|
إسرائيلية أمريكا
صالح دغسن
باحث في فلسفة الفن وجماليات الحداثة
الحوار المتمدن-العدد: 7918 - 2024 / 3 / 16 - 14:21
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تهدف هذه المحاولة البحثية إلى الوقوف على ما يتعرّض له التاريخ الإنساني من تزييف بفعل مركزية أو قطبية أناوية غربية محقونة بإيديولوجيا الكراهية وسردية اللّاهوت الدموي الذي لا ينتعش ولايوجد إلا بقدر مايلتهم من فرائس آدمية ضمن مشهدية تاريخية مقرفة ومقززة حد الغثيان. كيف لا وهي التي تؤسِّسُ لكينونة الرعب وثقافة التوحش التي لا تنموا إلا بحجم العنف الطافح منها في أكثر اللحظات هتكا للتاريخ وتمزيقا للجغرافيا. أو إن شئنا المسار الدموي لأنطولوجية فكرة إسرائيلية أمريكا. " كل شيء لنا ولا شيء للآخرين" نعوم تشومسكي : أشياء لن تسمع بها أبدا ص83 في تزمينة النهايات التي خطت أسطرها الحضارة الغربية ترتد الإنسانية إلى وحشية الثقافة وتسقط القيم سقوطا مدويا بشكل يكشف زيف إدعاءاتها لتتحول إلى خطب من الإحتفاليات البلهاء التي تمتهنها مراكز القرار السياسي وملاك السلطة في عالم يحث الخطى صوب ضروب من الكارثة في تحقيبة أفول العقل وانكماشه إلى عقلانية أداتية مدمرة. كيف لا والعنف بلغ مرحلة اللاّعودة بعد أن أصبح لغة التخاطب للإنسان الما بعد بعد حداثي. وهو الخطب الذي يدفعنا إلى إعادة القراءة والنظر في بعض المفاهيم التي إدعت الإنسانية في لحظة غلو كاذبة أنها تملكتها. لكن ما نعيشه من أحداث ووقائع صادمة ينفي كل مصداقية لهذه المفاهيم بعد أن انقلب الواقعي واليومي إلى سجل من الآلام المتراكمة التي لم تترك أي فسحه أو أفق للأمل في حياة إنسانية أصيلة لتصبح حتى مجرد الإشارة إليها علامة من علامات الإنفصام والذهان التي ألمت بالإنسان المعاصر. كل ذلك يستحث بعض ما تبقى لنا من إنسانية للتنبه ومعاينة بعض أعراض هذا المرض الذي يوشك أن يتمكن من كل الجسد الإنساني. لكن أي إمكانية للمعالجة والتطبيب والعالم يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة؟ إن ما نعيشه اليوم من حرب إبادة جماعية على إمتداد جغرافيا فلسطين وفي قطاع غزة تحديدا يستنهضنا إلى إمعان النظر والتفكر لمعرفة الدوافع أو البعض منها والتي يمكن أن تبدأ من أن الظلم سيظل موجودا" طالما مراكز السلطة تولد نوعا من الطبقة المفوضة بالسيطرة للدفاع عنها" وهذا القول نجد له جذور في إيديولوجيا الهيمنة الغربية. هذه الفكرة التي إنطلقت منذ القديم واستمرت إلى أيامنا هذه والتي تعتمد أساسا على مقولة مركزية العقل الغربي، وهي المقولة التي تكرس ثنائية السيد والعبد حيث يكون الأشقر الأوروبي وتحديدا الرأسمالي الليبرالي هو السيد أما العبد فهو الإختزال لكل الشعوب الفقيرة أو لنقل" شعوب الجنوب". ولا يستحق الأمر عناء كبيرا حين نقول أن هذا السيد ومن أجل إدامة سلطته كان دائما مطالبا بتعزيز هيمنته على الآخر الضعيف ومحاولة إستغلاله وإستنزاف موارده والقضاء على كل مقاومة تصدر عنه حتى وإن إستدعى الأمر الإستيلاء على حقوقه وأملاكه وما تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية على يد المستعمرين الأوروبيين الأول في القرن 17 إلا علامة صادمة على هذه الممارسات البشعة ولا إنسانية في حق الشعوب الأصلية لتلك الجغرافيا من العالم. وهذه اللحظة التاريخية في نظرنا أكثر اللحظات وقعا على إنحدار هذا العالم وسقوطه القيمي بكونها كانت الإرهاصات الأولى لتأسيس الكيان الصهيوني والتي لولاها لما كانت هذه الكارثة ستحدث تحت غطاء لاهوتي كاذب. فأي إرتباط تاريخي وأيديولوجي بين الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني؟ وما علاقة السردية اللاهوتية بهذا الاستيلاء والتوسع الجيوسياسي على خريطة العالم؟ وإذا كان الأمر كذلك فما مدى تأثير هذين الحدثين على السياسة العالمية الراهنة وما هي إسهاماتها في هيمنة ثقافة التوحش أو وحشية الثقافة؟ 1. الروابط التاريخية لإسرائيلية أمريكا: لقد أسهمت الصراعات المذهبية والدينية التي شهدتها أوروبا في القرون الوسطى في تركيز ثقافة الحرب السرية للكل ضد الكل إلا أن عصر النهضة أسهم في تحويل هذا الصراع من الداخل إلى الخارج الذي ترافق مع طغيان الرغبة والهيمنة عن طريق التوسع خارج حدود القارة العجوز وذلك لم يكن ليحدث إلا بتنبه بعض الفلاسفة والمفكرين في ذلك الوقت إلى عبثية هذه الصراعات الداخلية والتي رأوا أنه لا سبيل للخروج منها إلا بتوجيهها ضرورة إلى الخارج وهو ما ترجم فعليا في حملات التوسع الخارجي وكأنما حدث مع الهنود الحمر في أمريكا هو نفسه ما سيقع لاحقا مع العرب الفلسطينيين في الشرق الأوسط حيث أن كلاهما يتأسس على العنف المتضمن" في فكرة اسرائيل كما عرضتها الكلاسيكيات العبرانية ورسمها مؤدلجوها في القرنين الماضيين وكما بدأت تتنفس الحياة في أرض فلسطين مع الإحتلال البريطاني للقدس في ديسمبر 1917" لكن الملفت في هذه المسألة كونها تجمع بين أمرين مهمين وهما إيديولوجيا الهيمنة والعنف الذي يمتزج بالأساطير الدينية أو ما يمكن أن نسميه" اللاهوت المزيف" وتقوم هذه الفكرة على ثلاثة مبادئ رئيسية يتعين أولها كما قلنا في التوسع الخارجي أو إحتلال أرض الغير وهو بمثابة الأساس الذي تتشكل منه الفكرة ثم يليه الإنطلاق في عملية تغيير ديموغرافي على مستوى الخارطة السكانية لتلك الأرض المأهولة وهذا الشرط يتم على مراحل وبطريقتين مختلفتين حيث تعبر الطريقة الأولى على العنف المباشر عن طريق حملات إبادة وتطهير عرقي وهو نفسه ما وقعت ممارسته في أمريكا وفلسطين على حد السواء ليذهب ضحيته أكثر من 130 مليون من الهنود الحمر على يد العصابات الغربية أو الجيل الأول من المحتلين الأوروبيين لتلك الأرض وهو ما تكرر أيضا وبالطريقة نفسها مع السكان الأصليين في فلسطين والتي إنطلقت فيها حملات التطهير العرقي بدءا من 1894 ولا زالت تستمر إلى يوم الناس هذا ما يجعل أعداد الضحايا غير محدد لكن الثابت كونه وصمة عار على جبين الإنسانية. أما الطريقة الثانية فتعتمد على إجبار السكان الأصليين على بيع أراضيهم وممتلكاتهم بالإغراء المادي أو بالغصب والخداع. وهو ما وقع أيضا في كلا المثالين. في حين تعتمد المرحلة الثالثة والأخيرة على الشروع التدريجي في تغيير الهوية والمعالم والموروث الثقافي التاريخي لتلك البلاد. ولسنا في حاجة للتذكير بأن" تحت مدينة واشنطن مقبرة جماعية كانت في يوم من الأيام مدينة هندية حمراء مسالمة تدعى" نكن شتنكه Naconchatanke" والشيء نفسه تكرر أيضا مع القرى والمدن الفلسطينية التي عملت العصابات الصهيونية على طمس آثارها وبناء مدن جديدة على أنقاضها من تل الربيع إلى حيفا ويافا و مجدل شمس والحفريات التي تقام تحت بيت المقدس من أجل إقامة هيكلهم المزعوم" ان تزوير المنتصرين يغوص إلى أعماق الغثيان حين يتعمد كتابة التاريخ وفقا لسيناريو" الجريمة الكاملة" التي إرتكبها جورج واشنطن" ويواصل كتابتها نسله من المستوطنين الصهاينة. وإمعانا في الجريمة وربما مما لا يعلمه الكثير أنه في سنه 1970 وعندما كانت الآلات والعمال بصدد بناء مسبح في حديقة البيت الأبيض وأثناء الحفريات تم العثور على آثار للجثث البشرية التي تعود إلى شعب" كونوي" لكن سرعان ما وقع التعمية على هذه المأساة وإنشاء ما يسمى" حديقة الورد "Rose Garden ليحتفل على بساطها الوجود والعدم على وقع ترنيمات سادية تمعن في هتك التاريخ و تمزيق الجغرافيا كيف لا وفوق أحد المقابر الجماعية للهنود الحمر المكان الذي يفصل البيت الأبيض عن الكونغرس وقع تشييد ما يسمى" متحف الهولوكوست" في بعض من تحريف وتزوير للتاريخ لأنه كان من الأجدى تسميته" متحف الكونوي" تخليدا لذلك الشعب الهندي الأحمر الذي أبيد من أجل تأسيس الإمبراطورية, أو كما كان يحب أن يسميها القديسين والقساوسة المتطرفين في حينها" كنعان الإنجليزية"" اسرائيل الله الجديدة" وهو ما يدعون إلى الإقرار بقطع يسلم من الشك بتواطؤ مزاعم لاهوت العهد القديم مع إيديولوجيا العنف والهيمنة في التأسيس لفكرة" شعب الله المختار" فأية طبيعة لعلاقة السردية اللاهوتية بإيديولوجيا الهيمنة الغربية؟ 2. اللاهوت والإيديولوجيا : من بين التعريفات التي يقدمها " كارل مانهايم" للإيديولوجيا كونها الأفكار المتسامية على الوضع والتي لا تنجح أبدا كأمر واقع ما يجعلها تفشل في تحقيق كامل مقاصدها لكن أكثرها خطورة حسب رأيه هي العقلية الإيديولوجية وهذا النوع يقوم على الخداع الواعي أو الكذبة التي تحمل غاية وتكون هذه الكذبة موجهة في الأغلب لا إلى الذات بل تتوجه مباشرة إلى خداع الآخر. كما ترتبط الإيديولوجيا إلى حد كبير باليوتوبيا كونهما تنطلقان من فكرة متخيلة لكن هذه الأخيرة تبدأ من الذات وترتبط بإمكانية التحقق في المستقبل لكنها يمكن أن تتحول إلى مرض فصامي للهروب من المجتمع والتموقع خارج التاريخ الفعلي. وهو ما يجعلها خطرا على من تتملك به والمحيطين له وتدعيما لكلامنا نستند إلى ما قاله" بول ريكور" في توصيفه لهما" يكشف البحث في الإيديولوجيا واليوتوبيا منذ البداية خاصيتين تشترك فيهما الظاهرتان الأولى أن كلاهما غامض. لكل منهما جانب إيجابي وآخر سلبي، دور بناء وآخر مدمر، بعد تأسيسي وآخر مرضي"هذه العلاقة الجدلية هي ما يجعل التعامل معهما محفوف بالمخاطر وخاصة في بعدها المرضي الذي تلبسته الأسطورة اللاهوتية المسيحية واليهودية حين أطلق على العالم الجديد تسمية" كنعان الجديدة" اعتقادا منهم بأنهم الورثة الشرعيين لفكرة إسرائيل التي إرتبطت بالتاريخ الأمريكي منذ الموجات الإستعمارية الأولى من أجل منح إيديولوجيتهم التوسعية المتوحشة شرعية لاهوتية وبعدا روحيا يهب هذه الفكرة جوهرا قدسيا طقوسيا يسهل تبنيها من طرف الطبقات العلمانية والليبرالية التي بدأت آنذاك تأخذ لها موقعا في الحياة العامة لتأخذ في أمريكا حينها شكل الدين المدني وهو ما نعثر عليه عند عالم الأديان الأمريكي "كونراد شيري"Conrad cheryفي قوله " تاريخ القناعة الراسخة بأن الأمريكيين هم الإسرائيليون فعلا وشعب الله حقا... لهذا شاعت تسمية" أمريكا الإسرائيلية"... إن رضانا بهذه التسمية وإجماعنا عليها هو الذي يجعلها أمينة وحقيقية" ما يجعلها توصف بأنها إمبراطوريه الله التي يجب من أجلها بث كل الجهود الممكنة وأقرب هذه الحلول هي الحرب لتكون هذه الإيديولوجيا المقدسة بما تحمله من أفكار علموية و ميتافيزيقية طقوسية شريعة عنف وقتل مستمدة من أدبيات فكرة إسرائيل وما قاله حرفيا" كوتون ماذر" سنة 1689 في تحريضه للجنود المتوجهين لغزو الهند حين وصفهم بأنهم" بنو إسرائيل في مواجهة العماليق" في إستلهام واضح وصريح للأسطورة العبرانية التي تحث على إبادة العماليق والقضاء على كل أسباب الحياة في أرضهم وتدمير كل معالمهم التاريخية والثقافية حتى لا يبقى على تلك الأرض إلا شعب الله النقي" فليسحقوا كغبار تذروه الريح و ليكنّسوا مثل الوسخ في الشوارع إلى أن يبادوا فلا يبقى منهم أثر" لتدخل بذلك أدبيات القتل والتدمير في طقوس العبادة والمنظومة الأخلاقية للمحتلين الجدد الذين يقدسون العنف كشكل من أشكال التقرب إلى الله وهو ما مارسوه فعليا على الهنود الحمر خاصة في الشمال الأمريكي ويتكرر الآن في العراق واليمن وسوريا وطبعا فلسطين بوصفها قلب الرّحى في هذا الصراع الذي يخوضه شعب الله المختار, ولضمان الإستمرارية لهذه الإيديولوجيا المتوحشة وقع تطعيمها بالفكر الفلسفي عن طريق إختلاق مفاهيم فلسفية حادثة وجديدة" كحق الحربRight of War" الذي طوره الفيلسوف الأمريكي " جون أوسليفان" في القرن 19 تحت مسمى " القدر المتجلي" وعقيدة" الحرب الوقائية البيت الأبيضPreventive war" وهي العقيدة التي تستشرف في نظرهم الخطر والذي من أجله يصبح شن الحروب الإستباقية واجب مقدس وهو ما عاينه" أدولف بيريز إسكيفل" الحائز على جائزة نوبل للسلام لسنة 1980 حين خاطب" جورج بوش" إبان غزوه للعراق قائلا" تتحدث عن الله وأنت تكفر به. وتتحدث عن الحرية وأنت تدمرها. وتتحدث عن الديمقراطية والكرامة وأنت لا تتردد في التضحية بهما على مذبح مولوخ إله الدمار والدم الذي لا تعبد إلا إياه" لتكون هذه العقيدة بما تستبطنه من مفاهيم فلسفة العنف والتي تراوحت ما بين حق الحرب أو القدر المتجلي ووصولا إلى الحرب الوقائية هي المحرك الأساسي الذي يعتنقه سياسيو أمريكا الجمهوريون والديمقراطيون منذ أكثر من 400 سنة إلى يوم الناس هذا لتتشكل بذلك هذه العقيدة كإحتفالية للعنف المقدس الذي يستمد ضرورته وإطلاقية مشروعيته من" فكرة إسرائيل" و" إمبراطورية الله في الأرض"وهي بمثابة الأفكار الإيديولوجية الأصولية التي تماهت في عصرنا الحديث مع الرأسمالية المتوحشة من أجل تبرير الهيمنة على العالم بوصفها الإرادة الإلهية التي تحمل في طياتها المعنى الإسرائيلي للعالم الجديد الذي يفرض هيمنة مطلقة على جغرافية وتاريخية الوجود الإنساني ليرتسم بذلك الوجه البشع والدموي للإمبراطورية أو ما يعرف في الإصطلاح الجيوسياسي بالولايات المتحدة الأمريكية هذا الكيان الذي يضرب به بعض متحذلقة السياسة والحقوق المثل الأعلى للقانون والحقوق الإنسانية وهو في الحقيقة الوجه الفظيع والمرعب لثقافة الدم والتوحش لما يستبطنه في تكوينه من عنصرية متشبعة بإيديولوجيا صهيونية وموروث لاهوتي إقصائي حكم على الآخر الإنساني بالتطهير العرقي والمحو المادي والثقافي في عصر يدعي التقدم والحداثة. غير أننا إذا نظرنا بعين نقدية فسنبصر الكارثة التي أحالت الوجود إلى عدم وسديم مطلق توج سنه 1948 بإعلان قيام الكيان الصهيوني كدولة عنصرية على أرض فلسطين التاريخية فبعد أن خلصوا من الهنود الحمر في أمريكا ووضعوا من تبقى على قيد الحياة في منطقة معزولة ولضمان عدم تكاثرهم تم حقن نسائهم حتى يصبحن عقيمات لايُنجبنَ, بالإضافة إلى نشر الأوبئة والأمراض المعدية حتى يتكفل المرض بمن لم تطله آلة القتل والإبادة. وبالعودة إلى المأساة الفلسطينية فيكفي أن نتتبع اللحظات الأولى من فكرة تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية لنعلم أن ذلك هو بداية التأسيس الفعلي للكيان الصهيوني حيث كانت فكرة إسرائيل المفعمة بإيديولوجيا التوحش اللاهوتية هي لحظة البدء في بناء الإمبراطورية، وما إختلاف تاريخ التأسيس بينهما إلا إستراتيجيه بسط النفوذ وإحكام الهيمنة على العالم التي مهدت لها أوروبا الإستعمارية بفكر التنوير والثورة الصناعية مع القرن 17 وحتى نهاية القرن 19 ووضع اللمسات الأولى لتأسيس كيانهم المزعوم. فما هي أبرز ملامح هذا التاريخ العرضي وحشية وتمظهراتها على هذه الثقافة التي تعيش على مآسي الآخر /3 إسرائيل نموذج لوحشية الثقافة إن الفلسفة الهيجلية حين أعلنت أن تاريخ العنف والحرب والصراع هو التاريخ العرضي الذي لا يؤسس أظهرت من حيث لا تعلم أن هذا التاريخ العرضي هو التاريخ الفعلي للحضارة الإنسانية وأن فلسفة الحق لجون لوك والمنظومة القانونية والحقوقية هي مجرد مساحيق لإخفاء عورة هذه الثقافة المتوحشة أو في أحسن الحالات لعبت هذه النصوص مجرد التعويض المنافق للضحايا وهذا ما نعثر عليه في" اليوميات"" لتيودور هرتزل1860_1904" وهو مؤسس المنظمة الصهيونية التي ترأسها في المؤتمر اليهودي العالمي من سنة1897 إلى1904 والمعروف أيضا بالأب الروحي للدولة اليهودية فقد سخر حياته وأعماله من أجل هذا الحدث ومن أهم مؤلفاته في هذا السياق كتاب" الدولة اليهودية" والتي كانت حينها لم تتحدد معالمها وموقعها الجغرافي حيث يخاطب في" اليوميات" سنة 1902 وزير المستعمرات البريطاني" جوزيف شامبرلين" قائلا" المستعمرة اليهودية يمكن أن تقوم في أي بقعة من الممتلكات الإنجليزية التي لم يسكنها البيض بعد" وكان وقتها يتطلع إلى أحد مستعمرات شمال افريقيا تحديدا ليبيا والتي سافر من أجلها إلى إيطاليا بحكم إحتلالها لهذا البلد في سبيل التنازل عنها لليهود الإجابة كانت مخيبة لآماله" لكن المشكلة أن ليبيا وطن لشعب آخر" إلا أن المهم في هذه المسألة ان هذا الأخير وجد في بريطانيا حاجته إلى" قوة عظمى تحنو عليها بالعنف وتكون لها بمثابة" الدولة الأم" التي تحتل لها تلك الأرض الغريبة وتعينها على إستبدال شعبها وثقافتها وتاريخها" كما يبيح أيضا إستعمال الخداع والغدر من أجل إنجاز هذه المهمة والتخلص من السكان الأصليين وهو في هذا يظهر أهم الخصال التاريخية لليهود ويستلهم من فكره أمريكا وخيال" كوتون ماذر"" الذي وصف قتل الهنود بصيد الذئاب" أو" جورج واشنطن" القائل" بأن الهنود لا يختلفون عن الذئاب إلا بالمظهر" ولعلنا بذلك وفي معزل عن المسار التاريخي لتأسيس هذا الكيان تتحدد الميزة الأهم هذا الحدث كون الفكر الغربي على عكس ما يروج له بأنه يقوم على فلسفه التسامح وثقافه التعايش هو في الحقيقة فكر إستعماري بالأساس يقوم على ثقافه الصراع والقتل والتدمير التي تتلمسها في بعض التيارات الفلسفية والأدبيات الأوروبية التي تقتات من الإستراتيجيات الجيو قيامية" بدون أورشليم سيحرم الإله من شعبه الذي أعطاه معناه, وبدونها لن يكون للزمان نهاية ولن يستمتع" الشعب المختار" بطقوس الإبادة وأرض صارت كلها" عاي"" وهي مدينة فلسطينية ورد إسمها في توراة العهد القديم التي تشير إلى أن الإسرائيليين إقتحموها ودمروها واحرقوها بالنار وقتلوا جميع سكانها الذين يبلغ عددهم حسب الرواية 12 ألف وقام يشوع بإعدام ملكها على شجرة ( يشوع918_92) لتتحول مدينة عاي إلى أطلال مهجورة غير أن المأساة الحقيقية تكمن في استلهام المحتلين الأوروبيين أخلاق الإبادة في العصر الحديث من بعض أسفار العهد القديم وهو ما ورد على لسان المؤرخ البريطاني" بول جونسون"" يحيي في النخبة الأنجلوسكسونية ( الحاكمة) مشاعر عقيدة تيار الإختيار ويؤكد قناعتهم المتوارثة بأن أمريكا هي الجسر إلى مملكة الله وأنهم هم يد الله التي ستبني أورشليم الجديدة على أنقاض القدس" وفاتهم عن سوء نيّة أن أورشليمهم المتخيّلة ليس لها أي أثر تاريخي في أسفارهم القديمة وكل اللّغط الحاصل الآن ليس إلا أحقادا إيديولوجية و قراءات خاطئة لبعض المستشرقين لكن مايؤلم حقيقة هو أخذ بعض الأكاديميين عن هذه الأضغاث المغلوطة وليس أدل من قول صموئيل في سفر التكوين "واستولى الملك ورجاله على أورشليم اليبوسية وطرد سكانها من الأرض، وأخذ حصن صيّون_صهيون فأصبح إسمه مضارب داود…في الواقع لا يوجد مكان أو موضع أوجبل يدعى جبل صهيون في أي بقعة من العالم القديم ،سوى الجبل المعروف عند العرب باسم جبل صهيون، وهو حصن منيع بالفعل، يصل سلسلة جبال السِّر بنجران في سَرْو حِمْيَر إلى الشرق من صنعاء. واليمنيون في المأثور الشعبي يقولون حتى اليوم )كل بوسي يهودي وكل يهودي بوسي( .وذلك في إشارة إلى بيت بوس اليمنية التي كان سكانها على دين اليهودية ،وهي مكان جبلي حصين ،وصفها الهمداني وصفا دقيقا ومسهبا في كتابه صفة جزيرة العرب وتماما كما في النص التوراتي" وبذلك نفهم أن الإبادة التي تعرض لها الهنود الحمر من طرف الغزاة الأوروبيين هي بمثابة التدرب على الإبادة والتطهير العرقي الذي يمارس هذه الأيام على الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لأكبر الحملات الدموية والعنصرية في التاريخ الحديث على يد جيش العصابات الصهيونية وداعميهم في الولايات المتحدة الأمريكية والحكومات الغربية . هذه الحملة إبتدأت بالتنظير الفكري وأيديولوجيا اللاهوت الدموي التي إرتوت من الفلسفة البرجوازية ثم الليبرالية والتي رأت في إحتلال العالم الجديد أكبر الدوافع لتكديس الثروة واستغلال ثروات الشعوب الأخرى ومن بين هؤلاء الفلاسفة" آدم سميث1723_1790" وهو فيلسوف أخلاقي وعالم إقتصاد أسكتلندي يعتبر من مؤسسي علم الإقتصاد الكلاسيكي ولم يخفي إعجابه الشديد بالغزو الأوروبي للعالم الجديد في ترجمته الإقتصادية لإصطلاح التطهير العرقي" يحرض الأمة الإنجليزية المتمدنة إلى إستعمار كل بلد بور أو قليل السكان ونادى بضرورة أن يحل المستوطنون الجدد محل السكان الأصليين لأن ذلك يسرع في نماء ثروة الأمة المتمدنة وعظمتها" ولم يكن هذا الأخير الوحيد الذي يشجع على الإستيطان الأوروبي لأراضي الشعوب الأخرى فقد سبقه في ذلك فيلسوف التسامح الانجليزي" جون لوك1632_1704" الذي إدعى أن الله إختار مسيحي الغرب الأوروبي دون عن الشعوب الأخرى وأعطاهم الحق الطبيعي في غزو أراضي الشعوب الأخرى وتملكها دونا عن سواهم لأن ذلك في صميمه إمتثال لإرادة الله. وأن كل مكتشف وغاز لهذه المجاهل حسب رأيه هو مالكها الطبيعي. وهذه الإدعاءات وجدت طريقها إلى الممارسة والتطبيق الفعلي مع كبار السياسيين الغربيين الداعمين للإستيطان الصهيوني لأرض فلسطين وهو ما أعلنه" وينستون تشرشل1874_1965" رئيس وزراء بريطانيا إبان الحرب العالمية الثانية في خطاب له أمام لجنة" بيلPeel الصهيونية سنه1937" الذي عبر فيه عن مضمون الفلسفة الإنجليزية التي تدرس الآن في المعاهد والجامعات على أنها فلسفة الحق والتسامح أما حقيقتها فيختزلها هذا الخطاب الذي يقول فيه" أنني لا أعتقد أن كلبا في مذود( فلسطين) يستطيع الإدعاء بأن له حقا نهائيا في مذودة مهما طالت إقامته فيه. إنني لا أعترف له بذلك الحق. إنني لا أعترف مثلا لأن ما أصاب الهنود الحمر في أمريكا أو الشعب الأسود في أستراليا خطأ فاحش. إنني لا أعترف بأن ما أصابهم كان سوءا, لمجرد أن جنسا أقوى, جنسا أعلى, أو لنقل جنسا أكثر حكمة قد حل محلهم"ولعل ليس بعد هذا الكلام كلام لأنه لا يدع مجال للشك أن الثقافة الغربية هي عكس ما يشاع لها من كونية تنويرية تدعي تحرير الإنسان والعالم من السحر ومن الطبيعة وقواها الخارقة فهي لا تفعل في نظرنا غير ترجمة المصادرة الهيجلية لفلسفة التاريخ بأن التاريخ هو عود على بدء بكونها أعادت فعليا المجتمع الإنساني إلى عصور ما قبل التاريخ بحجم التوحش والبربرية الكامنة فيها من خلال ما تعتمده من إقصاء للآخر إستراتيجية الإستبدال التي تتبعها تجاه الشعوب والثقافات الأخرى وهو ما يمارس راهنا على أرض فلسطين وحرب الإبادة والتطهير العرقي التي يشنها الكيان الصهيوني على قطاع غزة من أجل إستبدال شعب بشعب وثقافة بثقافة بتخاذل واضح من دول الطوق كمصر والأردن بل إن ما يدفع على التقزز والغثيان هو تحالف بعض الأنظمة الإسلامية والعربية من أجل القضاء نهائيا على كل ما هو فلسطيني في تلك الأرض حتى بات من الآكد ظهور مفهوم جديد للصهيونية يمكن أن نسميه" الصهيونية الجديدة La nouvelle sionisme " ومن مكوناته الرئيسية أنظمة البترودولار الخليجية التي يتحالف فيها اللاهوت والمال من أجل الدعاية للصهيونية في أرض فلسطين والتضييق على كل أشكال المقاومة والمقاطعة لهذا المشروع وهو ما يجب التنبه له وتوعية الشعوب بضرورة مقاومته والوقوف له ومواجهته بالرفض حتى لا يقع فرضه أمرا واقعا. وبذلك فإن خيار المقاومة لثقافة التوحش أقل كلفة بكثير من القبول به واقعا فعليا. خاصة بعد اليقين بفشل كل الدباجات الإنسانوية القانونية أو بمنظومة حقوق الإنسان في إعلانها الغربي1789 أو العالمي1948 ومايظهره هاذان الإعلانان من تناقض منافق لأن الأول إرتبط بترَكُّز التوسع الغربي الخارجي في أرض الهنود الحمر والثاني بسرقة أرض الشّعب الفلسطيني ومنحها قربانا على مذبح الإنسانية للعصابات الصهيونية لتحصد الإنسانية وعيا رديئا أفرز موجات عنف مغذاةٍ بإمبريالية أنطولوجية ونزعات إستبدادية بربرية لاتوجد إلا في إقصائها للآخر المختلف لتكون مجرد تجارب ثقافية لإنسانوية عنفية وفلسفات في القوة واللّاعدالة.
مصادر البحث: 1ـ نعوم تشومسكي، أشياء لن تسمع بها أبدا، لقاءات ومقالات، ترجمة: أسعد الحسين، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، سوريا 2ـ منير العكش، تلمود العم سام الأساطير التي تأسست عليها أميركا، ط1 ،2004،ردمك:9ـ16112 89953 97 3ـ فاضل الربيعي، القدس ليست أورشليم مساهمة في تصحيح تاريخ فلسطين، رياض الرّيس للكتب والنشر، ط 1، بيروت، لبنان 2010،ردمك:7ـ469ـ21ـ9953 4ـ كارل مانهايم، الإيديولوجيا واليوتوبيا مقدمة في سوسيولوجيا المعرفة، ترجمة: د/ محمد رجا الديريني، شركة المكتبات الكويتية، ط 1980،1 5ـ بول ريكور، محاضرات في الإيديولوجيا واليوتوبيا، تحرير وتقديم: جورج ه تيلور، ترجمة: فلاح رحيم، دار الكتب الوطنية بنغازي، ليبيا2002، ردمك 076ـ29ـ9959
#صالح_دغسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السخرية: سلاح مقاوم: كاريكاتير ناجي العلي نموذجا
-
قراءة في رواية : طوفان من الحلوى... في معبد الجماجم
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|