|
عن ماذا يكتب المثقفون
مهدي النجار
الحوار المتمدن-العدد: 1752 - 2006 / 12 / 2 - 09:16
المحور:
المجتمع المدني
صحيح، عن ماذا نكتب نحن الذين نزعم الاشتغال في حقول الثقافة ونندرج بصورة عامة في السياق العربي الإسلامي،أليست هذه الأطنان من الكتابات تتزاحم في رفوف المكتبات وأسواق الكتب، هل تبقى شيء آخر نكتبه، هل الأجدر بنا أن نصمت، أو بالأحرى نضع السؤال باختصار: ما جدوى ما نكتب؟! أي جواب عن تلك الأسئلة سيفجر أسئلة أخرى، لأننا حقيقة نعيش واقعيات اجتماعية تقليدية ذابلة، خاوية، مضطربة، عاجزة عن أن تولد فينا، نحن الذين نزعم الاشتغال في الثقافة، كتابات ملتهبة تؤجج النفوس والعقول، تجعلها تتفتح وتفكر، إضافة إلى أسباب الخوف الذي يسكن فينا، الخوف من الآخر، الخوف من بعضنا البعض، الخوف حتى من ظلالنا،فهذه الأطنان من الكتابات التي ذكرناها آنفا يمكن اختزالها في سوق واحد إلى بضعة كيلو غرامات وفق حسابات العطارين فتعطي المعاني نفسها والنتائج نفسها، السؤال الذي يخاف أن يرفع رأسه فتاتيه الطعونات من كل حدب وصوب هو :هل نحن متخلفون؟ كيف نستدل على تخلفنا إذا اجبنا ب"نعم" ؟هذا لب الموضوع، وعلى هذا اللب يراهن أصحاب القدامة وأصحاب الحداثة،التقليديون يبجلون ويتبجحون ويعيشون معاصرتهم في الماضي(الماضي فحسب) ويخلعون صورة عقلانية مغشوشة على تخلفنا، والحداثيون حائرون بين ماذا نأخذ وماذا نترك ؟!. الاستدلال على تخلفنا يمكن تلمسه بيسر: ـ على المستوى الاقتصادي، نحن مستهلكون وغير منتجين، نستهلك اغلب حاجاتنا الضرورية والكمالية (إن لم يكن كلها) من صناعة الآخر ثم نقف من حداثته شتامين، مغالين، محاججين، نصنفه في خانة الشياطين، أليس هذا خروجا عن القاعدة الإسلامية التي تقول: "ولا تبخسوا الناس أشياءهم" وبالتالي لا تبخسوا الأمم والشعوب أشياءها؟!.والانكى من ذلك تعيش شعوبنا مستويات معاشية شحيحة وقاحلة (رغم أن اغلب البلدان تطفو فوق برك نفطية)، جحافل الفقر والعازة تملأ طول الأرض وعرضها: شبيبة مذلولة،مهمشة وعاطلة عن العمل، هجرات جماعية بأصعب الطرق وأرذلها، أحد نماذج هذه الشعوب أمامنا كما يصفه واحد من أعمدة السلطة التقليدية لبلاد العرب والإسلام، نائب الرئيس السابق عبد الحليم خدام: "نصف الشعب السوري يأكل من القمامة" الفضائية العربية/3 كانون أول 2005 . هذا التصريح وحده يكفي لوصف الاجتماع العربي الإسلامي بالتخلف وإدانة جميع الزعماء الذين يقول عنهم أدونيس: أنهم آباء، آباء سيئون، آلهة صغار، لا يعرفون سوى الاستبداد وإلغاء الآخر . ـ على مستوى التعليم والعلوم، فنحن نعيش في أوطأ المراحل، وهذه التي نسميها بالعلوم التراثية التي زحفت إلينا من القرون الوسطى لا شان لها، لا من بعيد ولا من قريب بعلوم العصر الحديثة، فهي لم تنتج لا الغذاء ولا الدواء ولا ابسط أنواع التكنولوجيا، وان كانت لدينا بحوث في العلوم الحديثة فمرجعيتها الأساسية من علوم الآخر الذي نسرق منه المفاهيم والمصطلحات ونُسقطها على بؤر تخلفنا المعرفية فتظهر كأنها معاصرة، ثم ننسبها إلى أنفسنا ونَركب رؤوسنا ونضحك على الذقون، لكن المشعوذ لا يستطيع أن يصدق وهو يقوم بألاعيبه فهو نفسه من وضع الأرنب تحت القبعة!!. الدليل على تخلف مستويات تعليمنا وعلومنا هو تباهي أساتذتنا بحصولهم على شهادات راقية من جامعات دول الغرب، فمن منا يستطيع أن يقف صامداً دون الانحياز إلى جامعة السوربون أو جامعة بروكسل إذا ما وضع أمام الاختيار بين تلك وبين جامعة محمد الخامس أو جامعة الرياض؟! أليس استقتال أبنائنا الطلبة من اجل الدراسات في دول أوربا هو دليل ممتاز على تدني مستوياتنا العلمية والتعليمية؟! ـ على المستوى الثقافي، ما زالت الثقافة العربية الإسلامية خارج ساحة البحث النقدي والسؤال المعرفي، فالناس (أو العوام كما يسميهم الغزالي) تتغذى مشاعرهم وعقولهم بالأفكار الخرائبية، والتقاليد البكائية المروعة، وتُشحن بالنزعات الطائفية والعصبية والاستبعادية والفحولية، تُشحنهم الثقافة التقليدية(الوعظية والخطابية والسردية) بالاستسلام والاتكالية، ليل نهار حتى "تغسلهم غسلاً" ، وترمي الأسباب المتعلقة برداءة الأوضاع وتدهورها على شماعة الآخرين، فأولاً على "الاستعمار والصهيونية" ثم اختفى الاستعمار وتصالحوا مع الصهيونية فنسبته إلى "الاستعمار الجديد" وأخيراً إلى سلوك الهياكل المتعددة القوميات.صحيح، إن أيدي هؤلاء ليست نظيفة من وزر آلامنا ومصائبنا وأهوالنا، ولكن الأنجع هو أن نفتش عن أسباب تخلفنا أولاً في داخلنا وفي تاريخنا بالذات، التاريخ المليء بمفزعات الاستبداد والإكراه وهدر الدم، أكثر من كونه تاريخ تحضر وازدهار وفردوس مفقود. إذا لم نؤسس لثقافة قلقة،تحليلية ونقدية، لا نستطيع أن نكتب عن أشياء تنتسب لعهد الحداثة، ولا نستطيع أن نرى جيداً المخالب الشرسة التي تخبأها الحداثة تحت قفازاتها الحريرية، والتي تغرزها في قلوبنا بين حين وآخر،ثم تدوس بأقدامها دون رحمة على حقوق الإنسان، كلما اقتضت مصالحها الاقتصادية والسياسية، ولكن من ذميم القول (أو سذاجته) هو الادعاء أننا نستطيع أن نتخلى عن الحداثة، فهي تقذف علينا من "خردة" منتجاتها المادية والثقافية ما لا طاقة لنا على رده، وما علينا (نحن يابسي العقول وفارغي البطون) إلا إشباع حاجاتنا، أي استهلاك بضاعة الآخر، سواء شئنا أم أبينا، فمن يستطيع أن يتخلى عن أقراص الأسبرين أو حقن الأنسولين أو حبوب ضغط الدم، ومن يستطيع أن يتنازل عن تلفازه أو حاسوبه أو هاتفه النقال أو ثلاجته، ومن يستطيع أن يمتنع عن ركوب السيارة أو الطائرة، وهل يمكن لعملاتنا الوطنية المنهارة (وهنا مربط الفرس) أن تتنافس مع عملات بلدان الحداثة، مثل "الدولار" سيد عملات العالم، الأكثر قدرة على الابتزازات والمساومات، وصنع الصفقات المشبوهة، واختراق النوايا الطيبة، وجر الناس إلى مظاهر الزيف والقسوة ؟!! وهل يمكن لمثقفي "العالم الثالث" أن يتخلوا عن أحد أهم مصادرهم المعرفية والفكرية والأدبية، مثل قراءة روايات جيمس جويس وتشارلس دكنز وفرانز كافكا، أو أشعار اليوت ورامبو واراغون، أو طروحات كيركيجارد ونيتشه وهيغل وفوكو،…الخ. إذا استطعنا أن نعيش دون ذلك كله (دون الفتوحات المعرفية والعلمية للحداثة) فهذا زعم كاذب يضاف إلى تبجحاتنا وأوهامنا الكبيرة، الأجدر على مثقفي عالم العرب و الإسلام وكتابه أن يستوعبوا تراثاتهم جيداً ويعودوا إليها عودة نقدية صارمة، ويتفحصوا تاريخهم ويغربلوه من شوائب الترهات والخرافات والتزويرات، وبالتالي الاندراج في مسارات الحداثة، الاندراج في صلب هذا الحدث الكوني اندراجاً فاعلاً وإشكاليا، وإلا تحولنا إلى بلهاء مقذوفين على قارعة الطريق، لا نصلح إلا للتأسف والعويل والفرجة، حينئذ عن ماذا نكتب؟!
#مهدي_النجار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جدليات ابن خلدون
-
لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم
-
الدستور والتمويه الثقافي
-
رسالة في التسامح
-
من اجل قراءة معرفية للتراث
-
ماذا نفعل مع ثقافة العولمة
-
مذهب للكراهية...مذهب للتسامح
-
جدلية الثقافي والسياسي
-
الجدل روح الثقافة
-
الدستور من الطائفية الى العلمنة
-
الفضاءات الطوباوية وهدر الدم
-
بغداد بين الشريعة والحكمة
-
الاسلام المتنور وثقافة العنف
-
الذكرى السنوية السابعة لرحيل البياتي
-
كيف يمكن ان نعيش سويا ومختلفين
-
البياتي شاعر الحب واللِّماذات
-
الحركات المطرودة من التاريخ
-
اسئلة المثقف الاشكالي
-
مسكويه فيلسوف الادباء
-
الاكراه والاختيار في الخطاب الاسلامي
المزيد.....
-
السفير عمرو حلمي يكتب: المحكمة الجنائية الدولية وتحديات اعتق
...
-
-بحوادث متفرقة-.. الداخلية السعودية تعلن اعتقال 7 أشخاص من 4
...
-
فنلندا تعيد استقبال اللاجئين لعام 2025 بعد اتهامات بالتمييز
...
-
عشرات آلاف اليمنيين يتظاهرون تنديدا بالعدوان على غزة ولبنان
...
-
أوامر اعتقال نتنياهو وغالانت.. تباين غربي وترحيب عربي
-
سويسرا وسلوفينيا تعلنان التزامهما بقرار المحكمة الجنائية الد
...
-
ألمانيا.. سندرس بعناية مذكرتي الجنائية الدولية حول اعتقال نت
...
-
الأمم المتحدة.. 2024 الأكثر دموية للعاملين في مجال الإغاثة
-
بيتي هولر أصغر قاضية في تاريخ المحكمة الجنائية الدولية
-
بايدن: مذكرات الاعتقال بحث نتانياهو وغالانت مشينة
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|