ابرام لويس حنا
الحوار المتمدن-العدد: 7923 - 2024 / 3 / 21 - 07:02
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
بعدما اعترض سيلوس على رمزية العهد القديم، ذكر فكراً ذات طابع أفلاطوني للروح والجسد (وهو ما شهد به أوريجانوس)، فإعتبر الروح (السرمدية) هو مِن عمل الله، في حين الجسد (الزائل) هو نتيجة لما خلقه الله أو للآلهة، فقال:
(لقد تعلمت من الطبيعة أن الله لم يخلق أي شيء زائل إطلاقاً، فكل الامور الخالدة هي من أعمال الله بينما الامور الزائلة هي من اعمالهم [أي مما خلقه الله]، فالروح هي من أعمال الله بينما يختلف طبع الجسد، فلا يوجد اختلاف بين الاجساد سواء أكان جسد خفاش أو يرقة أو ضفدع أو انسان؛ فالمادة هي واحدة، فقانون الفناء مشابه عندهم) (1).
فما كان من أوريجانوس إلا ليقول ان ما يدعيه سيلسوس ما هو إلا اعادة صياغة لما هو موجود اصلاً بكتاب الطيماوس /التـِيمئس / تِيماوس ( Timaeus/ Тіμαіoς) لأفلاطون، شاكاً في استمرار سيلسوس على الأبيقورية، أو أنه مازال أبيقوري أو انه كان يُشارك الابيقوريين الاسم فقط، متحولاً للافلاطونية، فلاحظ أوريجانوس انه لا يهاجم المسيحيين فحسب بل وكذلك يهاجم الرواقيين، فقال:
(إن الكلمات التي اقتبـسها سيلوس هي اعادة صياغة من الطيماوس (2)، ولكن بادي ذي بدء إن كلماته تلك لا تظهر أراءه الابيقورية ولهذا يمكن لأحدهم ان يقول انه قد غير اراءه الابيقورية بما هو أفضل منها أو يمكن أن يقول شخص آخر انه لا يشترك مع الأبيقوريين بشيء سوى اللقب فقط، فمثل تلك الآراء لا تتناقض معنا فحسب بل تتناقض مع الفلاسفة أتباع زينون الرواقي Zeno of Citium، ولكن عندما يتبني مثل تلك الآراء يجب عليه أولاً أن يثبتها، اي ليثبت ان اجساد الحيوانات ليست نتيجة أعمال الله وان كل تلك المهارة الواضحة في بـنيتهم ليست نتيجة لأعظم ذكاء أو اعظم فكر اي فكر الله السامي، فحين يعتبر الآلهة هي خالقة الأجساد في حين ينسب خلق الروح وحده لله السامي، فلماذا إذا لم يعرض الإله الذي قسم اعمال الخلق العظيمة بين الآلهة العلل لتوزيع الخلق بينهم؟! فلماذا بعضهم خلق أجساد البشر في حين خلق الآلهة الأخرى أجساد الوحوش كالحيوانات البرية و لماذا هناك آلهة أخرى للتنانين وآخرين للصِلال/ الحيات... وآخرى للنباتات و الأعشـاب، كل تلك الأسئلة يجب عليه أن يبحث عن علة لكل هذا التنوع؟، فلو اعطى سيلسوس نفسه أي فرصة للتـمعن لكان سيدري انه إله واحداً هو]من قام بكل هذا وهو خالق الجميع الذي صنع كل شيء لِغرض و سبب مُعين) (3).
وفي هذا الصدد نجد مقطع الطيماوس الأفلاطوني متوافق بشكل مُثير للاهتمام لما قاله سيلسوس وهو:
(وبعدما أتوا كلهم الى الوجود ...خاطبهم خالق الكون جلّ مجده بهذه الكلمات: يا أيها الآلهة و يا أطفال الآلهة يا من أنتم عملي الذي أتممته فأنا صانعكم و أبوكم، إن ابداعاتي هي ابداعات سرمدية إن شئت ذلك...و الان استمعوا الى وصيتي وتعليمي: - ما زال هناك ثلاث قبائل من المخلوقات الفانية ستولد وبدونها لن يكون الكون مكتملاً، إلا انهم إذا خلقوا بواسطتي و تلقّوا الحياة على يدي فإنهم سيكونون على قدم المساواة مع الآلهة ولتقلدوا القوة التي وهبتها في ابداعي لكم، وبالرغم مِن أنهم سيكونون فانين ولكن هناك قسم منهم جدير بأن يحمل اسم الخالد، ذلك الاسم الذي يدعى الهياً وهو المبدأ الهادي لأولئك المستعدين أن يتبعوا العدل و يتبعوكم، هذا الجزء الإلهي الذي سأزرعه بنفسي و بما أنني قد ابتدأت فإنني سأسلم العمل إليكم، وانسجوا انتم بعدئذ الفاني مع الخالد واخلقوا المخلوقات الحية واعطوهم الغذاء و سببوا لهم النمو و تلقوهم في الموت مرة ثانية.
هكذا تكلم المبدع العظيم وخصص المبدع الأرواح لعدد مساوِ لعدد النجوم وخصص كل روح لنجم، وجعلها تمتلك حباً لتمتلك به اللذة والألم، وكذلك الخوف والغضب والمشاعر التي قد تكون مَجانسة أو معاكسة لها، وإن قهرتها فإنها ستحيا على نحو صحيح وإن قُهرت بها فستقهر على نحو سيَّئ، إن مِن عاش جيداً أثناء وقته المُخصص له عليه أن يعود ويقطن في نجمه الاصلي وسيمتلك هناك وجوداً مباركاً وملائماً لكنه إن تحول الى أمراه و إن لم يكف عن فعل الشر في حالة وجوده تلك فإنه سيتحول الى شخص وحشي ما بشكل متواصل الذي يكون شبَهه في الطبيعة الشريرة التي أكتسبها.
وسمع أطفاله و كانوا مُطيعين لكلمة أبيهم وتلقوا منه المبدأ الخالد للمخلوق الفاني، فاستعاروا اجزاء من النار والتراب و الماء والهواء، استعاروها من العالم مقلدين خالقهم، خالقين من كل هذه العناصر الاربعة كل جسد منفصل وموثقين وُجهات الروح الخالدة في الجسم في حالة من التدفق والانقضاء المستمر.
ففي البدء قلدوا الشكل الكروي للكون، فخلقوا الجسم الكروي الذي يُصطلح عل تسميته الآن بالرأس كونه الجزء الاكثر ألوهية فينا وسيد كل ما فينا ولهذا اعطي الآلهة كل الاعضاء الاخرى لتكون خادمته، و لكي يستطيع ان يتحاشى الوقوع على الارض من الاماكن المرتفعة والعميقة جهزه بأربعة أطراف مبسوطة ومرنة لكي يستطيع الجسم أن يأخذها سنداً له و يجد بها دعامة و هكذا كي يمكنه أن يمر خلال الاماكن كلها حاملاً الى اعلى مكان السكن للجزء الأكثر قداسة و الوهية منا هذا هو اصل الرجلين واليدين اللتين الصقتا بكل انسان ، واعتبرت الآلهة ان الجزء الامام للإنسان هو الجزء الأكثر تبجيلا، فإنها أوجدتنا كي نتحرك الى الامام وهو الوجه الذي فيه أولجوا الاعضاء كي تقدم يد العون لكل الاشياء من أجل صالح تدبير الروح، ومن الاعضاء الحاسة اخترعت العينان بادئ ذي بدء كي تهب الضوء و أعطت الآلهة لهما مقداراً من النار لا لتحترقا بل لتعطيا نوراً لطيفاً التي صاغته الآلهة من مادة متجانسة لنور الحياة اليومية، اما النار النقية الموجودة في داخلنا والمتصلة بهما فإن الآلهة أوجدتها لتتدفق من خلال العينين في تدفق ناعم كثيف ضاغطة العين كلها خاصة الجزء المركزي منها، و اخترعت الآلهة جفون العينين لوقاية البصر لتبقي على النار الداخلية ، فالبصر في رأيي هو مصدر النفع الأعظم لبني البشر، إذ بدونه ما كان باستطاعتنا ان نشاهد النجوم ابداً ولا ان نري الشمس ولا السماء لا ولا كان بإمكاننا التكلم عن الكون بأية كلمات أو التفوه بها، والقوة كي نحقق بشأن طبيعة الكون واستمددنا الفلسفة من هذا الينبوع وليس ليس هناك خير اكبر منه اعطته الآلهة او ستعطيه للإنسان الفاني هذه النعمة هي اعظم نِعَم البصر) (4).
وبِما إن الآلهة هي من خلقت صورة الإنسان، لهذا فكيف لا يُطيق المسيحييون أو اليهود صور الآلهة؟! معتمدا على قول سفر التكوين الذي يقول فيه (نَعْمَلُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا....فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ) (تكوين 1 : 26 - 27) في وقت تكريم الأيقونات وتماثيل بعض القديسين، وهو ما نقله أوريجانوس، فقال:
(دعونا الآن نري ماذا يقول سيلسوس: انهم لا يطيقون المعابد أو المذابح ولا الصور كذلك و هم في ذلك مثل أهل سيثيا / السيئيين Scythians و القبائل البدوية الليبية و أهل سريكا Serica (5) الذين لا يعبدون إلهاً، و غيرهم من البرابرة و أمم العالم الشريرة، نفس تلك الافكار التي يؤمن بها الفرسكما اوضح هيرودوت في هذه الكلمات: "من المشين بين الفرس إقامة صور أو معابد أو مذابح ويتهمون من يقوم بتلك الاعمال بالغباء والحماقة، لأني كما اعتقد انهم لا يعتبرون الآلهة من نفس طبيعة البشر مثل الاغريق" ، بينما يعتقد هرقليطس: "إن الذين يوجهون صلاتهم لتلك الصور مثل الذين يتحدثون للحيطان، فهم لا يعرفون حقاً من هم الآلهة والابطال"، ويقول سيلسوس أن (الدرس الحكيم الذي يعلمه ايانا هرقليطس بوضوح انه من الحماقة ان يصلي الانسان لتلك الصور وهو لا يدري من هم الآلهة و الابطال حقاً، بينما هؤلاء يذهبون الى ابعد من هذا بكثير فيحتقرون كل الصور بدون استثناء، فإن كانوا يقصدون ان هذه الاشياء المصنوعة من الحجر و الاخشاب و النحاس والذهب فهي لا يمكن ان تكن آلهة، وهم حمقي إن كانوا يفتكروا مثل هذا، لأنه من الذي يقول انه يقدم صلاته لتلك و ليس لخدمة الآلهة التي تمثلها تلك الصور؟ لكن حتى ولو لم نعتبرها تمثل الذات الإلهية مثلما يتفق الفرس معهم بان الله له شكل مُختلف، فهم يناقضون أنفسهم لانهم يقولون أن الله خلق الانسان على صورته εικόνα و على شكله /مثاله είδος، بالرغم مِن اعترافهم ان هذه الصور سواء اكانت تشبه الذات الإلهية أم لا فهي مصنوعة ومخصصة لتكريم بعض الكائنات، الا انهم يصرون ان هذه الكائنات التي كرسناها ليست آلهة بل شياطين و ان عابد الله لا يـنبغي له عبادة شياطين) (6).
وهكذا وجد المؤلف الفيثاغوري المجهول (إكفانتوس الأبوكريفي Ps. Ecphantus) رواية سفر التكوين مفيدة في مقالة كتبها عن الملوكية، حيث أدعى أن:
(طبيعية الملك هي أسمي وأعلى من طبيعية باقي البشر، بالرغم إن جسده هو نفس الجسد الذي يشاركه الآخرون لكنه صُنع من صانع اعظم الذي صنعه باستخدام نفسه كنموذج أصلي) (7).
حيث إعتقد إكفانتوس الأبوكريفي أن البشر هي كائنات غريبة نُفيت الى الارض وأن جزء من ألوهيتها مُزج بالأرض، ولهذا فإن الملك يُشارك الباقين نفس المادة الارضية التي يمتلكها جميع البشر إلا إن جزئه الإلهي أعظم من الآخرين، فالله صنعه على مثاله، لذا يُمكن القول بإختصار (بأن الملك غريباً واجنبياً جاء من السماء للبشر)، ولهذا كان مُطالب من الملك أعلى درجات النقاء والطُهر لكي لا يفقد النور الإلهي الذي فيه بريقه، وبتحقيق هذا الطهر والنقاء في ذاته يصبح الملك المًخلص حتي انه يخلص الناس من خطاياهم (فإن أخطأوا فإن اقدس واعظم تطهير لهم هو ان يَجعلوا انفسهم مثل الحكام، فالملك يُحاكي / يقلد الله في الفضيلة / يُمثله في الفضيلة) فـ (الله والملك كاملين في الفضيلة)، ،و بالتبعية كان مُطالب من رعاياه بدورهم ان يقلدوا مَلكهم، وبتلك الطريقة تتطور الفضيلة في البشرية كلها (الله – الملك –الشعب)، و لهذا فالملك من خلال تأثيره على الاخرين يُصبح بالتالي مُخلصهم، فالملك وحده كما يُصر إكفانتوس هو (الوحيد القادر على وضع هذا الخير/الفضيلة في الطبيعة البشرية). فمن الواضح ان المؤلف هنا يؤكد ان جميع الناس لم يخلقوا على صورة الله الا الملك ، ولهذا قد يكون مديناً في فكره لسفر التكوين (7) وللمسيحية بشكل خاص، فالمسيح هو الملك ذات الروح النقية الذي إن أراد أحداً بأن يخلص يجب عليه الإتحاد به ليحل عليه النور الإلهي ليٌنقي ظلامه وذاته، فكما يقول بولس الرسول (كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي كَمَا أَنَا أَيْضًا بِالْمَسِيحِ) (1 كو 11: 1)، (وَأَنْتُمْ صِرْتُمْ مُتَمَثِّلِينَ بِنَا وَبِالرَّبِّ، إِذْ قَبِلْتُمُ الْكَلِمَةَ فِي ضِيق كَثِيرٍ، بِفَرَحِ الرُّوحِ الْقُدُسِ) (1 تس 1: 6)، (فَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِاللهِ كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ) (أف 5: 1)، فمن يتحد بدم المسيح وجسده ويحل عليه النور الإلهي يُصبح شخصًا جديداً، مسيحياً جديداً.
المراجع والحاشيات:
(1) أوريجانوس، ضد سيلسوس، الكتاب الرابع، الفصل 52.
(2) الطيماوس / تِيماوس (المُعتبر أو الثمين) هو محاورة لأفلاطون، وهو محاورة تبسط لنا تاريخ نشأة البشرية وفي الوقت نفسه تصف لنا الطبيعة البشرية من الناحية الطبيعية و الناحية الادبية وصفاً شبه كامل.
(3) أوريجانوس، ضد سيلسوس، الكتاب الرابع، الفصل 53.
(4) افلاطون، الطيماوس / التيمئس Timaeus، المقطع 42 – 43 ، نقلها الى العربية شوقي داود تمراز ، محاولات افلاطون الكاملة، المجلد الخامس ، بيروت 1994 ، ص 426 – 432 بتصرف.
(5) اسم سريكا Serica يعني أرض الحرير وهو اسم كان يطلقه الرومان يطلقونه على بلاد الصين.
(6) أوريجانوس، ضد سيلسوس، الكتاب السابع، الفصل 62.
(6) Glenn F. Chesnut (1986), The First Christian Histories: Eusebius, Socrates, Sozomen, Theodoret, and Evagrius, Series: Théologie historique, 46, Mercer University Press , p.139-140.
(7) المرجع السابق.
#ابرام_لويس_حنا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟