النساء في زمن الحرب حاملات وحاميات الرواية والقصة

حسام كناعنة وإسراء عبد الفتاح

الحوار المتمدن-العدد: 7908 - 2024 / 3 / 6 - 02:02
المحور: ملف 8 اذار / مارس يوم المراة العالمي 2024 - أوضاع المرأة في الحروب والصراعات وكيفية حمايتها، والتحديات التي تواجهها
    

ما الذي يمكن أن نرويه هنا عن النساء في فلسطين زمن الحرب؟ ونحن نعرف جيّدًا أنّ ما يحدث ليست مجرّد حرب، كغيرها من الحروب التي عرفناها أو سمعنا عنها أو درسناها في يومٍ من الأيام، إنها إبادة، تدفع النساء فيها، كالعادة، النصيب الأكبر من المعاناة ومن التضحية ومن كل شيء، وهنّ أوّل المستهدفات، يستهدفونَهُنّ بالجسد وبالأبناء وبالأزواج وبالأخوة والأخوات، يستهدفون ويدمّرون البيوت والمنازل والذكريات، ويستهدفون الملابس الداخلية ويلتقطون "السيلفي" معها لتظهر شوفنيّتهم المجرمة. يستهدفون كلّ شيء يخصّهنّ، خاصة وأنّهنّ حاملات وحاميات الرواية والقصة؛ إن أكثر شيء قد يكون مرعبًا، على الرعب الذي نعيشه، أن لا نجدهن ليروين لنا قصصهنّ، قصص الصمود والبطولة والصمود على صمودِهنّ، وقصص المعاناة والتضحيات والعطاء، قصص الصبر والاحتساب.
تشير تقارير الأمم المتّحدة إلى أن "تسعة آلاف (9000) إمرأة قتلن على أيدي القوات الإسرائيلية في غزة لغاية الآن. 63 إمرأة ستقتل يوميًا، في كل يوم تستمرّ فيه الحرب على غزة بمعدلها الحالي. 37 أُمًّا تُقتل بشكل يومي خلال الحرب في غزة تاركين خلفهن أسرًا مدمّرة وأطفالًا دون حماية"، والحرب في غزة لا تستثني أحدًا.
تُعاني النساء في بلادنا الأمرّين، فمَن نجا منهن حتّى الآن، من القتل والاعتقال والاعتداء، أُجبر على التهجير والنزوح ليواجه ظروفًا صعبة وقاسية مع شحّ في الخدمات الأساسية وفقدان للخصوصية، ويتحمّل مسئولية رعاية العائلة لوحده. النساء هنا يتذوّقْنَ طعم الكَمد، ويلتقطْنَ أنفاسهُنّ الأخيرة وهُنّ في أحضان الركام، أو قبل أن تصطادهنّ رصاصة قنّاصٍ غادر حاقد ليلقي بهنّ على قارعة الطريق وعلى شريط آخر الأخبار. يستمعْنَ إلى صرخات فلذّات أكبادهنّ ويستَغِثْنَ قطرة ماء، "ولا حياة لمن تُنادي"، ومودِعين شرف العروبة التي ناديْنَ بها في طفولتِهِنّ أنْ "بلاد العرب أوطاني". النساء هناك لا يستخدمن مساحيق التجميل والماكياج، فقد اكتفين بالحناء التي يجبلنها برمال الشاطئ المخضّبة بدماء الشهداء، والنساء هناك تستخدم مسكًا قد فاح من شهيدٍ كعطرٍ تتباهى به أمام الغرباء. يأتيها خبرُ استشهاد شخص قريب فتنادي وتكبّر، في حال لم تفقد صوتها، وتصرخ اذا ما سنحت لها الفرصة، لكي تكون تلك المرة الوحيدة التي تصدح بها صرخاتها، ثم تعود للتقاليد المفبكرة، أن اصبري. في وحدتها تعتصرُ ألمًا ويجف حلقها وجعًا وحرقة، ثم تعود لتظهر أمام شاشات الهواتف بدور المرأة الصامدة. يأتيها خبر الإخلاء فتقتلها تلك الكلمات وتقتل معها جميع ذكرياتها، والحياة كأنّها تتوقّف بكلمة "لازم ننزح"، إلى أين؟! والموت يتربّص بنا في كل مكان، ورائحته تزطم الأنوف، لكنّه لا يتكرّم بالحضور، مع أنّه حاضر معنا ولا يُفارقنا.
اُنظروا إلى عيون النساء المتعبة، وإلى أياديهن الباهتة الهزيلة، تلك الأيادي التي كانت "بتنلف حرير"، وأصبحت تدعك الغسيل بماء البحر وتفرك السّخام عن القدور، إن وُجد ترف الطهي والطبيخ. لقد تعبْنَ من شدّة التعب، واشتقن إلى غفوة وإلى أن يدخلن حمامًا كباقي النساء. كيف يمكن أن يصبح إنجاز أبسط الأمور الاعتيادية اليومية الطبيعية إلى مسألة شديدة التعقيد؟ وقد تكون في عملية إتمامها مسألة حياة أو موت، لكن لم يعد هناك فرق بينهما، فكلاهما سيِّان.
تحاول النساء في بلادنا البقاء على قيد الحياة مع سبق الإصرار والعودة، مع أنّ الموت قد يكون أرحم ممّا هُنّ فيه. ففي بلادنا يبكي الرضيع جائعاً فتتآكل أجزاء والدته نقماً وكدراً، وتتمزق أحشاؤها ألمًا وكربًا، وتتناثر كلماتها ذنبًا وعجزًا، وتقول: "مات جوعان، مات بدون ما ياكل يشهد عليّ الله"، ثم تقول مقنعة نفسها بسخاء رحمةِ الله وبحكمته: "الحمد لله ربنا اتلطف فيه .."، فارتاح من البلاء الذي نحن فيه.
في بلادنا ترنو الأم المكلومة لفقيدتها وتقول للحضور وهي ترتجف من الجزع: "خلوني بس أحضنها، ماتت بردانة". إنه الوجع ذاته وألم الفقد، التي تشعر بهما أمٌّ فقدت عروسها الحُبلى، وفقدت معها اللوعة والبهجة، وباتت عيناها غائرتين فارغتين حائرتين في الفراغ، وقد تحوّلت ضحكتها التي تعالت عندما سمعت ان ابنتها حبلى لجزعٍ ورماد، وتحوّل الفرح إلى مأتمٍ وترح. مهلاً، "عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم"، فحمداً لله أن تلك الفتاة لم تكمل حملها، ربنا رحمها، فقد أصبحنَ يلدنَ بعمليات جراحية بلا تخدير، وأصبحنَ يتمنّيْنَ الموت الذي نراه يحوم حولهنّ ولا يأتي، حتى الموت فرَّ منهن ونجا مِن وزرهن. وفي بلادنا يُمنح المولود شهادة وفاة قبل شهادة الميلاد. كيف يمكن للإنسان أن يتحمّل هذا المصاب الجلل. وكيف يمكن لهنّ أن يتحمّلن كلّ هذا، من أين يأتين بهذه القوة وبهذا الجَلَد، وهل هنّ أقوياء؟ وهل يردْن أن يكُنّ كذلك؟ هل أردْن أن يخلعن الروب الأبيض وأن يركضن بين زخّات الرصاص لأنقاذ حياة جريح! لا نعرف، لكن الذي نعرفه هو أنّه لم يتبقَّ في بلادنا حبوبٌ لمنع الحمل. إنّهم يتركوننا نتكاثر ليقتلوننا. أيُّ ظلمٍ هذا وأي خذلان! إنّ الأم في بلادنا تفقد جنينها لسوء التغذية، ولعدم توفّر الرعاية الطبية البسيطة. وتفقد ضناها لنزلة برد أو لأنّ حليبها جفّ من الرعب ومن الأذى. إنها صلية من العالم أجمع. لقد تكاتف الجميعُ على نسائنا. في الفترة الاخيرة تداول المستوطنون عبارات تحريضية تحضّ على قتل المرأة على وجه التحديد، وانتزاع رحم الأم لإنهاء البشرية والانتقام منّا. هم يعلمون أنّنا أساس المجتمع، وأنّ الأم ولّادة، تحيك الدفا قبّعات وشالات وقُبلات، ويدركون عين اليقين أنّنا مستمرّون في البقاء والإنجاب، وفي مُناطحة المخرز، لنُبقِي أنفسنا على قيد الحياة وعلى قيد الأمل، ولنترك أثرًا منا، ربّما طفلاً جائعًا باكيًا بين أحجار الركام، أو أبناءً يعمّرون البلاد، وربّما طفلة تصرخ في وجه الجلّاد وتقبض على حجر، لمواجهة الإبادة القادمة، أو لتروي عطشنا للحياة.

#حسام_كناعنة_وإسراء_عبد_الفتاح (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات