أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - راتب شعبو - غزة بوصفها مرآة عصرنا














المزيد.....

غزة بوصفها مرآة عصرنا


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 7900 - 2024 / 2 / 27 - 12:21
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تقدم حرب الإبادة الجارية في غزة اليوم عرضاً جديداً عن الحقيقة التي تسم عصرنا وهي إمكانية وجود تفاوت هائل في القوة بين الأطراف المتصارعة، نظراً إلى التفاوت الحاصل في القدرات الاقتصادية والعلمية وتسخير العلم لخدمة المجال العسكري. هذا الواقع نسف التوازن التقليدي بين المتصارعين بصورة جذرية، وجعل من الممكن أن يكون مثلاً عدد الضحايا في طرف من الصراع يعادل عشرات أو حتى مئات الأضعاف عند الطرف الآخر، وينسحب الأمر نفسه على الخسائر العمرانية والمادية.
بفعل التفاوت الكاسح الحديث في القوة بين المتصارعين، ظهرت النظريات العسكرية التي تتحدث عن خطط الحرب غير المتكافئة (asymmetric warfare). لا يجد أصحاب الحق الضعفاء سوى تنفيذ عمليات عسكرية مبعثرة هدفها الضغط على العدو القوي عبر إيلامه، الأمر الذي يتفاعل معه العدو القوي بأن يرتد، ضد مجتمع أصحاب الحق، بقوة ساحقة يذهب ضحيتها، بشكل أساسي، المدنيون والعمران المدني، ذلك أن الجماعات التي تصارعه وتؤلمه، ليست جيوشاً نظامية ولا تمتلك أبنية ومؤسسات عسكرية تقليدية تكون أهدافاً لترسانته الحربية، فتراه يقصف المشافي والمدارس ومحطات الكهرباء والأبنية السكنية، وفي أحيان غير قليلة يقصف تجمعات بشرية عارية (قوافل لنازحين، أو أماكن تجمع لهم)، في "تدمير شامل" غايته الردع بالإبادة.
والحقيقة أن الأسلحة التي تُجند لها أعلى القدرات العلمية وترصد أعلى الطاقات الاقتصادية من أجل تطويرها، والتي تشكل الفارق الحاسم بين الدول، هي أسلحة دمار شامل، أي أسلحة تحيل الكلام عن التمييز بين المدنيين والعسكريين، حتى في الصراع بين جيوش نظامية، إلى كلام فارغ. وهي الأسلحة التي تتسابق الدول لحيازتها ولو على حساب جوع وبؤس السكان. على هذا ينتقل العالم من توازن القوة، إلى توازن الرعب، الرعب من الفناء.
التكنولوجيا العسكرية الحديثة أفسحت مجالاً واسعاً أمام اللاعقلانية. إذا كانت الأفكار الجنونية يمكن أن تخطر للمرء دائماً وعلى مر العصور، فإن الإمكانيات العلمية والمادية المتاحة كانت دائماً لا تسمح بتحقيق اللاعقلانية والجنون، قبل العصر التقني الحديث. محدودية القدرات كانت تحد من جنون الحاكمين. أما اليوم فإن التحالف بين العقلانية العلمية الصارمة التي تعبر عن نفسها في أحدث منتجات التدمير العسكرية، وبين اللاعقلانية الغريزية الجنونية المتمثلة في سياسات الإبادة والتهجير القسري، هو من ميزات هذا العصر. هكذا نشهد تطوراً علمياً كبيراً ومذهلاً يجاوره، أو يوازيه، انحطاط أخلاقي كبير ومذهل أيضاً.
الفظاعات والمآسي غير المسبوقة التي ولدتها الحربان العالميتان في منتصف القرن الماضي، وكانت الخسائر متبادلة بين طرفي الصراع بسبب تقارب القدرات العسكرية، قادتا البشرية إلى الوقوف مع ضميرها، وصياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وإعلان الالتزام به، بما يجعل الالتزامات الإنسانية الأخلاقية مواكبة للتطور العلمي الذي راح يترجم نفسه في المجال العسكري على شكل أسلحة فتاكة، تتيح لرجل مثل الرئيس الثالث والثلاثين للولايات المتحدة الأمريكية، هاري ترومان، أن يقرر وينفذ حكم الإعدام بحق مئات آلاف البشر اليابانيين في لحظات. غير أن نزوع الأقوياء إلى السيطرة واحتقار "حقوق الإنسان" لم يكف عن السعي من أجل تبرير ذاته أخلاقياً أيضاً. لم تجد جامعة إنكليزية عريقة مثل جامعة أكسفورد، مثلاً، مشكلة في منح ترومان، بعد سنوات قليلة (1956) من قرار الإبادة الذي اتخذه في نهاية الحرب العالمية الثانية، شهادة دكتوراه فخرية، وذلك بشبه إجماع من قبل هيئة الإدارة (اعتراض عضو واحد). في هذا ما يعكس السعي إلى التطبيع مع القتل حين يكون على يد الأقوياء، ويعكس سعي هؤلاء إلى السيطرة على الأخلاق وليس فقط على الأرض، أو قل إلى صناعة أخلاق ومعايير مناسبة لصناعة أسلحة القتل العام والدمار الشامل.
العام الذي صدر فيه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، هو العام نفسه الذي يعتبره الفلسطينيون والعرب عام النكبة، لأنه شهد عمليات قتل وتهجير قسري واسع في فلسطين تنفيذاً لخطة وضعتها عصابات صهيونية "الخطة دالت" التي استغرق تنفيذها ستة أشهر ونتج عنها ترحيل نصف سكان فلسطين الأصليين، حسب كتاب (التطهير العرقي في فلسطين) لأحد المؤرخين الإسرائيليين الجدد (إيلان بابي) الذي يستشهد في مقدمة كتابه بقول ديفيد بن غوريون أمام اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية في 1938، "أنا أؤيد التهجير القسري، ولا أرى فيه شيئاً غير أخلاقي".
وسائل القتل والتهجير القسري تطورت كثيراً منذ ذلك التاريخ، وصولاً إلى السلاح النووي (وقد هدد الإسرائيليون صراحة باستخدامه في غزة)، دون أن يتطور في مواكبتها قوة أخلاقية كافية كي تحمي البشر من شر البشر. التهجير القسري الذي اضطلعت به عصابات بأسلحة بسيطة، باتت تتولاه دولة حديثة بجيش مجهز بالأسلحة الأكثر تطوراً، جيش حديث ولكن قادته لا يرون، على غرار بن غوريون قبل أكثر من ثمانية عقود، في التهجير القسري شيئاً غير أخلاقي. يعيد هذا الواقع إلى الذهن ما قاله عبد الوهاب المسيري في كتاب (الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ) إن "الظاهرة المشتركة بين النازيين والصهاينة هي عقلانية الإجراءات والوسائل ولا عقلانية الهدف". ويذكر المسيري في الكتاب كيف أنه لم يكن مسموحاً للجنود الألمان بإساءة معاملة اليهود في طريقهم إلى غرف الغاز، معلقاً على ذلك بقول فظيع "فعملية الإبادة يجب أن تتم بحياد علمي رهيب، يشبه الحياد الذي يلتزمه الانسان تجاه المادة الصماء في التجارب المعملية التي تتخطى حدود الخير والشر". ألا يُعامل أهل غزة اليوم كأنهم مادة صماء لا حاجة بها إلى المشافي والمواد الغذائية والصحية أو إلى السكن والنور ... الخ؟
مع ذلك، يعمل العقل المنتج لهذه اللاعقلانية التي تتجلى بشتى الصور الرهيبة في غزة اليوم، على "عقلنة" لاعقلانيته من خلال تسويقها في مغلفات عقلانية مقبولة مثل "الحق في الدفاع عن النفس" و"محاربة الإرهاب" ... الخ، في مسعى إلى التجاوز المستحيل للهوة الأخلاقية.



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن احتجاجات المزارعين في فرنسا وأوروبا
- -أبناء التهمة- الإسلامية
- ليس دفاعاً عن الإسلاميين
- النظام التسلطي المحض وسبل تفكيكه - 1
- النظام التسلطي المحض وسبل تفكيكه - 2
- في الشخصية السياسية لرياض الترك
- الفعل الجنسي بوصفه دينمو خفي لتغذية دونية المرأة
- اللغة لا تسعف غزة
- عن غزة و-الأخلاق- الحديثة
- في مفارقات المجزرة
- القتل للفلسطينيين والتضامن مع اليهود
- يدفعون إلى العنف ويدينونه
- تأملات بمناسبة -طوفان الأقصى-
- من يمتلك -الحق- في الإجرام / حياة الفلسطينيين العارية على خط ...
- اللاعودة في انتفاضة السويداء
- اليسار السوري، هامش واسع في الحياة السياسية
- قمصان زكريا، لمنذر بدر حلوم عن الموت الذي يضمر الحياة
- عن توبيخ السوريين العلويين المتجدد
- نقاش مع كتاب -سؤال المصير- لبرهان غليون
- عن مشكلة الرموز في سورية


المزيد.....




- الجيش الأوكراني يتهم روسيا بشن هجوم بصاروخ باليستي عابر للقا ...
- شاهد.. رجل يربط مئات العناكب والحشرات حول جسده لتهريبها
- استبعاد نجم منتخب فرنسا ستالوارت ألدرت من الاختبار أمام الأر ...
- لبنان يريد -دولة عربية-.. لماذا تشكّل -آلية المراقبة- عقبة أ ...
- ملك وملكة إسبانيا يعودان إلى تشيفا: من الغضب إلى الترحيب
- قصف إسرائيلي في شمال غزة يسفر عن عشرات القتلى بينهم نساء وأط ...
- رشوة بملايين الدولارات.. ماذا تكشف الاتهامات الأمريكية ضد مج ...
- -حزب الله- يعلن استهداف تجمعات للجيش الإسرائيلي
- قائد الجيش اللبناني: لا نزال منتشرين في الجنوب ولن نتركه
- استخبارات كييف وأجهزتها العسكرية تتدرب على جمع -أدلة الهجوم ...


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - راتب شعبو - غزة بوصفها مرآة عصرنا