|
حول الخلاف السني-الشيعي
مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 1754 - 2006 / 12 / 4 - 10:56
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يبدو الشرق الآن تحت رحمة النار و الصراع من جديد و تتحول حالة الاختلاف الطائفي المذهبي الأثني إلى حالة صراعية دموية في العراق فيم تتمترس الطوائف خلف خلافاتها في لبنان و يتصاعد الحديث عن تغلغل شيعي إيراني في سوريا و الخليج..ما هي أبعاد هذا التصاعد الطائفي و ما هو مبرر هذه الدموية في العنف ضد الآخر, و حول أية القضايا يدور الصراع؟... سأبدأ هنا بمقاربة الخطابات الطائفية ذاتها أي فكر و تعاليم الطائفتين الأكبر إسلاميا: السنة و الشيعة الإمامية..فأزعم أنه رغم ما يبدو من حدة الخلاف على موضوعة خلافة الرسول بين الفرقتين فإنهما تستخدمان ذات الأدوات في مقاربة النص المقدس و استنباط الأحكام و أن قراءتهما لهذا المخزون المقدس تتشابه في أغلب الأصول و إن تباينت بحدة حول قضية خلافة الرسول..فكلتا الفرقتين تستندان لمرجعية ماضوية ( بمعنى أنها تعتبر لحظة خاصة في الماضي أساسا لمرجعيتها ) و فوق إنسانية تتمحور حول المقدس..و يتبدى هذا التشابه خاصة في معارضة ما أعتبره حالة قياسية في المنتوج الثقافي العربي الإسلامي ( و هي فرقة المعتزلة ) من حيث محاولتها لأنسنة و عقلنة المقدس..ففي مواجهة قدرية المعتزلة و قولهم بفعل العبد للخير و الشر كمدخل لإثبات العدل الإلهي نفت كلتا الفرقتين الفعل عن العبد و نسبته للذات الإلهية, و ينسب للإمام الرضا قوله: " مساكين القدرية أرادوا أن يصفوا الله-عز و جل بعدله, فأخرجوه من قدرته و سلطانه"..و في قضية مرتكب الكبيرة التي شكلت محور الجدل السياسي و الفكري بعد أحداث الفتنة يرى كل من أهل السنة و الشيعة الإمامية أن مرتكب الكبيرة مؤمن فاسق و قالوا أن الوعيد الإلهي بالخلود في النار يقتصر على الكفار و لا يشمل مرتكبي الكبائر من أهل القبلة و جوزوا الشفاعة في مرتكبي الذنوب..على النقيض من ذلك كان الخوارج يكفرون مرتكب الكبيرة فيم ذهب المعتزلة إلى أن مرتكب الكبيرة هو في منزلة بين المنزلتين ( بين منزلة المؤمن و الكافر ) رغم أنهم قالوا بخلوده في النار و قصروا الشفاعة على التائبين من المؤمنين و كان أثرها عندهم الزيادة في المرتبة لا العفو عن السيئة أو الإنقاذ من النار ( على عكس الإمامية و السنة )..تحمل هاتان القضيتان دلالة فائقة الأهمية في إسقاطاتها السياسية و الفكرية مع ظهور المرجئة و الجبرية ( الذين تطورت تعاليمهم إلى جانب الصفاتية لتؤسس أهل السنة و الجماعة ) في العصر الأموي كمدافعين عن سلطة بني أمية المطلقة ( الملك العضعوض ) و عما ارتكبوه من انتهاكات للحرمات ( بما في ذلك الكعبة و مدينة الرسول اللتين استباحهما الحجاج ) و قمع و قتل على الشبهة و قتل للصحابة...اعتبر أهل السنة و الجماعة جماعة المسلمين كمفهوم محوري في مقاربتهم و اعتبروا السلطان ذا دور أساسي في الحفاظ على الجماعة و تشددوا في تحريم الخروج على السلطان الجائر لما اعتبروه من شرور في هذا الخروج و من فوائد يقوم بها السلطان فاجرا كان أم عادلا..لدى الإمامية مقاربتهم الخاصة فالإمامة لديهم تتمحور حول أفضلية علي على سائر الصحابة و أحقيته بالإمامة بعد الرسول ثم ساقوا الإمامة في أولاده ثم في أولاد الحسين و الإمام عندهم وصي على الرسالة لا يقوم الدين إلا به, و استكمالا لإخراج قضية الإمامة من النطاق الإنساني و تكريسها في مركز المقدس كان انتقال الإمامة يتم بالوصية و النص من الإمام السابق إضافة إلى القول بعصمة الإمام..في الممارسة التزم الأئمة بعد مقتل الحسين في كربلاء على يد السلطة بالتقية و ابتعدوا عن العمل السياسي المباشر ضد السلطة..سنجد على الطرف المقابل رؤية مختلفة للإمام قالت به فرق شيعية أهمها الزيدية ( نسبة لزيد بن علي و التي تأثرت بالمعتزلة في الأصول ) و التي جعلت الخروج على السلطان الجائر من شروط الإمامة , و الإسماعيلية التي استفادت من مركزية فكرة الإمام و الحرية التي أعطاه إياها الفكر الشيعي في تأويل المقدس لتشرعن مشروعها الخاص للتغيير العام..مع استكمال عقيدة غيبة الإمام الاثني عشر محمد بن الحسن العسكري أصبحت المواجهة مع السلطان الجائر مؤجلة حتى رجعته فيملأ الدنيا عدلا كما ملئت ظلما و جورا..هكذا فعلى الضد من فرق المعارضة الفاعلة ضد السلطة و رغم إنكارها شرعية السلطة عملت الإمامية على إبقاء الناس في حالة كمون و أجلت الخروج على السلطة و جعلت قضية الإمامة في مركز المقدس..مما أراه هنا أن الخلاف حول قضية الإمامة بين السنة و الشيعة الإمامية خلاف ماضوي أولا, و غير راهن بمعنى غيبة الإمام المهدي المنتظر أي انعدام الحاجة للجدل في أحقيته بالإمامة..عدا عن أن كلا الفرقتين لهما ذات المواقف في أغلب الأصول ( الجبر و الإرجاء بدرجات متفاوتة ).., مما يستدعي وقفة لقراءة أسباب هذا الاحتراب الدموي الراهن أو التوتر المتصاعد بين أتباعهما.. من هنا سأنتقل إلى تفاصيل الخارطة الطائفية-المذهبية الراهنة لأزعم أنها استقرت عمليا مع دخول الشرق ظلمات عصر الجمود خلافا للعصور الأولى للحضارة العربية الإسلامية عندما كانت الخطوط الفاصلة بين الفرق متحركة مع الحراك السياسي الفكري العام النشيط..بدأت الخارطة المذهبية الطائفية بالاستقرار تدريجيا مع سيطرة الأيوبيين و من بعدهم المماليك و العثمانيين و الصفويين..فمصر أصبحت سنية بعد قيام صلاح الدين بالقضاء على الخلافة الفاطمية و بعد فترة اضطراب أصبحت سوريا سنية مع ترسخ حكم المماليك ثم أصبحت سنية حنفية في أغلبيتها مع تمدد سلطة الدولة العثمانية إليها أما إيران التي كانت سنية بأغلبيتها أصبحت شيعية إمامية بأمر السلطان إسماعيل الصفوي ( 1487-1524) و كذلك في الأقسام من العراق التي احتفظ الصفويون بنفوذهم فيها..أما ما سمي بفرق الغلاة فقد تراجعت إلى جزر منغلقة وسط المحيط السني..ترافق هذا مع إيقاف النقاش و إثبات النص خارج الجدل و إتباع بعض آراء السلف ( سواء من السنة أو الشيعة ) بأوامر من السلطات السائدة..في عام 408 هجرية أصدر القادر وثيقته التي منع فيها الجدل و النقاش و أفتى المفتون بمنع الاجتهاد و إتباع التقليد و بعدها صار المعتزلي مثلا يقتل على الشبهة أو بسبب حيازة كتاب و أطلقت يد العامة في أعمال التنكيل و القتل للمعتزلة و أوكل القادر بها السلطان السلجوقي محمود سبكتكين للقيام بهذه التصفيات..مع تراجع حالة الجدل السياسي و الفكري و جمود المؤسسة الدينية و اقتصار إنتاجها الفكري على الشرح و التعليق على إنتاج السلف و صيرورة الحالة المذهبية الطائفية السائدة إلى حالة فرض سلطوية على المجتمع الذي انحط لدرجة هائلة و فقد أية قدرة على الفعل الفكري الإبداعي و تحول إلى التقليد و التكرار, اتخذت الخارطة الطائفية المذهبية حدودها و صورتها الراهنة استنادا إلى الانقسام بين الدول القائمة.. رغم محاولات تثوير الوضع الراهن مع حدوث الصدام مع الاستعمار الأوروبي و ظهور خطاب النهضة في أواخر القرن 19 و أوائل القرن 20 و ما تبعه من استعمار للشرق ثم صعود حركة تحرر وطني تمكنت من إنجاز الاستقلال ثم صعود القومية كمعبر عن البرجوازية الصغيرة الريفية بقيت الخارطة الطائفية المذهبية ثابتة عصية على التغيير فعوامل إعادة إنتاجها أقوى من عوامل و قوى التغيير (إن خطابات التغيير التي عملت أو ادعت العمل على إضعاف تأثير الحالة الطائفية المذهبية على الجماهير لجأت إليها للحصول على قاعدة شعبية مضمونة ) لكن في المحصلة العامة فإن تأثير الحالة السلطوية الناتجة عن صعود هذه القوى كان تعزيز هذه الحالة الطائفية المذهبية العشائرية بصورتها القروسطية المتأخرة ( إضافة إلى تأثير خطاب الأنظمة التقليدية الذي رفع الرؤية المذهبية الطائفية عن الإسلام إلى مصاف الخطاب الرسمي للدولة ).. تبدو هذه الحالة الطائفية المذهبية الآن في أعلى حالاتها فهي تتحكم بالوعي الجماهيري و بالفعل الشعبي و بالحراك السياسي في المجتمع بحيث أن الحروب الطائفية أو التوترات الطائفية وصولا إلى تقسيم يعتمد الخارطة الطائفية المذهبية الراهنة تبدو المخرج الوحيد لأزمة مجتمعاتنا ( هذا ما نراه في العراق و لبنان و هو يبقى تحت الرماد بسبب كبت السلطة في سوريا و سائر الشرق..).. إن قوى التغيير ضعيفة هزيلة معزولة عن الشارع فاقدة القدرة على تحريكه أو تجييشه كالقوى الطائفية و هذا يعود إلى عوامل ذاتية تتعلق بأزمة خطابها و استعدادها لمواجهة السائد لا سيما عوامل إدامة الوضع السائد و عدم استنادها إلى قوى اجتماعية مؤثرة ذات مشروع تثويري للتغيير, و عوامل موضوعية أبرزها بنية المجتمع الطبقية الغائمة و فعل السلطة الذي يقمع و يصادر الحراك المجتمعي و الحضور القوي لمشروع خارجي عنفي المتمثل في أمريكا و إسرائيل الذي يعيد تأكيد قضية "الهوية" الطائفية المذهبية كجزء من حالة دفاع ذاتي للقوى المتضررة من مشروع الهيمنة العنفي للخارج.. إن الشرق يعود القهقرى إلى حالة صراعية أردأ من تلك التي سادت في العصور الذهبية للحضارة العربية الإسلامية فالجدل بين الفرقالطوائف يتخذ شكلا صراعيا عنفيا ذا أهداف استئصالية فيم كان هذا الجدل مفتوحا فكريا في الأساس يناظر الآخر و يسعى لدحض الحجة بالحجة و هو و إن اتخذ أشكالا عنفيا أحيانا لكنه كان وراء هذا التطور الذي طرأ على خطاب كل الأطراف في جدل مباشر حر نسبيا وصولا إلى حالة عامة من البحث عن الحقيقة و تقديرها كقيمة تتجاوز السائد أو التقليد..يتمترس الجميع الآن خلف دوغمائيات لا تقبل النقد أو المقاربة الإنسانية و يواجه الآخر فقط بالعبوات الناسفة أو فرق الموت الطائفي..إن هذا القهقرى يكشف أزمة مجتمعاتنا و يطرح على المحك إمكانية الخروج من عنق الزجاجة عبر تغيير حقيقي جذري وطني ديمقراطي يتجاوز خطوط الفصل الطائفي إلى حالة جدل سياسي فكري متحرر من أية تابوهات ماضوية أو حداثوية..جدل حر لا تفرضه إرادة متسلطة في الداخل أو آتية من الخارج..و على نجاح هذا المشروع النهضوي الوطني الديمقراطي يتوقف تقدم و تحرر الشرق بأسره
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نداء إلى القوى السياسية السورية - نداء إلى المعارضة السورية
-
مقتل السيد بيار الجميل : رفض القتل كفعل في السياسة و رفض الم
...
-
الطائفية و الشارع و اللعب بالنار
-
محنة خلق القرآن: محاولة عقلنة الخطاب الديني بالقوة
-
الخيانة , العنف و السلطة
-
لا يهم مع من تحالفوا فالمضمون واحد
-
الفصام بين خطاب الأمس و ممارسة اليوم
-
التغيير الديمقراطي في سوريا بين المعارضة و الخارج
-
الحجاب من جديد
-
أكثر من مجرد تغيير
-
قصتنا في الشرق - صعود و موت النبي
-
في ذكرى نجيب سرور
-
الشرعية بين الشعب و الخارج
-
احتمالات المواجهة بين سوريا و إسرائيل
-
الليبرالية و الطائفية-افتراقات الفكر و الممارسة
-
تعليق على البيان الموجه إلى القوى و الأحزاب الماركسية العربي
...
-
أطروحة المجتمع الدولي
-
الطائفية , المعارضة و النظام
-
ماذا عن سياسات النظام السوري الاقتصادية؟
-
حول تصريحات البابا الأخيرة
المزيد.....
-
اللواء باقري: القوة البحرية هي المحرك الأساس للوحدة بين ايرا
...
-
الإمارات تكشف هوية مرتكبي جريمة قتل الحاخام اليهودي
-
المقاومة الإسلامية تستهدف المقر الإداري لقيادة لواء غولاني
-
أبرزهم القرضاوي وغنيم ونجل مرسي.. تفاصيل قرار السيسي بشأن ال
...
-
كلمة قائد الثورة الاسلامية آية الله السيد علي خامنئي بمناسبة
...
-
قائد الثورة الاسلامية: التعبئة لا تقتصر على البعد العسكري رغ
...
-
قائد الثورة الاسلامية: ركيزتان اساسيتان للتعبئة هما الايمان
...
-
قائد الثورة الاسلامية: كل خصوصيات التعبئة تعود الى هاتين الر
...
-
قائد الثورة الاسلامية: شهدنا العون الالهي في القضايا التي تب
...
-
قائد الثورة الاسلامية: تتضائل قوة الاعداء امام قوتنا مع وجود
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|