|
الكينونة واللغة
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 7961 - 2024 / 4 / 28 - 12:52
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أركيولوجيا العدم العودة المحزنة لبلاد اليونان ٧٦ - الكينونة واللغة اليونانية
في دراسة لإيميل بينفينست (Émile Benveniste (1902 -1976 اللساني و السيميائي الفرنسي بعنوان "مقولات الفكر ومقولات اللغة" والتي ترجمها وقدم لها عبد الكبير الشرقاوي، يؤكد عالم اللسانيات الفرنسي " أن المقولات الذهنية وقوانين الفكر ليست، في قدر كبير منها، سوى إنعكاس لنظام المقولات اللسانية وتوزيعها. إننا نفكر عالما قد صاغته لغتنا مقدما ". أي أنه بكل بساطة، لا يوجد فكر بدون لغة وأن صورة الفكر وطبيعته تتشكل حتما بواسطة اللغة التي تبلور هذا الفكر حسب تكوينها ومفرداتها وقواعدها. ويذكر اللغة اليونانية كمثال لهذا التبادل الضروري بين الفكر واللغة، فيقول بأن مقولات أرسطو العشر ( الجوهر، الكم، الكيف، الإضافة، المكان، الزمان، الوضع، المِلْك، الفعل، الإنفعال)، ما هي إلا ترجمة فلسفية لمقولات اللغة اليونانية. ويلاحظ أن المقولات هى أنواع الصفات أو المحمولات التى نستطيع أن نصف بها فردا معينا كائنا ما كان، وهي في نهاية الأمر مفردات لغوية. فإذا سألت عن أى شيء: ما هو؟ كان حتما أن يقع الجواب تحت واحد منها. وقد لخصها القدماء في بيت من الشعر : قمر غزير الحسن ألطف مصره … لو قام يكشف غمتى لما انثنى حيث كل كلمة من البيت الشعري تشير وتدل على إحدى هذه المقولات العشر. ولكن في الحياة اليومية أو الحياة العادية، أغلب الناس يعيشون بطريقة أوتوماتيكية، حيث يوفر لهم "المجتمع" خارطة الطريق والبرنامج الدقيق الذي يجب إتباعه خطوة خطوة، من الميلاد حتى حافة القبر. إبتداء من اللغة كوسيلة أساسية وضرورية لأنسنة الفرد البشري ولإمكانية إندماجة في المجموعة البشرية التي ولد فيها، حتى قواعد السلوك والتعامل مع بقية المواطنين، حتى كيفية الأكل والشراب والتحية وممارسة الحب إلخ. نحن لا نحتاج لممارسة الفكر ولا الفلسفة ولا لمقولات أرسطو للجلوس في المقهى وشرب قهوة مع الأصدقاء والحديث عن السياسة والفن والمجتمع والحياة عموما، حيث نستعمل اللغة لممارسة الحديث العادي للتواصل بين البشر. وفي زحمة الحياة العادية، ليس لدينا الوقت الكافي، بالإضافة أنه ليس هناك ضرورة للتدقيق في الألفاظ والمفاهيم، مما يجعلنا في الكثير من الحالات نضفي حالة "الوجود existence"، بدلا من "الكينونة être" على كل الأشياء المحيطة بنا .. غير أن الفلسفة علم من العلوم الدقيقة له مصطلحاته ومفاهيمه التي يجب إستعمالها في مدلولها المناسب والصحيح إذا أردنا الإيضاح والدقة. التمييز بين الوجود والكينونة صعب في اللغة العربية، بينما في اللغة الألمانية واللغات اللاتينية أمر طبيعي. في الفلسفة الفينيمينولوجية عموما، والوجودية بالذات هذا الفصل والتمييز يعتبر عمودها الفقري، ولذلك تسمى الفلسفة الوجودية، لأنها تهتم بالوجود، أي بالإنسان وليس بالشمس أو القمر أو الحجارة. من هوسرل وهايدغر حتى سارتر وميرلوبونتي جميعهم حصروا الوجود في الإنسان الواعي، بينما الأشياء المحيطة بنا تتمتع بالكينونة، فهي مغلقة على نفسها وكائنة في ذاتها .. إنها تكون فقط. بينما الإنسان يوجد، لأن الوجود هو التطور والتغيير والإختيار .. الوجود هو الحرية والمسؤولية عن كل ما نقوم به .. الوجود مشروع إنساني محض، بدون مبرر وغير ضروري، ولكننا ملزمون بتنفيذه .. بمعنى أنه محكوم علينا بالحرية. وهذا التحليل الفينومينولوجي الذي ندين به إلى الفيلسوف جان بول سارتر، لا يمكن أن يتحقق بدون اللجوء إلى فعل الكينونة في الفرنسية وهو فعل être . حيث ينبسط هذا الفعل المفهوم ليشمل كل شيء بدون إستثناء. ودون أن يكون هو نفسه محمولا، فإن "être " هو شرط لجميع المحمولات، فكل أصناف "الكيف" و"الحال" وكل منظورات "الزمان" الممكنة وبقية المقولات الأرسطية، متعلقة بمفهوم الكينونة "être". والواقع هنا أيضا أن ما يعكسه هذا المفهوم هو خاصة لسانية نوعية، تتواجد في بعض اللغات، مثل اللغة الفارسية أو اليونانية ثم اللغات الأندو أوروبية الحديثة عموما. ففي اللغة اليونانية القديمة، يستعمل فعل الربط - استي ἔστι - الدالّ على التحقق والكينونة، وهو صيغة الشخص الثالث للمفرد لفعل الكينونة - εἶναι كما هو الحال في كلمة is في اللغة الإنجليزية أو est في الفرنسية - هناك إمكانية صياغة معنى الكائن والتكوين والكينونة من هذا الفعل الرابط، وصياغة معنى العدم من صيغته السالبة οὐκ εἶναι، وهي اللاكينونة، οὐκ ἔστι « il n’y a pas / il n’est pas لا يكون وليس هناك. إذا كان استخدام μή النافية مع المصدر الموضوعي متداولا، وبالتالي τὸ μὴ εἶναι يمكن أن تعني اللاكينونة le non être"، فإن الاختيار ممكن أيضا نظريًا مع النعت المصحوب بأداة التعريف: وبالتالي، لنقول "اللاكائن le non-étant"، يمكننا أن نستعمل τὸ μὴ ὄν (أي "ما لا يكون أو اللاكائن"، كفئة عامة، و τὸ οὐκ ὄν ، "ما لا يكون"، باعتباره غير منجز، حتى لو كان الاستخدام الفلسفي يميل إلى تفضيل الشكل الأول. كان لدى اليونانية القديمة، كما رأينا، إمكانيات عديدة للتعبير عن العدم، والتي استغلها الفلاسفة على نطاق واسع، وميزوا بين οὐ وμή ككلمات نافية أو تعديمية، من ناحية، وبين "اللا شيء rien"، "اللاكائن non-étant" و"اللاكينونة non-être" من ناحية أخرى، بالتدرج من الأكثر واقعية إلى الأكثر تجريدًا. في هذا الصدد، يعد اختيار مدرسة الذررين atomistes ملحوظًا: على الأقل في البداية كان النفي الموضوعي οὐδέν - لاأحد أو لا شيء، هو المفضل، لأنه كان الوحيد الذي كان متوافقًا حقًا مع فكرة الفراغ التي كانوا يدعون إليها؛ وبالذات ديموقريطس Démocrite، الذي اخترع كلمة δέν عن طريق سوء الفهم المتعمد: وهو مستحيل نظريًا في اللغة العادية، هذا الإبداع الجديد، المتضاد الفعال لـ οὐδέν بدلاً من μηδέν، في البداية، قادر على الإشارة إلى الامتلاء الذي له ميزة كونه لا أحد ولا شيء. بالإضافة إلى التدرج في التعبير عن العدم، هناك حالة اللعب الحر المسبق على الحالتين السلبيتينοὐ وμή حيث،οὐ تحدد فئة أقل عمومية من μή، حتى لو كانت المصطلحات المتداولة تميل لصالح τὸ μὴ ὄν اللاكينونة لأسباب بلا شك أكثر فلسفية منها لغوية.
يتبع
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجنة المفقودة
-
بين العبثية والأديان
-
كينونة اللاشيء
-
قصة النسخة - دوستوييفسكي
-
الفلسفة واللغة
-
فلسفة - الزمكان في اليابان
-
فيكتور هوغو وطفل اليونان
-
الكتابة عن الدم والأشلاء
-
فلسفة الفراغ اليابانية
-
الفكر المنغلق
-
عن فلسفة النقل
-
من بقايا أوراق السيد نون
-
السؤال الذي يقتل
-
الفلسفة بين الشرق والغرب
-
التصوير أثناء الحرب
-
الذي يكون والذي لا يكون
-
الرصاصة ورقصة الغجرية
-
أوليس وقوة الخداع
-
أليس وأوليس
-
عودة إلى ظاهرة الإرهاب
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|