتها منظمة العمل، والتي شهدت على الانتهاك الممنهج لحقوق العمال الأساسية التي اقترفتها إدارة المصنع. (74) من بينها، الاعتماد الممنهج على العمل الإضافي غير المدفوع، وعدم تطبيق أحكام قانون الضمان الاجتماعي، وآلية سيطرة مشددة، فضلاً عن العقوبات التي فرضها الوكلاء.
لقد نضج قرار إعلان الإضراب المفتوح بعد أشهر من التوترات المتزايدة والتي سببها الرفض المتكرر للأخوين غندور لزيادة في الرواتب بقيمة 5 بالمئة والتي أقرها مجلس النواب في حزيران/يونيو 1972. وكانت النقمة قد شهدت فعلياً تحولاً متزايداً منذ نهاية شهر آب/أغسطس، عندما توفي عامل في مصنع الشياح، على خلفية روتين عمل ضاغط وتقليص للأجور ودوام عمل متعب تحت رقابة الوكيل المشددة، الذي ظنّ أنه كان نائماً، فطبق العقوبة على جثته. (75) ما أثار تزايداً في النقمة والاحتجاج على المخالفات في تطبيق الأجور وأحكام الضمان الاجتماعي، والعمل الإضافي الممنهج وغير المدفوع، وممارسات الوكلاء المقززة. انطلق الإضراب المفتوح صباح يوم 3 تشرين الثاني/نوفمبر في مصنع الشياح، ليمتد في اليوم التالي كذلك إلى مصنع الشويفات، وسرعان ما انضم العمال إلى الإضراب. تركزت التعبئة عند أبواب مصنع الشياح، حيث سرعان ما شكلت تنسيقية لتنظيم الإضراب وتنظيم المناضلين والترحيب بتضامن الطلاب والناشطين. في هذا الوقت كلفت مجموعة من المندوبين لإجراء تفاوض مع الإدارة والسلطة السياسية. (76) بدأت المفاوضات بعد يومين، حين استُقبل وفد العمال في وزارة العمل ووزارة الشؤون الاجتماعية، ونجحت في تشكيل طاولة مفاوضات. في هذا الوقت، وبما أن الاتحاد العمالي العام كان قد اقتصر تدخله المبكر على إقناع العمال بوقف الإضراب، نظمت مظاهرة من المصنع إلى المكاتب المركزية للاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين، بحثاً عن الدعم. (77)
وعلى الرغم من توتر الوضع، فقد شهد الأسبوع الأول من الإضراب مناخاً من الهدوء النسبي. تغير الجو العام بشكل كبير يوم 10 تشرين الثاني/نوفمبر، عندما أوضحت إدارة شركة غندور، عقب الاجتماع الثاني بين مندوبي العمال ووزارة الشؤون الاجتماعية، أنها لن تلبي أياً من مطالب العمال. وفي مواجهة هذا الموقف الرافض للمساومة، قرر العمال البقاء صارمين في مواقفهم ومواصلة الإضراب حتى تحقيق كل المطالب. مع ذلك، فإن الجواب المضاد الذي تلقاه العمال تجاوز كل التوقعات. في صباح 11 تشرين الثاني/نوفمبر، أرسلت فرقة كبيرة الحجم من قوى الأمن الداخلي إلى المصنع لوقف الإضراب بالقوة. ومع اندلاع الاشتباكات، أطلقت القوى الأمنية الرصاص على المتظاهرين، فقتلت عضو اللجنة يوسف علي العطار والشابة فاطمة الخواجة. (78) وكانت موجة السخط والنقمة التي تلت الجريمة هائلة. بعد فترة وجيزة من جريمة القتل، انفجرت قنبلة يدوية في شارع من شوارع الضاحية الجنوبية. في هذا الوقت، وفي حين دعت القوى اليسارية والتقدمية إلى يوم من التعبئة الوطنية، انتشرت صور المجزرة في الصحف. وكتبت منظمة العمل: “إن الرصاص الذي أطلق على عمال غندور هو في الحقيقة رصاص أطلق ضد الطبقة العاملة بمجملها”. وقد رددت صحيفة الحزب التقدمي الاشتراكي اليومية صدى هذا الموقف، وقد وصفت، وبنفس النبرة، المجزرة بأنها العرض الأخير لكيفية “استغلال المؤسسات الرأسمالية في دولة رجعية لمؤسسات الدولة والأجهزة لصالح رأس المال”. (79) في ظل هذه المعمعة، ومع بدء المطالبة بالتحقيق في القمع من جانب الرأي العام والمعارضة البرلمانية، أطلقت دعوة لمظاهرة وطنية يوم 13 تشرين الثاني/نوفمبر. وقد شكل هذا الأمر ضغطاً إضافياً على الاتحاد العمالي العام حتى يدعو، أخيراً، إلى إضراب عام. (81) وكان التجاوب مع الإضراب والتعبئة كبيراً. في بيروت، تظاهر نحو 50 ألف شخص باتجاه مجلس النواب، حيث رفعت شعارات قوية كان قد رددها العمال في اليوم السابق، إضافة لخطابات حادة هاجمت من دون استثناء السياسات الاقتصادية اللبنانية، وتواطؤ السياسيين، وسوء استعمال القوة. وحصلت تعبئة جماهيرية كذلك في المدن اللبنانية الكبرى، حيث خرج الآلاف من المواطنين إلى الشوارع. (82) واستمرت الإضرابات والمظاهرات العشوائية على نطاق واسع خلال الأيام التالية.
وفي مقابل هذا الضغط الشعبي غير المسبوق، وبعد وقت قصير من إعلان الإضراب العام، شكلت لجنة رسمية ثلاثية ضمت: الاتحاد العمالي العام ووزارة الشؤون الاجتماعية وشركة غندور، تركزت مهمتها على دراسة مطالب العمال وتلبيتها. خلال ذلك الوقت، علق الأخوان غندور الإغلاق المعلن خلال التحرك، وأعادا العمال المطرودين. مع ذلك، فإن الحماسة لم تدم لوقت طويل. فمع استئناف الانتاج، أجريت سلسلة من التدابير الانتقامية التأديبية ضد العمال، وقبل كل شيء، ضد من أظهروا مستوى مرتفع من النضالية. في الوقت عينه، وبسبب عرقلة مصنع غندور الشديدة، تعثرت المفاوضات في اللجنة الثلاثية [لأن المعروض كان إعطاء] مكاسب هزيلة. أكثر من ذلك، وعلى الرغم من الأصوات العديدة المطالبة بالمحاسبة عن المجزرة، رفض رئيس الحكومة صائب سلام حتى إجراء تحقيق داخلي ضمن قوى الأمن الداخلي، وذلك تماشياً مع صداقته الطويلة مع الأخوين غندور. (83)
ووصل الأمر إلى نقطة اللاعودة في منتصف شهر كانون الأول/ديسمبر، حين استقبلت وزارة الشؤون الاجتماعية وفداً من اللجان، بعد طرد تعسفي جديد. كان جواب من آل غندور هذه المرة أكثر تطرفاً من السابق. إذ رفعت الشركة شعار “المبدأ المقدس للحرية التعاقدية”، وأعلنت عن إغلاق المصنعين لمدة ستة أشهر، وفصلت جماعياً كل العمال. (84) أدى ذلك إلى انطلاق موجة تعبئة جديدة على المستوى الوطني، والتي لم تتمكن إلا بإعادة العمال المطرودين. (85) مع ذلك، فإن الإدارة السياسية للإضراب وتداعياته من قبل كل من الاتحاد العمالي العام والدولة قد سببت صدعاً لا يمكن إصلاحه بين العمال القاعديين والنخبة الحاكمة والنقابية، ما أدى إلى تسارع في تجذرهم وتقربهم من اللجان العمالية. يظهر هذا التغيير بالموقف السياسي زيادة حجم وقوة التعبئة التي قادتها اللجان العمالية. بين عامي 1972 و1973، على سبيل المثال، نظمت 3 إضرابات مفتوحة بنجاح في مصنعي كاسارجيان (للألمنيوم، 500 عامل) وبيونير جابر (معادن خفيفة، 250 عامل)، ما شق الطريق أمام سلسلة من الانتصارات أمام جميع التحركات القاعدية في المصانع في المرحلة التالية. (86) في الفترة نفسها، تمكن أعضاء اللجان من الوصول إلى عضوية مجالس نقابتي صناعة الأحذية والميكانيك. في هذا الوقت، أتاحت “حبوب الماركسية المبسطة” المخبأة بصمت في الأعداد الأولى من نشرة نضال العمال أمام انتشار قاموس نضالي علني، وتحليل تفصيلي أكثر للوضعين اللبناني والإقليمي، وتقديم برنامج جماعي يعنى بحياة الطبقة العاملة بكل جوانبها في الكثير من الدول. ومن بينها، سرعان ما حل مطلب إلغاء المادة 50 من قانون العمل وحلّت مسألة الإسكان مكانة بارزة. وأخيراً، باتت الأخبار والإعلانات الطلابية، وقبل كل شيء، الفلاحية، حاضرة بشكل كبير، في محاولة لبناء وتعزيز التضامنات المتبادلة وبناء أجندة مشتركة من المطالب.
أيام المكلس وتأكيد الاستقلالية الذاتية المتكاملة
إضافة إلى كونها علامة على نهاية عصر البراءة بالنسبة للعمال القاعديين الشباب، فقد دشنت مجزرة غندور تحولاً قمعياً شديداً في تعاطي الدولة مع المعارضة العمالية. في شهر كانون الثاني/يناير عام 1973، فرقت قوى الأمن الداخلي مظاهرة جماهيرية لمزارعي التبغ في كفررمان بالنبطية بالقمع موقعة شهيدين (نعيم درويش وحسن حايك). (87) في الوقت نفسه تقريباً، وبعد شهرين من المساومات غير المجدية مع الحكومة، تعطّل تحرك معلمي المدارس الرسمية مع طرد 324 معلماً بتهمة “إثارة الشغب”. (88) كما قمعت احتجاجات الطلاب بشكل منهجي بالقوة.
وجاء لجوء الدولة إلى القبضة الحديدية في أعقاب الفشل الصارخ لما سمي “حكومة الشباب” (1970- 1972) في تنفيذ عدد من الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية الرامية إلى التخفيف من تأثير الارتفاع الشديد للتضخم على المواطنين وبالتالي منع “الثورة من تحت”. (89) تعثر البرنامج في ظل الضغط الشديد الذي مارسته الاحتكارات التجارية المرتبطة بالطبقة الحاكمة، والتي تمكنت، بسبب انتصار التحالف المعادي للشهابية في الانتخابات النيابية عام 1968، من تصعيد الحرب الطبقية من فوق التي كانت قد بدأت في السنوات السابقة. ومن الأمثلة النموذجية على هذا التصعيد، تحطيم المشروع الإصلاحي عام 1971 الذي طرحه وزير الصحة إميل بيطار لتخفيض الأسعار المتضخمة للأدوية الأساسية من خلال استيرادها عبر صندوق الضمان الاجتماعي. وقد أطلق المشروع ردة فعل شرسة مضادة من قبل نقابة الصيادلة ومستوردي الأدوية، الذين تمكنوا في نهاية المطاف من تحقيق الانتصار عبر سحب الأدوية الأساسية من السوق مثل الأنسولين. كذلك، وإثر مضاربات عقارية غير منضبطة وضغوط الكارتيلات العقارية، بقيت مشاريع الإسكان الاجتماعي التي أطلقها فؤاد شهاب حبراً على ورق. وكانت المضاربة التي مارسها مستوردو المواد الغذائية كذلك وراء الزيادة الشديدة في أسعار السلع الغذائية الأساسية، التي تضاعفت بين عامي 1967 و1975. (90) وقد لعبت هذه الممارسات الوحشية الناتجة عن العلاقة العضوية بين السلطة الاقتصادية والسياسية دوراً أساسياً في تجذر العمال المأجورين. في المناطق الريفية، كان الفلاحون المعبؤون ينظمون بأنفسهم بسرعة كذلك. في شهر نيسان/أبريل عام 1973، وتحت رعاية القوى اليسارية، تأسس اتحاد نقابات مزارعي التبغ. وقبل ذلك بشهر، انعقد المؤتمر الوطني الأول لعمال الزراعة. وأخيراً، في شهر أيار/مايو، عقد عمال الزراعة مؤتمرهم الأول في البقاع. (91)
من جانبه، كان الاتحاد العمالي العام مدركاً جيداً لنفاذ الصبر الشعبي. وقد ظهرت أولى التغيرات في المزاج عقب مجزرة كفررمان، حين تصاعدت الاحتجاجات الشعبية، على عكس التظاهرات التي تلت مجزرة مصنع غندور، شارك فيها الفلاحون والطلاب والعمال، وخاصة في الجنوب، وعامة الناس غير المسيسين. (92) هذه الدرجة من الضغوطات أجبرت الاتحاد العمالي في نهاية الأمر على اتخاذ التدابير المناسبة.
في 28 آب/أغسطس عام 1973، في محاولة لتهدئة الاحتجاجات الشعبية، نظم إضراب عام كان العمال يطالبون به لسنوات مضت. (93) وتضمنت لائحة المطالب مجموعة شاملة من الاقتراحات لمكافحة التضخم، من بينها إجراءات فعالة ضد الاحتكارات التجارية، وتنظيم أسعار الاستهلاك، والدفع المنتظم للإعانات. كما كرر الإضراب المطالب التي بقيت حتى الآن دون معالجة، بدءاً من إلغاء المادة 50. وترافق ذلك بالتهديد بإضراب عام مفتوح بدءاً من أيلول/سبتمبر إذا لم تلبَ المطالب المرفوعة. على الرغم من أن الاتحاد العمالي العام تمكن من تحقيق الحد الأدنى من الزيادة على الرواتب، إلا أن الإضراب المفتوح لم يتحقق أبداً. وبدلاً من ذلك، وفي محاولة مضللة منه لضرب عصفورين بحجر واحد، دخل الاتحاد العمالي في حلقة مفرغة من الدعوات والتأجيلات في اللحظة الأخيرة للإضراب المفتوح بمعدل شهري. نجحت هذه التهديدات في ابتزاز الدولة لبعض الزيادات على الرواتب، إضافة إلى الالتزام الشكلي بتنفيذ بقية المطالب. (94) مع ذلك، إن موقف الاتحاد العمالي العام المتردد لم يفعل سوى إثارة غضب الأقسام الأكثر راديكالية في الحركة العمالية، التي انفصلت في نهاية المطاف عن إملاءات الاتحاد العمالي العام. الخرق الأول والأكثر راديكالية حصل تحديداً من قبل اللجان العمالية في بداية العام 1974.
بعد أن باتت في ذلك الوقت قوة مثيرة للجدل ولا يمكن تجاهلها، بدأت اللجان في إظهار سخط متزايد من تردد الاتحاد العمالي العام منذ أيلول/سبتمبر 1973، حيث بات واضحاً أن التهديد بالإضراب المفتوح كان يعني أن يبقى دون تطبيق. (95) وكان ردها المبكر هو محاولة ممارسة الضغط من الأسفل على الاتحاد العمالي والنقابات الرسمية لصالح الإضراب من خلال تعبئة قواعدها عشية أي موعد معلن، وكذلك عن طريق تصعيد حملتها الجماعية ضد الطرد التعسفي. (96) وصلت نقطة الذروة في 6 شباط/فبراير 1974، بعد تأجيل الاتحاد العمالي الإضراب العام المعلن عنه لعدد لا يحصى من المرات في اللحظة الأخيرة، قررت اللجان أن زمن اللحاق بقرارات “النقابات اليمينية” قد ولى. (98) كانت المشاركة في إضراب اللجان مثيرة للإعجاب. بعد أيام من الاجتماعات والتحضيرات المحمومة، وعند غروب شمس يوم 6 شباط/فبراير، شلّ 10 آلاف عامل في الضواحي الشرقية لبيروت المنطقة الصناعية في المكلس بالكامل. هنـا، بدأ التجمع الأول في سلسلة طويلة من التحركات من المفترض أن تمتد طوال 4 أيام في كل أنحاء الضواحي الشرقية، حيث أغلقت التقاطعات بالحواجز والإطارات المشتعلة. لم تكن الشعارات التي رددتها الجماهير تترك مجالاً للشك بأن الاتحاد العمالي العام نفسه كان هذه المرة الهدف الأكبر لغضبها. (99) في الوقت عينه، وفي وسط بيروت، نظمت مظاهرة كبيرة رفعت مطالب العمال مباشرة إلى المجلس النيابي وأبواب الاتحاد العمالي العام. كما نظمت إضرابات ومظاهرات حاشدة في المدن الأساسية في الجنوب والشمال. في طرابلس، اقتحم المتظاهرون مكتب الاتحاد العمالي العام. وفي الجنوب، تبنى مكتب الاتحاد الدعوة للإضراب، وقد لقي ذلك تجاوباً شاملاً. (100) شكل ذلك إنذاراً مبكراً للانفصال عن برنامج الاتحاد العمالي العام الذي ستشهده الاتحادات اليسارية في الأسابيع الآتية.
كانت “أيام المكلس”، من خلال الاستيلاء الجذري والعلني للطبقة العاملة على مساحات الطبقة العاملة، بمثابة عمل عظيم لتأكيد الاستقلالية الذاتية الكاملة للقواعد العمالية. في الوقت عينه، كان التحرك تعبيراً عن ظاهرتين إضافيتين ساهم إضراب مصنع غندور وتداعياته في توليدهما، ولعبتا في تشكيل الكتلة الاجتماعية- السياسية التي اندمجت في نهاية الأمر في الحركة الوطنية اللبنانية. (101) الأولى، كانت ترسيخ العلاقة العضوية بين الطلاب والعمال والفلاحين التي حاولت منظمة العمل تعزيزها منذ تأسيسها، والتي ترسخت في نهاية المطاف عملياً بفعل التضامن النضالي الناجم عن القمع والظروف المعيشية. الثانية، تمثلت بالتقارب التدريجي بين اليسار “القديم” و”الجديد”، (102) والذي تجسد في ساحة العمل عبر التقارب المتزايد بين الاتحادات اليسارية والمنظمات الشعبية. سُهل التقارب من خلال انفصال الاتحادات اليسارية عن الاتحاد العمالي العام بدءاً من عام آذار/مارس عام 1974، وتجسد بتنظيم مسيرة ضد التضخم، التزمت بها اللجان العمالية، والأهم من ذلك، التنظيم الأحادي [بعيداً عن مشاركة الاتحاد العمالي العام] لإضراب عام يوم 2 نيسان/أبريل. (103) وقد شكل ذلك سلاحَ ضغطٍ أساسي للحركة العمالية لتحقيق المكاسب الجماعية المهمة بما خص إقرار بعض الحقوق. عام 1974، جرى ضم الفلاحين إلى الضمان الاجتماعي، وفي ربيع عام 1975، تعدلت المادة 50 جزئياً. (104)
الخلاصة
عبر استرجاع التجربة السياسية للجان العمالية، حاولت هذه الورقة إظهار كيف أن التعبئة الطبقية للقواعد العمالية والشبابية والتي برزت عشية الحرب الأهلية، وعلى عكس الروايات التاريخية المهيمنة، لم تكن مرحلة عرضية أو ما قبل- سياسية في حسابات الأزمة اللبنانية، وليس مجرد ردة فعل مضادة للضغوط الاجتماعية والاقتصادية المتزايدة، إنما كانت نتيجة التقرب التقدمي من القواعد العمالية والتمثيل الذاتي لها والدفاع الذي كان سياسياً بالدرجة الأولى. في صنع هذه التعبئة، كانت المكونات البنيوية ذات أهمية وظيفية مثل المكونات السياسية والأيديولوجية، حيث لعبت منظمة العمل دوراً قيادياً في العملية التنظيمية. ومن وجهة نظر الأخيرة، فإن تاريخ اللجان العمالية أممي، متجذر بالتبادل التحويلي الأممي للأفكار والخبرات والمناضلين والنصوص التي طبعت “أممية الستينيات”.
انتهت التجربة السياسة للجان العمالية كقوة عمالية صناعية جماهيرية بوحشية مع اندلاع الحرب الأهلية في نيسان/أبريل 1975، والتي إلى جانب التحول الكبير في الجغرافيا البشرية والصناعية للبلاد، غيرت كذلك من الأولويات السياسية للقوى التقدمية والمناضلين نحو الكفاح المسلح. وشمل الأخير القواعد العمالية السابقة التي انتقلت في النهاية، من دخول اللجان، إلى تأييد مشروع الثورة في النهاية. ولكن الأغلبية كان مصيرها النزوح [و/أو التهجير] الذي أصاب سكان المناطق الصناعية، ولكن هذه قصة أخرى.
الهوامش:
1. An-Nidāʾ, 14/11/1972 L’Orient-Le Jour, 13-14/11/1972.
2. Traboulsi, Fawwaz, A History of Modern Lebanon (London, 2012), 174 Google Scholar.
3. Gordon, David C., Lebanon: The Fragmented Nation (London, 2015), 100 CrossRef Google Scholar El-Khazen, Farid, The Breakdown of the State in Lebanon, 1967-1976 (Cambridge, MA, 2000) Google Scholar.
4. Dubar, Claude, “Structure Confessionnelle et Classes Sociales Au Liban,” Revue Française de Sociologie 15, no. 3 (July 1974): 307 CrossRef Google Scholar, https://doi.org/10.2307/3320159 Hanf, Theodor, Co-Existence in Wartime Lebanon: Decline of a State and Rise of a Nation (London, 1993), 109 Google Scholar.
5. Couland, Jacques, Le mouvement syndical au Liban, 1919-1946: son évolution pendant le mandat français de l’occupation à l’évacuation et au Code du travail (Paris, 1970) Google Scholar Ilyās al-Buwārī, Tārīḫ al-̜Ḥarakah al-ʿUmmāliyyah wa an-Niqābiyyah fī Lubnān, voll. I-II-III (Beirut, 1986) Baroudi, Sami E., “Economic Conflict in Postwar Lebanon: State-Labor Relations between 1992 and 1997,” The Middle East Journal 52, no. 4 (October 1998): 531 Google Scholar Slaiby, Ghassan, Fī al-Ittiḥād Kuwwah? Baḥaṯ fī Muškilāt al-Ittiḥād al-ʿUmmālī al-ʿĀm fī Lubnān (Beirut, 1999) Google Scholar Khater, Lea Bou, The Labour Movement in Lebanon: Power on Hold (Manchester, 2022) CrossRef Google Scholar.
6. Khater, Léa Bou, “Public sector mobilisation despite a dormant workers’ movement,” Confluences Méditerranée 92, no. 1 (2015): 125 Google Scholar, https://doi.org/10.3917/come.092.0125 Scala, Michele, “Clientélisme et contestation : l’exemple de la mobilisation des travailleurs de Spinneys au Liban,” Confluences Mediterranee 92, no. 1 (March 26, 2015): 113–23 Google Scholar Louis Mandarino, “De la pérennisation d’un statut précaire à la lutte pour la titularisation : un regard rétrospectif sur la mobilisation des journaliers de l’Électricité du Liban (EDL).,” Civil Society Knowledge Centre 1, no. 1 (June 2016), https://doi.org/10.28943/CSKC.001.40003.
7. Guha, Ranajit, Elementary Aspects of Peasant Insurgency in Colonial India (Oxford, 1983), 3 Google Scholar.
8. Salibi, Kamal S., Cross Roads to Civil War: Lebanon, 1958-1976 (London, 1976), 75 Google Scholar.
9. Gramsci emphasizes six major elements to be investigated, according to a combinatory, dynamic, and historicized approach: a) the objective formation of subaltern groups from the developments and changes affecting economic production, their quantitative diffusion, and their origin from pre-existing social groups b) their eventual active´-or-passive adhesion to the dominant political formations, the attempts to influence the latter’s policies so as to impose their own claims, and the consequences of these attempts c) the eventual birth of new parties from the dominant groups to keep control over the subalterns d) the eventual formations proper to the subaltern groups fostering restricted and partial demands e) the eventual birth of new formations affirming the autonomy of the subaltern groups, but within the existing frameworks and f) the eventual birth of new formations affirming the integral autonomy of the subaltern groups. See: Antonio Gramsci, Quaderni dal Carcere, vol. III (Torino, 1977), 2277–94.
10. Cf., inter alia: Khuri-Makdisi, Ilham, The Eastern Mediterranean and the Making of Global Radicalism, 1860-1914 (Berkley, CA, 2013) Google Scholar Takriti, Abdel Razzaq, Monsoon Revolution (Oxford, 2016) Google Scholar Haugbolle, Sune, “The New Arab Left and 1967,” British Journal of Middle Eastern Studies 44, no. 4 (October 2, 2017): 497–512 CrossRef Google Scholar, https://doi.org/10.1080/13530194.2017.1360008 Guirguis, Laure, Arab Lefts: Histories and Legacies, 1950s-1970s (Edinburgh, 2020) CrossRef Google Scholar.
11. Guirguis, Laure, “La référence au Vietnam et l’émergence des gauches radicales au Liban, 1962-1976,” Monde(s) 14, no. 2 (November 21, 2018): 223–42 Google Scholar Bardawil, Fadi A., Revolution and Disenchantment: Arab Marxism and the Binds of Emancipation (Durham, NC, 2020) Google Scholar.
12. Gaspard, Toufic K., A Political Economy of Lebanon, 1948-2002: The-limit-s of Laissez-Faire (Leiden, 2004) CrossRef Google Scholar.
13. Gates, Carolyn, Merchant Republic of Lebanon: Rise of an Open Economy, (London, 1998) Google Scholar.
14. Cf.: Gates, Merchant Republic of Lebanon Dubar, Claude and Nasr, Salim, Les Classes sociales au Liban (Paris, 1976) Google Scholar.
15. In 1971, 90 percent of Lebanese industrial units comprised nearly 10,700 small-scale enterprises of less than twenty-five workers, employing about 40 percent of the waged workforce. Conversely, three hundred firms with twenty-five´-or-more wage-earners represented only 10 percent of industrial units but accounted for two-thirds of total production. See Nasr, Salim and Nasr, Marléne, Les Travailleurs de la Grand Industrie dans la Banlieue Est de Beyrouth (Beirut, 1976), 10 Google Scholar.
16. Dubar and Nasr, Les Classes sociales au Liban, Tab. II.9.
17. Dubar and Nasr, Les Classes sociales au Liban, 83–84.
18. The June´-or-Six-Days War, exploded on June 5, 1967, and resulted in the occupation by Israel of the whole of historical Palestine, the Syrian Golan, and the Egyptian Sinai Peninsula. As a consequence, the activities of the Suez Canal were suspended, triggering a reconfiguration of the supply chains serving the Gulf markets.
19. Nasr and Nasr, Les Travailleurs de la Grand Industrie, 19 and Annex 5, Tab. 3.
20. Salim Nasr, “Backto Civil War: The Crisis of Lebanese Capitalism,” MERIP Reports, no. 73 (1978): 14 and Tab. 7, https://doi.org/10.2307/3012262.
21. Paix, Catherine, “La Portée Spatiale des Activités Tertiairs de Commandement Économique au Liban,” Revue Tiers Monde 16, no. 61 (1975): 166–71CrossRefGoogle Scholar. Before the industrial boom of the late 1960s, Western capital already made up about 35 percent of overall industrial investments. More importantly, by the same period, Western capital had earned control of the leading banking and financial sectors. See Nasr, Backto Civil War, 3–7 and 10.
22. Nasr and Nasr, Les Travailleurs de la Grand Industrie, Tab. 38
23. Nasr, Backto Civil War.
24. In 1964, the value added/variable capital ratio accounted for 171 percent. Ten years later it had increased to 204 percent. Nasr, Backto Civil War, 10.
25. Nasr, Backto Civil War, 11. Nasr, Backto Civil War, 11.
26. Republic of Lebanon, L’enquête par sondage sur la population active au Liban, vol. II. (Beirut, 1972): Tab.14-04a/b. Henceforth indicated as PALII.
27. Nasr, Backto Civil War, 6–10.
28. According to the PAL survey, in 1970 the waged industrial workforce classified as “daily” accounted for 60% of the total, i.e., a proportion almost equivalent to the overall unskilled workforce. PALII, Tab. 14.10.
29. Nasr and Nasr, Les Travailleurs de la Grand Industrie, 153.
30. Traboulsi, A History of Modern Lebanon, 166–67.
31. Le Jour, 27/01, 17/02, and 19/03/1971.
32. L’Orient-Le Jour, 24/06/1971.
33. Cf.: Chamcham, , Fadia, , and May Metn. La Condition de l’ouvrier textile au Liban: étude socio-économique (Beirut, 1972) Google Scholar.
34. Dubar and Nasr, Les Classes sociales au Liban, 227.
35. Cf.: Niḍāl al-ʿUmmāl, no. 3, 12/06/1971 no. 7, 08/08/1971 no. 8, 15/10/1971, and no. 13/08/1972.
36. Nasr and Nasr, Les Travailleurs de la Grand Industrie, Tab. 38 Bertrand, Jean-Paul. 1978. État et Perspectives de l’Industrie au Liban (Beirut 1978), App. 11, Tab. 4.2.
37. In 1972, the licensed industrial -union-s were 33 out of about 140. Among them, thirteen were affiliated to the corporatist-conservative block, ten to the reformist one, seven to the leftist block, and three had no federal affiliation Bertrand, Jean-Paul. 1978. État et Perspectives de l’Industrie au Liban, App. 11, Tab. 4.2.
38. Rossana Tufaro, “A Historical Mapping of Lebanese Organized Labor: Tracing Trends, Actors, and Dynamics” (Civil Society Knowledge Center, 2021) doi: 10.28943/CSKC.001.90002 Khater, The Labour Movement in Lebanon.
39. The most important representatives of this new generation were Georges Saqr (Federation of Petroleum Workers), Antoine Bechara (Federation of the Autonomous Offices and Public and Private Enterprises), and John Tweini (Federation of the Autonomous Offices and Public Enterprises). The three federations earned licensing between 1964 and 1967, and came to represent the reformist bloc of the united CGTL.
40. Irene Gendzier, Notes from the Minefield: United States Intervention in Lebanon and the Middle East, 1945-58 (New York, 1996), 116–28 Khater, The Labour Movement in Lebanon.
41. The two federations were the National Federation of Workers and Employees in Lebanon (FENASOL), organic to the Lebanese Communist Party (LCP), and the Federation of the South, organic to the Movement of Arab Nationalists (MAN) and the Popular Nasserist Organization (PNO), and came to represent the leftist block of the united CGTL.
42. The CGTL was first been established in 1958 as a confederation between the United -union-s, the Federation of the North, and the League of Workers.
43. al-Buwārī, Tārīḫ al-̜Ḥarakah al-ʿUmmāliyyah wa an-Niqābiyyah, 351–68.
44. The corporatist-conservative block grouped the Federation of the United -union-s, the League of -union-s, the Federation of Independent -union-s, and the Federation of the North. The federations had earned licensing throughout the 1950s and were led by the United -union-s’ leader Gabriel Khouri, who would also be elected as president of the CGTL.
45. Ismael, Tareq Y., The Arab Left (Syracuse, NY, 1976) Google Scholar Kazziha, Walid, Revolutionary Transformation in the Arab World: Habash and His Comrades from Nationalism to Marxism (London, 1975) Google Scholar.
46. Haugbolle, The New Arab Left and 1967 Guirguis, La référence au Vietnam.
47. Another New Left organization was the -union- of Communists, born from a splinter of the LCP in 1968. The organization dissolved in 1970 and some elements adhered to the OACL.
48. Fadi A. Bardawil, “Dreams of a Dual Birth: Socialist Lebanon’s World and Ours,” Boundary 2 43, no. 3 (August 1, 2016): 313–35, https://doi.org/10.1215/01903659-3572854.
49. al-Ḥurriyah, no. 579, 05/07/1971. For an English translation of the declaration, see Ismael (1976), Appendix E.
50. Ismael (1976), Appendix E.
51. Ismael, The Arab Left, 192.
52. Ismael, The Arab Left, 191.
53. Reflecting the centrality attributed to the working-class question, and the inspirational role of the Italian experience, on February 1970, the organization published on al-Ḥurriyah the Arabic translation of the notorious “Rapporto sulla FIAT” by the Manifesto Group on the grassroots mobilizations at FIAT’s Mirafiori plant during the autumn of 1969 (no. 501, 09/02/1970), and the one at the Candy plant in Brugherio, near Milan (no. 502, 16/02/1970). Both reports were translated from the respective French versions published by Les Temps Modernes.
54. Nanni Balestrini and Primo Moroni, L’orda d’oro: 1968-1977: la grande ondata rivoluzionaria e creativa, politica ed esistenziale (Milano, 1997), 477–570.
55. Wright, Steve, Storming Heaven: Class Composition and Struggle in Italian Autonomist Marxism (London, 2002) Google Scholar.
56. Ismael, The Arab Left, 193.
57. The instrument of the militant enquiry was also borrowed from the Italian New Lefts. See Guirguis, Arab Lefts.
58. Where not otherwise indicated, all the information concerning committees’ internal organization reported in this and the following paragraph have been drawn from a series of interviews conducted by the author in Beirut with A. D., former OCAL responsible for the Committees of Beirut southern suburbs, between October 2015 and June 2017.
59. al-Bizrī, Dalāl, Sanawāt as-Saʿadah aṯṮawriyyah (Beirut, 2015), 159–65 Google Scholar.
60. al-Bizrī, Sanawāt as-Saʿadah aṯṮawriyyah, 69–80 and 167–76.
61. Petran, Tabitha, The Struggle over Lebanon (New York, 1987), 133–38 Google Scholar Traboulsi, A History of Modern Lebanon, 164–66.
62. Samih Farsoun, “Student Protests and the Coming Crisis in Lebanon,” MERIP Reports, no. 19 (August 1973): 3, https://doi.org/10.2307/3011841 Barakat, Halim Isber, Lebanon in Strife: Student Preludes to the Civil War (Austin, TX, 1977) Google Scholar.
63. Al-Ḥurriyah, no. 545. 14/12/1970 and no. 569, 31/05/1975.
64. Cf. Al-Ḥurriyah, no. 530, 31/08/1970, and no. 531, 07/09/1970.
65. Niḍāl al-ʿUmmāl, no. 4, 25/06/1970 and A. D., multiple interviews.
66. Niḍāl al-ʿUmmāl, no. 1, 21/05/1971.
67. Niḍāl al-ʿUmmāl, no. 5, 13/07/1971, and no. 7, 08/08/1971.
68. Niḍāl al-ʿUmmāl, no. 9, 1971.
69. Ahmad Deyrakī, An-Niqābah wa as-Siyāsah. Taǧrabat al-Ḥizb ašŠuyūʿī al-Lubnānī, 1924-1975 (Beirut, 2021): 285–99.
70. Deyrakī, An-Niqābah wa as-Siyāsah. Taǧrabat al-Ḥizb ašŠuyūʿī al-Lubnānī, 1924-1975 (Beirut, 2021): 285–99.
71. Deyrakī, An-Niqābah wa as-Siyāsah. Taǧrabat al-Ḥizb ašŠuyūʿī al-Lubnānī, 1924-1975 (Beirut, 2021): 285–99.
72. Johnson, Michael, Class & Client in Beirut: The Sunni Muslim Community and the Lebanese State, 1840-1985 (London, 1986), 343–45 Google Scholar.
73. Al-Ḥurriyah, no. 506, 13/03/1970.
74. Cf.: al-Ḥurriyyah, no. 525, 27/07/1970, and no. 529, 24/08/1970.
75. Niḍāl al-ʿUmmāl, no. 13, August 1972.
76. Together with a 5 percent salary rise, the demands of Gandour’s strikers included: 1) inhibition of arbitrary dismissals 2) authorization to join the chocolate workers -union- 3) interdiction of curtails on overtime working-hours 4) the regular payment of sickness leave 5) the regular payment of working days in case of labor accidents 6) re-establishment of an eight-hour working day at the Choueifat plant 7) payment of transportation fees to the Choueifat plant 8) prohibition of workers’ inspections at the factory doors in the respect of their personal dignity 9) installation of a canteen and a plant for drinkable water in the Chiah plant 10) regular payment of annual leave and holidays 11) regular payment for strike days and 12) inhibition of dismissal of striking workers. See: Niḍāl al-ʿUmmāl, no. 17, November 1972.
77. René Chamussy, “Remous et Affrontements dans l’Hiver Libanais,” Travaux et Jours 46 (Jan.–Mar. 1973): 73–94, 73–75.
78. The figure of Fatmeh al-Khawejah and her positionality vis-à-vis the strike is at the center of a still unsolved controversy. According to the family and several press sources, the young girl was an accidental passerby who had neither a -dir-ect involvement in the strike, nor with the political activities of leftist groups. This conflicts with the LCP version, which, from the very first moment, claimed her as a young militant of theirs. The controversy is reported in the docu-film A Feeling Greater Than Love by Mary Jirmanus Saba (Lebanon, 2017), 100.
79. Al-Ḥurriyah, no. 596, 20/11/1972, and al-Anbāʾ, 12/11/1972.
80. L’Orient-Le Jour, November 13, 1972.
81. L’Orient-Le Jour, November 12, 1972.
82. An-Nidāʾ, November 14, 1972.
83. Chamussy, Remous et Affrontements, 76–79.
84. L’Orient-Le Jour, 15/12/1972.
85. An-Nidāʾ, 16, 20, 21 and 22/12/1972.
86. Niḍāl al-ʿUmmāl, no. 10, March 1972, no. 13, August 1972, no. 14, October 1972, and no. 22, October 1973 as-Safīr, 24/08/1974 and 30/08/1975.
87. L’Orient-Le Jour, 25/01/1973. The victims were the planters Naim Darwish and Hassan Hayek.
88. L’Orient-Le Jour, 27/01/1973.
89. Traboulsi, A History of Modern Lebanon, 172–74.
90. Petran, The Struggle over Lebanon, 110–11 Dubar and Nasr, Les Classes sociales au Liban, 327–28 Traboulsi, A History of Modern Lebanon, 166.
91. Petran, The Struggle over Lebanon, 133–38 Traboulsi, A History of Modern Lebanon, 164–66.
92. L’Orient-Le Jour, 26, 27, and 28/01/1973.
93. L’Orient-Le Jour, 28/08/1973.
94. Niḍāl al-ʿUmmāl, no. 21, September 1973.
95. Niḍāl al-ʿUmmāl, no. 21, September 1973.
96. Niḍāl al-ʿUmmāl, no. 22, December 4, 1973, and no. 24, January 25, 1974.
97. L’Orient-Le Jour, 31/01/1974.
98. L’Orient-Le Jour, 2, 3, and 5/02/1974.
99. L’Orient-Le Jour, 07/02/1974 and interview with M. Z., former member of Beirut’s eastern suburbs WCs, Beirut, November 2015.
100. L’Orient-Le Jour, February 6 and 7, 1974.
101. Tufaro, Rossana, “Also a class (hi)story: working-class struggles and political socialization on the eve of Lebanese Civil War,” Confluences Mediterranee 112, no. 1 (April 27, 2020): 21–35 Google Scholar.
102. Al-Azmeh, Aziz, “The Progressive Forces,” ed. Owen, Roger, Essays on the Crisis in Lebanon (London 1976), 5c–72 Google Scholar Couland, Jacques, “Movimento sindacale e movimento nazionale e progressista in Libano,” Quaderni Feltrinelli 15 (1981): 71–94 Google Scholar.
103. L’Orient-Le Jour, 28/03/1974 and 02/04/1974 and Niḍāl al-ʿUmmāl, no. 26, 01/04/1974, and no. 27, 01/05/1974.
104. al-Buwārī, Tārīḫ al-̜Ḥarakah al-ʿUmmāliyyah wa an-Niqābiyyah, 305.
#روسانا_توفارو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟