|
تفتحات الذاكرة الآجلة
محمود كرم
الحوار المتمدن-العدد: 1754 - 2006 / 12 / 4 - 10:51
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أن تتركَ على حافة الأيام بين وقت وآخر ، شيئاً من تساؤلاتك الحائرة وتمضي في مدارات التفكير متدفقاً بدهشة الضوء الباهرة ، خيرٌ لكَ من أن تبقى حيناً بعد حين متسربلاً بغباء البدايات المعتمة ، هكذا يخبرني دائماً الضوء المنبجس في داخلي من تفتحات الذاكرة الآجلة ..
القادمون من أعمق نقطةٍ في وجع الأسئلة القاتلة ، يجتازون متاهات الدروب الشائكة إلى الجهة التي تنبت بين جنباتها إجابات فادحة البياض ، ومن أقصى خفقةٍ في الروح المشرعة على الجمال المنثور في تأملات الفكر ، تأتي الأشياء مترعةً بزهو الانتصارات الفاتنة ..
وحينما تكون في مواجهة الجامد من سطوة التأويلات الغابرة ، عليكَ أن ترحل بعيداً لاستنطاق الذاكرة في شرفات الزمن الآتي ، فالذي يأتي من قلب المجهول قد يأتي مفعماً بتأويلات الروح الجديدة ..
وفي الذات الإنسانية ، تختلج المسافات الطويلة بتشظيات العقل في دهاليز الأفكار المحتدمة ، وباحتراقات القلب في جمرةٍ من لذة الاحتفاء بزخم البدايات المتجددة ، عندها تبدأ الحكايات تزاحم تخوم الاكتشافات البِكر في قصةٍ لا تنتهي ..
ما الذي يملأ فراغ الأسئلة ، حينما تكون الذات عالقةً وسط دهشة المستحيل المسكون في تجاويف السديم ، أهي الإجابات الناطقة باسم الآلهة المستبدة في الذات الخانعة ، أم نفير الإجابات القادمة من فورة التصادمات ، بين نزوع العقل للتساؤلات الأكثر جرأةً وبين ارتداد النفس لتخندقات الانتماءات الضيقة المستأنسة بلذة الركون لبلاهة المعرفيات السائدة ..
أحاول أن أبقى أتنفس منشرحاً الهواء في داخلي ، لأسجّل في ذاكرة المنطق بأية صيغةٍ ما أريد ، أني لم أزل موجوداً على قيد الإنسانية ، وأخبرُ قلبي أن يبقى منتظراً انسلال اللحظة المبهرة من رحم العتمة ، ولكن مَن يسلبُ حقي في أن أبقى محسوباً على قيد التفكير ، سوى لعنة الاصطفافات الغبية المحشوة بتشوهات الثقافات التلقينية المتوارثة ، والتي تحتشد استنفاراً هلِعاً في منتصف الطريق ..
وهل تجري الحياة من حولنا راكضةً نحو أفق آخر غير الذي رسمناه في أحلامنا المؤجلة ؟! لا أدري ، فكل الآفاق تختار ربما نهايةً رسمتها لها البدايات المسبقة ، ونبقى نحن في الجزء المتبقّي من انفلات الروح في لهيب التساؤلات القاسية ، نختار أفقاً ترسمه البدايات المفعمة بزخم التخلقات الجديدة ، تستنطق في الذات جذور التكوينات الأولى ..
كيف أبدو حينما تتوالد في أعماقي استفهامات شديدة الولوغ في الفعل الحياتي ، ربما لغة أخرى تتلبسني بنكهة التعبيرات التي تغرفُ من رشقات الطبيعة ومضات الخطوة الواثبة نحو المستحيل المتكور في رحم الدهشة النابضة بدفقات الأبجديات الملونة ، فهل يقودني هذا الفضول المتمرد إلى حافة الهلاك ؟! أم يأخذني معراجاً يضيء زوايا الروح ببهاءات التأملات الصافية ، الخالية من لوثات التعليب الفاسدة وحتميات اليقينيات المطلقة ..
وقد يولد عشق الارتياد لفسحات الزوايا المضيئة في لحظة اللانهاية ، واللانهائيات قد تبدو مغرية للسير طويلاً في مسارب الضوء والانعتاق ، لذة أخرى تضاف للذة الذات في ارتعاشاتها العاكسة لتلاوين الأزمنة الفسيحة ، هذه اللذة المدهشة باعثة للقلق ، باعثة لتلمس الغوايات في أعماق النفس الإنسانية ، باعثة للمضي في نشوة التغيير الدائمة ، وقد تزداد النشوة توهجاً كلما تفاعلت مع حركة الذات في شتى الاتجاهات ، ومع كل ذلك يبقى الإنسان أكثر الكائنات تناقضاً وغموضاً في تفاعلات الحركة الدائمة ، ولا يعني ذلك أنه يتلاشى حد العدم ، ولكن لأنه إنسان تصطرع فيه تجاذبات الحركة ، فإنه يتوغل عميقاً في التناقضات وقد يتواطأ فطرياً بعض الوقت مع ملابسات الغموض ، وقد يطفح في بعض الأحيان بالوضوح الشديد ، وقد ينتهي إلى شيء محدد أو ربما إلى لا شيء ، وربما : الإنسان ، سنحتاج للسرمدية لنعرفه ، ولكن لحظة واحدة تكفي لقتله ، على حد قول العظيم فولتير ..
وهل كان ( أفلاطون ) محقاً حينما قال : الذين خلقوا الكلمات ، أولئك كانوا يؤمنون بالهذيان ..!! ربما كانوا يؤمنون بأن الكلمات لا تتخلّق إلا في رحاب الهذيانات المستفيضة ببروق التجليات الناطقة للأعماق الدفينة في الذات ، أو ربما هذا الخلْق البهي وجدَ طريقه في قول ( بورخس ) : الكلمات وحدها ، بعد فناء كل شيء ، تبقى ..!!
ولكن هل تبقى الكلمات في السرمدية ؟! أم أن الخلق المتجدد للكلمات في رحلة الإنسان الطويلة ، قادر على أن يمنحها شرعية الأبدية ؟! لا أعرفُ تحديداً ، كيف تصنع الكلمات شرفاتها المطلة على ذاكرة الأيام البعيدة ، فقط ربما علينا أن نضبط الذهن على إيقاع الكلمات بطريقة تخولنا جيداً من معرفة تمكنها الأكيد من مملكة القلب الحرة ..
للأوهام السحيقة سلطة التجذر والبقاء في تلافيف العقل ، وفي منطقة اللاوعي ، وفي تشعبات الذاكرة ، تستفحل متورمةً بنفخة القداسات الدينية والتراثية ، وتتسيّد عناوين الحياة بهالات الأسطرة والتعالي والتفاخر ، وتنطق حاكمةً أبدية باسم السماء ، فلماذا تجرأ أولئك الآتون من مدن الأفكار العاصفة على نقد تلك الأوهام وتعريتها تحت إمرة الضوء ، هل لأنهم يبحثون عن ملء فراغات الأسئلة التي مزقتهم طويلاً ، أم لأنهم يحاربون الوهم القابع في ذواتهم ، أم لأنهم بقدر ما يبددون تلك الأوهام ، بقدر ما يخلقون في أعماقهم مساحةً تتعافى من أثقالها التراثية واكراهاتها الأيديولوجية وفروضاتها الماضوية وسلطتها الأسطورية ..
ربما وحدهم أولئك الذين يولدون دائماً في مخاضات من الألم والتألم ، متورطون حد الإصرار والتعمد في ارتكاب فعل التفكير على مدار الوقت ، لأنهم يؤمنون بأن الألم باعث حقيقي للتفكير ، الذي من خلاله يتلمسون دروب الحرية في أعماقهم وبها يظفرون حتماً ولو مؤقتاً ، على ذواتهم الهاربة في متاهات الضياع والاندثار ، وقد تلخص مقولة ( سارتر ) معنى عميقاً في هذا الصدد : ليست الحرية أن نستطيع ما نريده ، بل أن نريد ما نستطيعه ..
#محمود_كرم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اليوتوبيا الدينية
-
السويد تنتصر إنسانياً
-
رمضان وفاتنتي التبغية
-
أن تكون نفسك
-
الممشى وصناعة الأفكار
-
ماذا لو حضر الحب وغابت الكراهية
-
المجتمعات وهيمنة الموروث الثقافي
-
المنتصرون بثقافة الموت
-
الإصلاح والثقافة الصنمية
-
لبنان .. حلمنا المضرّج
-
الجميلون لا يغيبون
-
كيف نفسّر للأطفال بشاعة الحرب
-
هل يعشق اللبنانيون الحرب
-
الوعد الخادع
-
إيطاليا ملَكت العالم
-
الصومال في المأزق الديني
-
الثقافة صانعة الحياة
-
الانتخابات الكويتية : المرأة خذلت المرأة
-
الإنسانيون وقيم الفرد
-
مجتمعات المعرفيات الفاعلة
المزيد.....
-
مسؤول عسكري بريطاني: جاهزون لقتال روسيا -الليلة- في هذه الحا
...
-
مسؤول إماراتي ينفي لـCNN أنباء عن إمكانية -تمويل مشروع تجريب
...
-
الدفاع الروسية تعلن نجاح اختبار صاروخ -أوريشنيك- وتدميره مصن
...
-
بوريسوف: الرحلات المأهولة إلى المريخ قد تبدأ خلال الـ50 عاما
...
-
على خطى ترامب.. فضائح تلاحق بعض المرشحين لعضوية الإدارة الأم
...
-
فوضى في برلمان بوليفيا: رفاق الحزب الواحد يشتبكون بالأيدي
-
بعد الهجوم الصاروخي على دنيبرو.. الكرملين يؤكد: واشنطن -فهمت
...
-
المجر تتحدى -الجنائية الدولية- والمحكمة تواجه عاصفة غضب أمري
...
-
سيارتو يتهم الولايات المتحدة بمحاولة تعريض إمدادات الطاقة في
...
-
خبراء مصريون يقرأون -رسائل صاروخ أوريشنيك-
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|