أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حيدر جواد السهلاني - الظاهرة العبثية الإلحاد















المزيد.....



الظاهرة العبثية الإلحاد


حيدر جواد السهلاني
كاتب وباحث من العراق


الحوار المتمدن-العدد: 7897 - 2024 / 2 / 24 - 16:16
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


" أفي الله شك فاطر السموات والأرض، من سورة إبراهيم، الآية 10".
" إن اعظم قضية في زماننا ليست هي قضية الشيوعية في مقابل الفردية، ولا أوربا في مقابل أمريكا، ولا حتى الشرق في مواجهة الغرب، وإنما اعظم قضية هي إذا كان بإمكان الإنسان أن يحيا دون الله، الفيلسوف والمؤرخ الأمريكي ديورانت".
المقدمة:
يعد الالحاد من اخطر المذاهب العبثية التي اجتاحت العالم، وتكمن قوته في الجهات التي تقف خلفه وتتبنى ايديولوجيته، وبما يصاحب أطروحات مناصريه من زخم اعلامي هائل على أكثر من صعيد علمي وغير علمي، والنقطة الاساسية في هذه الظاهرة العبثية هي انكار وجود الله وهذه النقطة هي المحور الاساسي التي تبنها الملاحدة للكون والحياة والإنسان، فبالرغم من التقدم المادي الهائل الذي نعيش فيه والخيرات العظيمة التي وفرها العلم لحياة الإنسان ورفاهيته، إلا أننا نعيش في ظل مشكلات رهيبة يتولد بعضها عن بعض، ويؤثر بعضها في وجود بعض، ومن هذا المشكلات القلق النفسي والاضطراب وانتشار الجريمة، وانعدام الاخلاق والأنانية والظلم بكل معانيه وصور الانحلال والفساد، وبالرغم من كثرة هذه المشكلات وتعددها فإن اعظم هذه المشكلات وأكبرها أثراً في ظهور الفساد والاضطراب والقلق هي مشكلة الالحاد، فهذه المشكلة في الحقيقة هي أم المشكلات وسببها جميعاً.(1)
الدين هو الاصل والإيمان بوجود الله، هو أول مدارج الدين، وهو الاساس الذي صاحب الإنسانية في تاريخها الطويل، لأنه مقتضى الفطرة وثمرة الاستدلال العقلي السليم، أما الالحاد فمرض طارئ على الإنسانية بدأ كما تبدأ الأمراض كلها صغيرة محصور ثم أنتشر في أجزاء الجسد الإنساني وأنشطر وانقسم وتنوع، ولأنه طارئ ومخالف للأصل الفطري الإنساني تحتم علينا بيان كيف أن هذه الظاهرة تمثل العبث.(2) والالحاد هو انتحار متواصل للعقل البشري، وعندما يقر شخص ما يلحد وأن ينكر وجود الله فهو في هذه اللحظة بالذات قد تخلى عن إنسانيته وعن قيمة ومركزه وسموه، فالإيمان يسمو بالإنسان ومركزه، ومن العسير للغاية أن يحدد الباحثون تاريخاً للإلحاد لعدة اسباب منها أن معنى الالحاد لا يتسم بالوضوح الكافي، فضلاً عن أن معناه في الماضي يختلف معناه في الوقت الحاضر، ومع ذلك أن ظاهرة الالحاد موجود قديماً لكن لم تكن في يوماً ما ظاهرة خطيرة، لذلك يقول المؤرخ بلوتارخ:" من الممكن أن نجد مدناً بلا اسوار أو ملوك أو ثروة أو آداب أو مسارح، ولكن لم يرى الإنسان قط مدينة بلا معبد". ويقول السيد كمال الحيدري:" أن الالحاد ظاهرة لازمت الفكر البشري منذ نشؤه، ولكنها في بعض الاحيان تضيق وفي بعض الاحيان تتسع، وفي بعض الاحيان تعلن وفي بعض الاحيان تكون مخفية". ويعتقد عبدالرحمن بدوي أن ظاهرة الالحاد من أخطر الظواهر في تطوير الحياة الروحية، وهي نشأت في كل حضارة وتختلف وفقاً لروح الحضارة التي انبثقت منها، ذلك لأن الالحاد نتيجة أزمة لحالة النفس التي استنفذت كل امكانياتها الدينية، والالحاد الغربي يتجه مباشرة إلى الله، أما الالحاد العربي اتجه إلى فكرة النبوة.
تعريف الإلحاد:
الإلحاد في اللغة: هو الميل عن القصد، والعدول عن الشيء، ومصدره لحد، فيراد به كل من مال عن القصد والحق والإيمان، وسمي اللحد بهذا لأنه مائل في أحد جانبي القبر، والإلحاد بهذا المعنى هو (الميل عن الحق إلى الباطل والضلال)، وبذلك الإلحاد كلمة عربية فصيحة يراد بها الميل عن الشيء, والابتعاد عنه, ويتضح مما تقدم أن مصطلح الإلحاد في اللغة, هو مصطلح عام يتضمن الميل, والعدول عن الاستقامة, وعن الدين, فهو يستعمل في كل معوج غير مستقيم, فأصل الإلحاد في كلام العرب: هو العدول عن القصد، والميل والجور, والانحراف.
أن كلمة الالحاد في اللغات الغربية هي ترجمة لكلمة اغريقية وهي ( atheos) وكانت هذه الكلمة مستعملة من قبل اليونانيون القدماء بمعنى ضيق وهو عدم الإيمان بإله، وفي القرن الخامس قبل الميلاد تم اضافة معنى آخر لكلمة الالحاد هو انكار فكرة الإله الأعظم الخالق.(3) ومن تعريفات الالحاد والملحد وهي:
الالحاد، هو الميل والعدول عن الطريق القويم، ويتمثل الالحاد كل أنواع الكفر والشرك بالله، والميل والوحدة عن أوامر واحكامه و نواهيه سبحانه، وكل ملحد هو مائل عن الحق إلى الباطل.
الإلحاد، بمعناه الواسع هو عدم الاعتقاد أو الإيمان بوجود إله.
الملحد، هو من لا يعترف بوجود الله وينكر وجوده أو حتى وجود قوى فعالة خارج مجال المادة المحدودة التي يراها، أو وجود قوة أعلى من الطبيعة البشرية.
الملحد، هو الشخص الذي يحصل على كل التعاليم التي يمكن للدين أن يمده بها عن وجود الله، ثم يدعي أن الله لا وجود له، فالملحد يرى كل شيء في الطبيعة إلا ذلك الذي لو لا وجوده لما كانت هذه الطبيعة أو لما كان لها أي وجود.(4)
هناك مصطلحات تتردد في مجال الالحاد ومنها:
يقع التباس بين مصطلح الإلحاد ومصطلحات أخرى، ويرجع الالتباس إلى تداخل هذه التيارات مع بعضها، وعدم وجود حدود واضحة تميز بينها.
1_ الملحد( Atheist)، هو المنكر للدين ولوجود الله.
2_ اللاديني، هو من لا يؤمن بدين وليس بالضرورة أن يكون منكر لله، وعلى ذلك اللاديني مصطلح يعني عدم الإيمان بأي دين ورفض جميع الأديان لكونها صنع ونتاج فكري بشري، و اللاديني هي عنوان عريض يندرج تحته الكثير من التوجهات والقناعات الفكرية والفلسفية والعلمية المرتبطة بالأسئلة الجوهرية عن خلق الكون ومغزاه وعن السياسة والأخلاق، ولكن تعريف اللاديني بشكل مبسط الاعتقاد أن أي دين من صنع الإنسان وليس من عند إله.
3_ ضد الدين( Antitheist) هو الملحد الذي يتخذ موقفاً عدائياً من الله والدين والمتدين.
4_ الربوبية ( Diest) هو الذي يؤمن بأن الرب قد خلق الكون، ولكنه ينكر أن يكون قد تواصل مع البشر عن طريق الديانات، وهذا المذهب ظهر في عصر التنوير، وفي الحقيقة أن هذه الفكرة كانت منتشرة أبان ذلك الوقت وخاصة بعد اختراع الساعة الالكترونية، فشبه البعض الله هو المحرك الأول للساعة، ثم بدأت فيما بعد تعمل لوحدها بدون تدخل الله.
5_اللااكتراثية: هي تيار يقلل من أهمية الوصول إلى حقيقة وجود الإله من عدمه ويختلف عن باقي الاتجاهات اللادينية كالإلحاد واللاأدرية والربوبية في كونه لا يحاول البحث في مسألة الإله الخالق، ولا حتى النقاش فيها.
6_ اللاأدري( Agnostic) هو الذي يؤمن أن قضايا الألوهية والغيب لا يمكن إثباتها وإقامة الحجة عليها، باعتبارها فوق قدرة العقل على الأدراك.
7_ المتشكك( Skeptic) هو الذي يرى أن براهين الألوهية لا تكفي لإقناعه، وفي نفس الوقت لا يمكنه تجاهلها.
8_ العلماني( (Secularist وهي دعوة إلى اقامة الحياة على العلم المادي والعقل ومراعاة المصلحة بعيداً عن الدين، ومن ثم فهو اصطلاح سياسي لا علاقة له بعقيدة الفرد الدينية، ولا شك أن كثير من العلمانيين لا دينيين خصوصاً في بلاد الغرب.(5)
انواع الالحاد:
لا يمكن الحديث عن نوع واحد من الالحاد، وذلك لأنه ظاهرة مركبة معقدة، وتتداخل أنواعه فيما بينها، لاشتراكها في دوافع وبواعث الظهور، ومن أنواعه:
1_ الالحاد الفلسفي، وقد ولد في سياق الصراع الممتد على طول التاريخ، حول الله وقد طرحت في ظله كل الاسئلة الجوهرية التي شغلت تاريخ الفلسفة، وعبرت عن انشغال حقيقي بالوجود الإنساني، من قبيل اصل الخلق وجذور الشر وجدوى الخير، ومصير الإنسان ومغزى الحياة ومعنى الموت.
2_ الالحاد العلمي، وهذا الالحاد يعمد على نظريات علمية سواء كانت في مجال العلوم الإنسانية كنظرية التحليل النفسي لفرويد ونظريات التدين عند رواد علم الاجتماع أو في مجال العلوم ، كالدارونية في علوم الاحياء أو كنظرية الاكوان المتعددة في علوم الفيزياء.
3_ الالحاد الشهواني، وهذا ينشأ من مخالفة للدين السائد، بسبب غلبة الشهوة والعجز عن الالتزام بقيود الدين الاخلاقية، فإن العاصي يرى في فعله مناقضة لاعتقاده، ولأنه لا يستطيع التخلي عن الفعل، لأن هوى النفس وشهوة الجسد يمنعانه من ذلك، فإنه يلجأ إلى التخلي عن الاعتقاد، بتبني الشك ثم الالحاد.
4_ الإلحاد القوي : الاعتقاد بعدم وجود الله، و في هذا النوع الموقف محسوم من وجود الله نفياً وإنكاراً، وهم الذين يسوقون الأدلة على إلحادهم، ويروجون لفكرهم، ويهاجمون الدين والمتدينين ويسبونهم.
5_ الإلحاد الضعيف :وهو عدم الاعتقاد بوجود الله تعالى، وفي هذا النوع يقف الملحد متردد غير قادر على حسم موقفه من وجود الله نفياً أو إثباتاً فأصحابه لم يجدوا أدلة كافية تقنعهم بوجود الإله، لكنهم لا ينشرون أفكارهم، ولا يعيرون الأمر اهتماماً كافياً.
6_ الإلحاد الجزئي: وهو الاعتقاد بوجود الله مع إنكار صفة أو أكثر من صفاته، حيث يعتقد الشخص بوجود الله لكنه ينكر صفة من صفاته كالعدل مثلاً أو القدرة.
7_الإلحاد اللامبالي: هو إلحاد لا يهتم بوجود إله من عدمه، ولا يهتم بوجود جنة ولا نار.
8_ الإلحاد الأدبي: يتبنى هذا الاتجاه من الإلحاد بعض (الأدباء) ليتخلصوا من الالتزام بالقيم الأخلاقية في منتجاتهم الأدبية، فيصبحون متحررين يتحدثون في نتاجهم الأدبي دون قيد أو ضابط يمنعهم ، كسارتر رائد الفلسفة الوجودية والذي يرى أن على الإنسان أن يحقق حريته بالانعتاق من كل شيء، وأولهم الخالق سبحانه، كما في مسرحيته (الذباب) على لسان أحد أبطاله (أورست) مخاطباً الإله: (إنما أنا حريتي، لم تكد تخلقني حتى خرجت من نطاق سلطانك).
9_الإلحاد الشيوعي: الشيوعية مذهب فكري يقوم على الإلحاد وإنكار الخالق، ويعد المادة أساس كل شيء، وهو يحارب الدين للقضاء عليه ولو بالقوة.(6)
اصناف الملحدين:
أن الملحدين لا يندرجون تحت عنوان واحد مشترك، وأن طريقة تفكير الملحدين هي واحدة وتتمحور حول عدم وجود الله واعتبار الديانات اساطير وخرافات، إلا أن المتتبع لأحوال الملحدين يرى اختلافاً واضحاً في نمط تفكير الملحدين ودوافع عدم إيمانهم، ويمكن تقسيم الملحدين إلى خمسة اصناف وهم:
1_ الملحدون المثقفون، وهم يستندون على المعلومات والدلائل التي يجمعونها حول الديانات ويقتنعون بها لتكون اساساً لجدالهم ومناظراتهم.
2_ الملحدون النشطاء، وهم اشخاص ينشطون بالدعوة إلى الالحاد ويؤكدون أن العالم سيكون مكاناً أفضل إذا كان العالم كله ملحد.
3_ الملحدون الطلاب، وهم مجموعة لا تتمسك بمعتقدها الالحادي بشكل كامل ولا يملكون موقفاً محدداً من قضية وجود الله.
4_ الملحدون المعادون للمؤمنين، وهم مجموعة تحارب الإيمان وتصنف الاعتقاد بوجود الاديان جهل، ويرون أنفسهم أكثر الناس فهماً بخطورة الاديان على العالم، وهذا الصنف يرى أن الدين شر يجب أن يزال من المجتمع نهائياً.
5_ الملحدون المتتبعون لبعض طقوس الديانات، وهم مجموعة لا تؤمن بالديانات أو وجود حياة بعد الموت، إلا أنهم يتبعون بعض العادات التي لها أصول دينية مثل التأمل أو ممارسة اليوغا، إلى جانب احتفالهم بالأعياد الدينية.(7)
افكار ومعتقدات الإلحاد:
يتبنى الفكر الالحادي المفاهيم التالية:
1_ نشأ الكون تلقائياً نتيجة لأحداث عشوائية دون الحاجة إلى صانع.
2_ ظهرت الحياة ذاتياً من المادة، عن طريق قوانين الطبيعة.
3_الفرق بين الحياة والموت فرق فيزيائي بحت، سيتوصل إليه العلم يوماً ما.
4_ الإنسان ليس إلا جسداً مادي، يفنى تماماً بالموت.
5_ ليس هناك وجود للروح كنفخة إلهية.
6_ ليس هناك بعث بعد الموت.
7_إن الكون والإنسان والحيوان والنبات وجد صدفة، وسينتهي كما بدأ.
8_إن المادة أزلية أبدية وهي الخالق والمخلوق في آن واحد.
9_عدم الاعتراف بالمفاهيم الأخلاقية، ولا بالحق والعدل ولا بالأهداف السامية، ولا بالروح والجمال.
10_الإنسان مادة تنطبق عليه قوانين الطبيعة التي اكتشفتها العلوم كما تنطبق على غيره من الأشياء المادية.(8)
الالحاد في الفلسفة:
يعرف الالحاد في الفلسفة بأنه مذهب فلسفي يقوم على فكرة عدمية، اساسها انكار وجود الله، والقول بأن هذا الكون وجد صدفة دون خالق، وأن المادة أزلية أبدية وأن تغيرات الكون تمت بالمصادفة أو بمقتضى طبيعة المادة وقوانينها، وينتهي الكون كما بدأ ولا توجد حياة بعد الموت، وكما هو واضح من هذا التعريف هو انكار وجود الله، واعتبار هذه الفكرة وضعها المتسلطين على رقاب الناس واستعبادهم، والحقيقة أنه لا يجحد حقيقة الوجود الإلهي إلا اعمى القلب، ذلك أن دلائل ثبوتيه كثيرة، والأدلة على وجوده كثيرة العلمية وغير العلمية، وهنا نذكر أنه أحد العلماء طلب منه بعض الملاحدة أن يناظر في وجود الله، وحددوا موعداً لذلك فتأخر العالم عنهم وكان تأخره عن قصد، فلما جاء سألوه عن سبب تأخره، قال لهم حال بيني وبين المجيئ إليكم نهر، غير أن الأمر لم يطل حتى أتت سفينة وهي تمشي من غير أن يقودها قائد أو يتحكم فيها متحكم، فصاح به الملاحدة ماذا تقول يا رجل فقال لهم أنتم أنكرتم أن يكون لهذا الكون خالقاً، ولم تصدقوا أن تكون سفينة بدون قائد، فاعترفوا واقروا بوجود الله، وأيضاً يقال أنه سأل اعرابي بسيط عن وجود الله، فقال بفطرته السليمة البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج، ألا تدل على العزيز الخبير.
يعد ديمقريطس أول من طرح فكرة الالحاد، فالكون عنده متكون من مجموعة من ذرات لا يمكن استحداثها، وهذه ليست من صنع الله، وإنما نتيجة الحركة الذاتية التي لا أول لها، وبعده أبيقور عالج مفهوم الالحاد على ذات طبيعة نفسية، فالدين نزعة إنسانية ناتجة عن فكرة الموت وتفاقم الخوف من الموت هو السبب للجوء الناس تجاه الآلهة. وفي العصر الحديث الغربي بدأ يتم التأسيس على تغيير النزعة للإنسان بعد ما كانت تأسس على رسالة الوحي، وبدأت الحضارة تعيد نظرتها حول الإنسان وكل ذلك الصراع مع الكنيسة، الأمر الذي أدى إلى جملة من التغيرات ومنها الانتقال من رؤية الكنيسة إلى رؤية مقابلة، فرؤية الكنيسة تخدم مصالحها والسيطرة على حقوق الناس، ومنها بدأت حملة تشن على الكنيسة ولا سيما بدأت مع بيكون ووضعه الاورجانون الجديد والذي ينص على النظر إلى الطبيعة من خلال التجربة وترافق معها تيارات فكرية ومن داخل الكنيسة مثلت حركة مارتن لوثر، ودعى الكنيسة التكلم باللغة مع الناس وترك اللغة اللاتينية، ودعى إلى ترجمة الانجيل إلى اللغة الالمانية، وبعده كالفن الذي دعى إلى الفصل بين الرؤية الدينية والرؤية السياسية، ومن خلال ذلك بدأ تيار جديد يقوم بثورة على التقليد فأخذ يظهر ذات طبيعة الحادية. ومن هنا بدأ الالحاد يستشري في كل مفاصل المجتمع ويذكر أنه عندما سأل نابليون العالم لابلاس عن كيفية خلق الله الاكوان، قال له أن العلم قادر على الاجابة، أي لا يحتاج إلى نظرية لاهوتية ودينية لتفسير الطبيعة، وقد اعتبر ماركس أن الدين هو نتيجة تطور المجتمعات اقتصادياً وقد مر بمراحل متعددة في تطور الانسان اجتماعياً، والدين هو مخدر للشعوب والقضاء على الدين هو الحل، لأن الطبقة الغنية هي من وضعت الدين لتخدير الشعب، والحل هو القضاء على الدين، وأيضاً أعتبر ماركس الدين أفيون الشعوب ويجعل الشعب كسولاً وغير مؤمناً بقدراته في تغيير الواقع وأن الدين تم استغلاله من قبل الطبقة البرجوازية لسحق طبقة البسطاء، أما فرويد يرى أن الدين ظهر نتيجة التطور التاريخي للإنسان وما يتحكم بالإنسان اللاوعي، والدين مرحلة من مراحل الطفولة للإنسان، لأن الإنسان شعر بالخوف في طفولته وذهب لأنتاج وهم، هو الله وهو الحامي ونشأت الدين مثل الطفولة أي عند تعرضه لأخطار، وبهذه الخصيصة يلجأ إلى الله ليذهب عنه الخوف، والدين ليس وهماً بل خطر على الإنسانية، لأنه يقدس المعايير الإنسانية، وأن فكرة وجود الإله هو محاولة من اللاوعي لوصول إلى الكمال في شخص مثل أعلى بديل لشخصية الأب، إذ أن الإنسان في طفولته حسب اعتقاد فرويد ينظر إلى والده كشخص متكامل وخارق ولكن بعد فترة يدرك أنه لا وجود للكمال فيحاول اللاوعي إيجاد حل لهذه الأزمة بخلق صورة وهمية لشيء أسمه الكمال ، وفي التاريخ الاسلامي لم نجد هناك دعوات للإلحاد صريحة كما في الغرب، ويعود هذا السبب لأن الدولة الاسلامية كانت تتعامل مع هكذا دعوات وتتهمه بالزندقة والقتل، فلذلك وجدت شخصيات قلقة تجاه الدين والله كما يصفها عبدالرحمن بدوي، والناظر في الالحاد في الدولة الاسلامية يجد أنه أتجه مباشر إلى انكار النبوة، واختلافهم في صفات الله وقدم العالم وخلقه.(9)
الالحاد في الفكر العربي المعاصر:
لقد بدأت حركة الالحاد في العالم العربي والاسلامي بعد منتصف القرن التاسع عشر، حينما بدأ العالم الاسلامي والعربي يتصل بالعالم الغربي عن طريق ارساليات الدراسة أو التدريب وتسبب ذلك في رجوع مجموعة من الطلاب متأثرين بالفكر الاوربي المادي الذي كان يقوم على اساس تعظيم علوم الطبيعة، ورفع شأن العقل، وكذلك كان يقوم على تنحية الدين والشرع عن حكم الحياة والناس وإدارة وشؤونهم، وفي بداية الأمر لم يكن ثم دعوة صريحة للإلحاد في العالم الاسلامي والعربي، وإنما كانت هناك دعوات للتحرر أو التغريب، أو لفتح المجال أمام العقل، أو إلى محاكمة بعض النصوص الشرعية إلى العقل أو إلى الحس أو الواقع، أو إلى محاولة إنشاء خلاف وهمي وصراع مفتعل بين العقل والشرع، ومع مرور الوقت، وزيادة الاتصال بالغرب وتراثه وانتشار موجة التغريب بين الناس ظهرت بعض الدعوات الصريحة للإلحاد، وفتح باب الردة باسم الحرية الفردية.(10)
يعتقد محمد عمارة أن العالم الاسلامي لم يعرف الإلحاد إلا أبان القرن العشرين، وقد عرف هوامش للفكر المادي الماركسي، تمثلت في تنظيمات شيوعية لم تكن الدعوة إلى الالحاد ملحوظة في أدبياتها، ولقد بقى على هذا الحال حتى جاءت ثورة الاتصالات المعاصرة التي أزالت حواجز النسبية بين الثقافات والحضارات، والتي جعلت فيها شبكة المعلومات العالمية من الكون الثقافي والعولمة الفكرية صفحة مفتوحة أمام جميع الناس في كل القارات والاقطار والحضارات، فتسلل الالحاد إلى نفر من الشباب المسلم الذين لم تحتضن عقولهم الوعي بالفكر الاسلامي ولم تهذب وجدانهم التربية الاسلامية، فعلى مواقع الانترنيت تساقط الشباب في مستنقع الالحاد.(11)
إن وجود الله حقيقة لا تحتاج إلى برهان فهي فطرة فطر الله الناس عليها، ولذلك فإن القرآن الكريم لم يكن من أهدافه إثبات وجود الله ولا من أهداف الرسول(ص)، لأن العرب جميعهم يعتقدون بوجود الله، ويقول الله تعالى" ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولون الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون، سورة لقمان، الآية 25". ويقول أبن رشد " أن العرب كلها تعترف بوجود الباري سبحانه وتعالى". ويذكر الشهرستاني في الملل والنحل بقوله " وشبهات العرب كانت مقصورة على شبهتين إحداهما انكار البعث وثانيهما بعثة الرسول(ص)".(12)
أن الجدل حول هل الكون له بداية أو قديم كانت الشغل الشاغل للفلاسفة قبل القرن العشرين، لكن الاسلام أخبر عن هذه الحقيقة وهي أن الكون له بداية، وقد تيقن العلماء في القرن العشرين من أن الكون له بداية وهذا من خلال اثبات الحقائق الاربعة وهي:
1_ تم اثبات أن مجرات الكون تتباعد أي أن الكون يتمدد، وهذا يعني أن للكون بداية بدأ منها هذا التمدد.
2_ تتناقص حرارة الكون تدريجياً، ولو كان أزلياً لوصل إلى العدم الحراري، مما يعني فناء الكون، لذلك فبقاء كوننا حتى الآن يعني أنه ليس أزلياً.
3_ نجح العلماء في تسجيل الضجيج الكوني الذي صاحب الانفجار الاعظم الذي أنشأ الكون.
4_ تم اثبات وجود العناصر الخفيفة( الهيدروجين والهليوم) وتوزيعها بشكل متساو في مختلف أرجاء الكون، أي أن الكون نشأ بحادث واحد مهول منتج للحرارة، وهو الانفجار الكوني الاعظم.(13)
واجهت فكرة الإلحاد جدارا صعب الاختراق في بداية انتشار الفكرة أثناء الاستعمار الأوروبي لعدد من الدول الإسلامية، ويعتقد معظم المستشرقين والمؤرخين إن الأسباب التالية لعبت دوراً مهماً في صعوبة انتشار فكرة الإلحاد الحقيقي في العالم الإسلامي حتى يومنا هذا:
1-الاختلاف التاريخي بين الإسلام والديانات والأفكار الروحية الأخرى، فقد استطاع الإسلام في بداياته تشكيل نواة دولة، وتغلغل الفكر الإسلامي وتخطى حدود مجرد كونه فكرة روحية، بل أصبح نظاماً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وكان لتشريعاته حضور في صغير الأمور وكبيرها من إلقاء التحية، وطريقة الأكل، مروراً بفلسفة الوجود، إلى الأمور السياسية والإدارية العليا، لذلك أصبحت شعائر الإسلام من صوم وحج وزكاة وغيرها ذات طابع اجتماعي، فتأصلت في ذاكرة الإنسان المسلم جيلاً بعد جيل، وأصبحت جزءاً من الموروث الثقافي.
2-الانتصارات العسكرية التي تحققت في عهد الإسلام حيث تحولت القبائل العربية من معادية لبعضها بعضاً إلى قوة عظمى، فتولدت قناعة لدى المسلم أن الخضوع والتأخر والهزيمة كان نتيجة الابتعاد عن تعاليم الإسلام، وليس العكس.
3-استناد الاستعمار الأوروبي في محاولته لفهم العالم الإسلامي على أفكار معادية للإسلام ولشخصية رسول الإسلام، وانتشرت هذه الأفكار في أوروبا في القرون الوسطى في أثناء التوغل الإسلامي في قارة أوروبا، فتولدت قناعة لدى المستعمر الأوروبي أنه أكثر تحضراً من المسلم صاحب العقلية المتحجرة، مما أدى إلى انعدام حوار حقيقي بين الحضارات، بل كان حواراً من طرف واحد مفاده أن المسلم يجب عليه أن يتغير لكي يواكب ركب التقدم، وقاد هذا الحوار الفردي إلى ردود فعل مختلفة ومواقف متباينة متعارضة من الدين.
4-طبيعة المجتمع الشرقي فهو مجتمع جماعي بعكس المجتمع الأوروبي الذي يغلب عليه النزعة الفردية، فالإنسان الشرقي ينتمي أولاً إلى العائلة ثم القبيلة أو العشيرة، ثم الطائفة، وأي قرار يتخذه يجب أن يراعي فيه مصلحة مجموعة أخرى محيطة به قبل مصلحته أو قناعته الشخصية، أما الإنسان الغربي فله القدرة على إعلان الإلحاد قراراً فردياً دون أن يتبع هذا القرار وصمة عار من قبل المجتمع بعكس الإنسان الشرقي الذي سيصبح معزولاً عن أقرب المقربين إليه إذا أعلن الإلحاد لكون دين الإسلام ديناً ذا أبعاد اجتماعية يدخل في تفاصيل الحياة اليومية.
ذكر في القرآن الكريم الكثير من القضايا العلمية والتي تؤكد بلا شك أن لهذا الكون خالق وعارف بكل شيء، فمن الآيات التي تؤكد الحقائق العلمية وهي:
1_ نقص الأوكسجين في الارتفاعات:
قال تعالى" فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون، سورة الانعام، الآية 125". تنص هـذه الآية الكريمة على الإنسان عندما يصعد في السماء، أي يرتفع في أعالي الجو يضيق صدره ويشعر بالاختناق، وهـذه حقيقة علمية سببها أن نسبة الأوكسجين تقل كلّما ارتفعنا إلى الاعلى، كما يقل الضغط الجوي، وهـذان السببان يجعلان الإنسان يشعر بضيق النفس.
2_ حركة النجوم والكواكب في مداراتها:
كان الناس يرون أن الأرض مركز الكون، وتدور حولها الشمس والقمر والنجوم السيارة، ويرون نجوماً ثابتة طوال السنة، فيصفونها بالثبات، ثم حدث في العصر الحديث رأي يعتبر أن الأرض هي التي تدور حول الشمس، وأن الشمس هي مركز الكون. أما القرآن الكريم فقد رفض قبل ذلك جميع الآراء التي تزعم أن للكون مركزاً ثابتاً، قال تعالى: " وكل في فلك يسبحون، سورة يس، من الآية 40".
3_ اهتزاز الأرض وزيادتها بالمطر:
قال تعالى: " وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، سورة الحج، من الآية 5". إن العلم يؤكد أن الأرض تهتز فعلاً بنزول الغيث عليها، فالحبوب والبصيلات والدرنات والحويصلات والبكتريا والجراثيم كلها تبدأ بالحركة والانقسامات الخلوية، وامتصاص الماء، وتحليل الغذاء المعقد إلى وحدات أقل ارتباطاً، وأكثر عدداً، وأكبر حجماً، وبامتلاء مسام الأرض بالماء تتحرك جزيئات الطين، وتبدأ عملية عجيبة في جزيئات التربة، وتنشط الديدان الأرضية في شق الأنفاق الأرضية، وابتلاع كميات كبيرة من التربة المتلاصقة، وإخراجها بعد ذلك مفككة، كل هـذه النشاطات تؤدي إلى زيادة حجم التربة، ويمكننا رؤية صورة مصغرة لهـذه العمليات بتخمير العجين، وزيادة حجمه، نتيجة نشاط خلايا الخمائر، وفي التربة تحدث ضروب كثيرة لمثل هـذا النشاط، من كل ما سبق نجد التوافق بين ما عرفه العلم وما وصفه القرآن الكريم.
4_أوهن البيوت:
قال تعالى: " مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون، سورة العنكبوت، الآية 41". إن قوله سبحانه يشير إلى أن وهن بيت العنكبوت المتحدث عنه وهن غير ظاهر ولا معروف لدى عامة الناس، وقد ضرب هـذا الوهن مثلاً لموالاة الكافرين بعضهم لبعض، وقد وجد العلماء عند دراسة العنكبوت أن الروابط بين أفراد العنكبوت في غاية التفكك، فالأُنثى كثيراً ما تأكل الذكر بعد الإلقاح، وقد تأكل أبناءها، والأبناء يأكل بعضهم بعضاً، فهو بيت متفكك متداع، وذلك مثل موالاة الكافرين بعضهم بعضاً.
الالحاد الجديد:
كان الالحاد في سياقه التاريخي يمثل خطاباً ميالاً نسبياً إلى قدر من الحيادية من الموقف الديني، ولم يكن لديه تلك الحماسة الكبيرة للدعوة والتبشير بقضية الالحاد، بل كانت قضية الإيمان قضية شخصية متعلقة بالأفراد، ولكن أحداث 11سبتمبر في أمريكا ولحظة اصطدام الطائرتين ببرجي التجارة العالمية تغيرت المعادلة تماماً، وترسخ في وعي كثير من الملاحدة أن قضية الإيمان والتدين باتت مهدداً حقيقياً للبشرية، وأن التزام الصمت والحيادية من الدين لم يعد خياراً مقبولاً، وأنه من المتعين على الملاحدة اليوم السعي في استئصال مبدأ التدين من الحياة البشرية واحلال قضية الالحاد كخيار منقذ، وعلى أثر هذه الحادثة ظهر دعاة ومبشرين بالإلحاد وسمي بالفرسان الأربعة( ريتشارد دوكينز، سام هاريس، كريستوفر هيتشنز، دانيل دينيت).(14)
وبذلك ولدت حادثة 11سبمتمبر كردة فعل ضخمة في تشجيع الملاحدة على ممارسة دور تبشيري ضخم بالمضامين الالحادية، وبسبب هذه الحماسة وهذا الحراك في الدعوة إلى الالحاد قفز السؤال عن وجود الله، في الفضاء الاعلامي ليحتل موقعاً متقدماً، وليكون موضوعاً حاضراً بقوة في الاعلام ويصبح رموز الالحاد نجوماً اعلامية لها حضور شعبي، وحتى على مستوى الترفيه فقد ظهر شخصية ريتشارد دوكينز في المسلسلات الكارتونية الساخرة، وانهمر الكثير من الكتاب في التأليف وقد شكلت قوة دافعة للإلحاد الجديد ونواته واستطاعت أن تخترق الفضاء العام بسبب جودة الاسلوب وسحر العبارة ووضوح الأفكار.(15) وقد اصبح الإلحاد الجديد موجة إلحادية جديدة ظهرت في أوروبا وأمريكيا, وأصحاب هذا الإلحاد لم يدعوا إلى إنكار الإله فحسب، بل ويهاجمون الداعين لإثبات وجود الإله الخالق لا سيما اتباع الدين الإسلامي, وما نراه اليوم من ظهور ما يسمى الإسلام فوبيا, وشدة عداوتهم للمسلمين في بلاد الغرب والشرق لهو دليل واضح على تطور الإلحاد, وهو ما يطلق عليه بالإلحاد الجديد، وهذا الالحاد يتجاوز مسألة الانكار الفلسفي لوجود الله إلى الهجوم الشديد على الدين والدعوة لعدم التسامح معه، بل تجريمه بصفته مصدر كل الشرور، بينما كان الالحاد القديم جزءاً من فلسفة أكبر، ليس الدين أكبر همها، وقد كان هجوم السابقون اقل على الدين، ويشكل الالحاد الجديد خطر حقيقي بسبب أن ثلاثة من رواده علماء تجريبيون وأن هذه الموجه من الالحاد جاءت من العلم الذي حقق منجزات كبيرة، وهم ليس كالجيل السابق مثل نيتشه وماركس وسارتر، إذ بقيت لغتهم بعيدة عن الجماهير الواسعة، كما أن الفلسفة لا تملك تأثير وابهار العلم التجريبي على الجماهير.(16) ويعد جيري وولف أول من سك هذا الاسم الالحاد الجديد في مقال نشرها عام 2006، في مجلة واير البريطانية بعنوان(كنيسة غير المؤمنين).(17) ومن أبرز دعاة الالحاد الجديد وهم:
1_ريتشارد دوكينز(1941_) هو عالم بيولوجي بريطاني، وهو من يقود بما يسمى الالحاد الجديد، وهو اعلاهم صوتاً وأغزرهم انتاجاً وأكثرهم انتشاراً، وقد استعمل نظرية التطور كرأس حربة مباشرة في محاربة الإيمان والأديان، ويعرف دوكنز الايمان بأنه الثقة العمياء رغم غياب الدليل، بل بالضد من الأدلة التي تثبت العكس، وأن الايمان بالله هو ايمان بلا دليل، بل هو ايمان رغم أن الادلة تدل على عدم وجوده، ويستند دوكينز ويحاكم أدلة الايمان حسب معايير العلم التجريبي، فيقرر أنها ليست موجودة ولكن هذا مخالف للمنطق، لا يمكن محاكمة أدلة الايمان حسب معايير العلم التجريبي، لكن هناك الكثير من النظريات العلمية التي يسلم بها الملاحدة غير خاضعة للتجربة، بل هي فرضيات مثل الانفجار العظيم ونظرية التطور، كل هذه النظريات المقبولة علمياً لا يوجد عليها دليل قاطع ونهائي، وأيضاً يسلم دوكينز بنظرية الاكوان المتعددة والتي لم يتوفر فيها دليل واحد يؤيدها، ويجيب دوكينز على هذه السؤال بأنه يؤمن بنظرية الاكوان المتعددة لأنها فكرة بسيطة، أما أن هناك عاقل قادر على الخلق فكرة معقدة، وهذا يجعل فكرة الاكوان المتعددة أكثر احتمالاً، وهنا يتضح أن الملحدين يتحيزون لصالح ايديولوجيتهم العبثية بدون دليل مقنع، إذ يجب اسناد أي فكرة عندهم إلى دليل، ويعتبر زعيم الملاحدة ريتشارد دوكينز أن الايمان بالله، هو أكبر الشرور في العالم، لذلك ينبغي التخلص منه كما تم التخلص من الجدري من قبل، ويضيف دوكينز أنه عندما يعاني شخص من التوهمات فإننا نعتبره مجنوناً، أما عندنا يعاني اشخاص كثيرون من التوهمات، فإننا نعتبرهم متدينين، ويردد الملاحدة أن كل اكتشاف علمي يفسر ظاهرة من الظواهر الطبيعية ويسحب من رصيد الألوهية، لذلك على البشرية أن تقبل أن العلم قد قضى على أي مبرر للاعتقاد بوجود سبب أول، ويعتقد الملاحدة أنه لم يعد هناك معركة بين العلم والدين، بل أن المعركة انتهت بفوز العلم، وقد بقى كتابه( وهم الإله) على رأس قائمة النيويورك تايمز للكتب الأكثر مبيعاً لأسابيع، وبقي على نافذة بيع الكتب الاشهر على الأنترنيت(أمازون) وذلك في السنة التي طبع فيها، وقد بلغت مبيعاته مليوني نسخة باللغة الانجليزية، وطبع بلغات أخرى كثيرة.(18)
2_دانیال دينيت (1942_) هو فيلسوف وكاتب وعالم إدراكي أمريكي يهتم بالبحث في فلسفة العقل، وفلسفة العلوم، وفلسفة علم الأحياء، وخصوصاً كيفية ارتباط هذه التخصصات بعلم الأحياء التطوري والعلوم الإدراكية، ومن أشهر ما كتب في نقد الأديان كتابه(فك السحر، الدين كظاهرة طبيعية), و(تفسير الوعي).
3_كریستوفیر هیتشنز(1949_2011) مؤلف صحفي بريطاني, اشتهر بهجماته العدائية على الدين, ومن أشهر كتبه في الإلحاد كتاب (الإله ليس عظيماً).
4_سام هاریس(1967_)هو مؤلف وفيلسوف ومفكر وعالم أعصاب أمريكي اشتهر بكتبه الناقدة للدين, ومن أقواله الإلحادية ما نصه "كملحد أنا غاضب لأننا نعيش في مجتمع لا نستطيع التحدث عن الحقيقة الواضحة دون الإساءة إلى 90% من السكان), من كتبه(نهاية الإيمان), و(رسالة إلى أمة مسيحية) و(الإسلام ومستقبل الإلحاد), وقد ركز في كتبه بشكل أساسي على علم الأعصاب, ونقد الأديان, وقد ترجمت كتبه ومنشوراته لأكثر من عشرين لغة مختلفة.
5_ستیفن هوكینج(1942_2018) هو العالم الفيزيائي الإلحادي, المتخصص في العلم الكوني والفلك, والفيزياء, ويعد من دعاة الإلحاد الجديد, ولكنه يخالفهم في عدم إبداء العداوة ضد الأديان والمتدينين, من مؤلفاته(التصميم العظيم), والذي عارض فيه أن هذا الكون قد خلقه الله وادعى أن هذا الكون بدأ بمفردة، أما الإنسان فيقول عنه:" أن الجنس البشري مجرد حثالة كيميائية على كوكب متوسط الحجم".
ومن دعاة الإلحاد الجديد من العرب:
6_نوال السعداوي)1931_2021) طبيبة أمراض صدرية، وطبيبة أمراض نفسية، وكاتبة وروائية مصرية مدافعة عن حقوق الإنسان بشكل عام وحقوق المرأة بشكل خاص.، كتبت العديد من الكتب عن المرأة في الإسلام، اشتهرت بمحاربتها لظاهرة ختان الذكور والإناث، وهي شخصية داعية للتمرد والإلحاد, والانقلاب على كل الثوابت الدينية, وهذا واضح من عنوان كتبها, ومنها: عن (المرأة والدين والأخلاق), و(ملك وامرأة وإله) و(الإله يقدم استقالته في اجتماع القمة).
7_بسام البغدادي(1977)ملحد عراقي يعيش في السويد له كتب إلحادية ومقالات في قمة الإلحاد, بل قد تجاوز في إلحاده الملحدين في الغرب لا سيما في مقالات عدة, منها مقال بعنوان: (مقارنة بين عشتار إله الحياة والله إله الموت), و(حوار مع الله), حيث يتحدث بلهجة ساذجة وساخرة, وقام بترجمة كتاب(وهم الإله), لزعيم الإلحاد الجديد ريتشارد دوكينز إلى العربية.
ويلاحظ عن الإلحاد الجديد وأبرز رموزه أن هؤلاء الملاحدة الجدد لهم أساليب مقززة جداً في استدلالاتهم, ونجد فيها هشاشه ظاهرة, ومغالطات منطقية واضحة, وفيها جرأة على كل الثوابت والقيم التي يؤمن بها المسلم والمؤمن الحق لا سيما في طرح لأفكارهم الإلحادية, ومن ناحية أُخرى هم يتبعون أسلوباً نفسياً ويكون مؤثراً أحياناً في عرض أفكارهم لمن لم يكن متسلحاً بالعلم الشرعي الصحيح, والخطورة تكون أكبر لمن نشأ بعيداً عن تعاليم الدين والثوابت, ومن هنا تكمن خطورة ترجمة كتبهم وطرحها في الأسواق لعوام الناس فإن فيها خطراً كبيراً ينبغي التنبيه إليه، ويمكن الاشارة إلى أن الخطر الكبير يتمثل بأن الالحاد الجديد يريد أن يصل لكافة المجتمعات لذلك عقدوا الملحدين الجدد عدة مؤتمرات ومن اهمها في المستقبل القريب هو المؤتمر الذي عقدته مؤسسة سالك في كاليفورنيا عام 2006 بعنوان( ماذا بعد الإيمان العلم، الدين، العقل، الحياة)، وقد انتهى المؤتمر إلى صياغة المفاهيم الاساسية التي ينبغي أن تنطلق منها ممارسات الالحاد المعاصر وهذه المفاهيم هي:
1_الدين وهم خطير، يؤدي إلى العنف والحروب.
2_ ينبغي التخلص من الدين، ويقوم العلم بهذه المهمة.
3_ لا نحتاج لإله لنكون على خلق، فالإلحاد يمكن أن يكون منطلقاً قوياً للأخلاق.(19)
هناك عدة مؤسسات الحادية ومنها:
1_ التحالف الدولي للملاحدة.
2_ رابطة الملاحدة.
3_ مؤسسة ريتشارد دوكينز لدعم العقل والعلم.
4_ الاتحاد الدولي للاتجاه الإنساني والأخلاقي.
5_ الرابطة الدولية لغير المتدينين والملحدين.
انتج الملاحدة عدداً كبيراً من البرامج الاعلامية المتعددة والتي تخدم توجهاتهم وتصب في معتقداتهم الفاسدة بين برامج حوارية، وافلام تعليمية ووثائقية ومسلسلات ترفيهية، تشكل فيها فكرة الالحادية كفكرة مركزية، أو تتضمن بعض خلفياتها لقطات الحادية، وقد وضعوا عدة مواقع الكترونية كثيرة ودورها في تقديم مواد متعلقة بالظاهرة الالحادية وتمارس دوراً دعوياً للفكرة الالحادية، ومن مظاهر الالحاد أيضاً هو الدعوة للإلحاد عبر اللوحات الدعائية في الشوارع، حيث يقوم الملاحدة في كثير من المدن باستئجار اللوحات الدعائية الصغيرة والكبيرة وكتابة العبارات الداعية للإلحاد، كما تتم الدعوة في الباصات، ومن العبارات التي تتم وضعها هي( الأديان جميعاً قصص خرافية) و(لا تؤمن بالله، لست وحدك)و (ليس ثمة إله) و(الملايين بخير دون الله)، ولتأكيد الهوية الالحادية يقوم الملاحدة بارتداء عدد من القمصان والملابس التي تتضمن عبارات موحية بالهوية الالحادية، أضافة إلى وضع ملصقات الحادية على السيارات، وبذلك يرى الالحاد الجديد وينطلقون في تعاملهم مع الدين من رؤية ترى فيه منبعاً للشرور والكوارث وأنه من الواجب السعي بجدية في محاربته وفق الأدوات المتاحة.(20)
اسباب الالحاد:
نلاحظ هناك عدة اسباب لنشوء الالحاد في الغرب في العصور الحديثة والمعاصرة ومن أهمها:
1_الكنيسة في اوربا:
لقد كانت الكنيسة الأوروبية سبباً غير مباشر أحياناً وسبباً مباشراً أحياناً أخرى في نشر الإلحاد والزندقة والكفر الكامل بوجود الله وذلك لأن القائمين على هذه الكنيسة من الرهبان والقساوسة أدخلوا في دينهم كثيراً من الخرافات والخزعبلات، وجعلوها عقائد دينية، كرفعهم عيسى عليه السلام من مرتبة البشرية إلى الألوهية وظهور فكرة الخطيئة والصلب والخلاص وأضافوا إلى ذلك كثيراً من الخرافات الدارجة عن الأرض والكون والحياة، وعندما بدأ عصر النهضة الأوربية واكتشف بعض العلماء حقائق جديدة عن الأرض والكون والحياة هب الرهبان والقساوسة ينكرون ذلك، ويتهمون من يعتقد بالحقائق الجديدة ويصدق بها بالكفر والزندقة ويوعزون إلى السلطات الحاكمة بقتلهم وحرقهم بالنار، ولقد لقي كثير من العلماء هذا المصير المؤلم جزاء مخالفتهم لآراء الكنيسة، ولكن حركة العلم لم تتوقف واستطاع العلماء أن يقدموا كل يوم براهين جديدة على نظرياتهم العلمية وابتدأت آراء الكنيسة ومعتقداتها تهزم كل يوم هزيمة جديدة وكانت الجولة في النهاية لعلماء المادة على رجال الكهنوت فاندفع الناس نحو الإيمان بالعلم المادي كإله جديد سيحمل الرخاء والقوة والرفاهية للناس، وتفتش للناس أسرار الكنيسة فهالهم ما رأوه من فساد أخلاقي بين الرهبان والراهبات وأرادوا التخلص إلى غير رجعة من السلطان الكهنوتي والقهر الزمني الذي مارسته الكنيسة ضدهم ومن الإتاوات والضرائب التي فرضتها الكنيسة على رقابهم فكان الرفض الكامل لكل المعتقدات الدينية والكراهية العامة لكل عقيدة تنادي بالإيمان بالغيب واتهام الرسل جميعاً بالكذب والتدليس وهكذا برزت الموجة الأولى من موجات الإلحاد العالمي.
2_مظالم العالم الرأسمالي:
ما كادت أوربا تتخلص جزئياً من سلطان الكنيسة ويكتشف الناس قوة البخار والآلة حتى تحول الناس من الزراعة إلى الصناعة، وهرع أهل الإقطاع إلى التصنيع فامتلكوا المصانع الكبيرة وحازوا الثروات الضخمة واستغلوا العمال استغلالاً فاحشاً وانتشرت المظالم الهائلة وظهرت الطبقات المتفاوتة من رأسماليين جشعين إلى عمال فقراء مظلومين، وكان رؤية هذا الظلم الجديد، ومساندة رجال الدين أو سكوتهم عنه سبباً جديداً في انتشار الإلحاد والشك في وجود الله، واتهام الدين بمساندة الظلم أو عجزة عن تقديم حل ناجح لمشكلات الإنسان على الأرض وابتدأت العقائد الدينية تنحسر انحساراً جديداً عن حياة الناس وابتدأ الناس يعملون أفكارهم في خلق عقائد تستطيع أن تحل مشكلاتهم على الأرض، وتقنع عقولهم وعجزت الكنيسة الأوروبية أيضاً عن تقديم هذا العلاج للناس.
3- ظهور المذاهب الاقتصادية الالحادية:
كان العامل الثالث الذي ساعد على انتشار موجة الإلحاد هو ظهور المذاهب الاقتصادية الإلحادية وخاصة الشيوعية التي بشر بها كارل ماركس، فبالرغم من أن هذا المذهب ينطلق من منطلق اقتصادي ويستهدف حسب إعلان المبشرين به معالجة المظالم الرأسمالية الفردية والسيطرة على مجتمع اشتراكي يعمل فيه كل إنسان حسب طاقته ويأخذ حسب حاجته فقط، إلا أن القائمين على هذا المذهب الاقتصادي صبغوه بالصبغة العقائدية وأعطوه أبعاداً أخرى غير اقتصادية فزعموا أن الحياة التي يعيشها الناس حياة مادية فقط وأنه لا يوجد روح ولا بعث ولا إله، ولا حياة أخرى وزعموا أن ظهور الأديان إنما كان من فعل الأغنياء ليلبسوا على الفقراء ويستغلوهم، وأن الأخلاق كالأمانة والعفة والصدق ما هي إلا نتاج خبيث للفكر الديني الذي يريد أن يخدم المصالح الرأسمالية، واعتقد الشيوعيون لذلك أن الأنبياء ما كانوا إلا دجالين أرادوا بنشر أديانهم تخدير الشعوب للظلم والقهر، وبهذا أصبح هذا المذهب الاقتصادي بفلسفته التي أطلقها على الأديان موجة جديدة من موجات الإلحاد والزندقة، ولعل هذه الموجة الجديدة التي جاءت بها الشيوعية كانت أعتى موجات الإلحاد جميعاً وذلك أن الشيوعية تبنت الدفاع عن المظلومين والفقراء وهذه قضية عادلة وإنسانية في ذاتها، ولذلك تبنى هؤلاء الفقراء والمظلومون وهم أغلبية الناس دائماً هذه العقيدة الجديدة والدين الجديد، لأنه يدافع عن مصالحهم ويتبنى قضاياهم وبالطبع أخذوا هذا الدين بفلسفته العقائدية وليس بفكره الاقتصادي فقط، وهكذا انتشر الإلحاد سريعاً مع هذا المذهب الاقتصادي الجديد وكان النجاح الهائل الذي لاقته الدعوة الشيوعية بتفجير الثورة البلشفية في روسيا والاستيلاء على الحكم عاملاً كاسحاً في هدم الأديان ونشر الإلحاد وانتقاله ليصبح عقيدة عالمية، ولما كانت الدعوة الشيوعية ترى أن نهاية العالم الحتمية إلى الشيوعية وتدعو لذلك، بل تنتهج الثورة والعنف الدموي سبيلاً إلى نشر الشيوعية فإنه سرعان ما تأجج العالم من أقصاه إلى أقصاه بالثورات التي أججتها هذه العقيدة وابتدأت التحولات القسرية لشعوب بأجمعها نحو الإلحاد كما حدث في الجمهوريات الإسلامية في روسيا وكذلك في الصين وغيرها وما زال المد الإلحادي الذي تؤججه العقيدة الماركسية يمتد عبر بلدان العالم جميعها، وها هي البلدان العربية التي كانت معقلاً للإسلام تغزوها العقيدة الماركسية الإلحادية في عقر دارها.
4_اقتران الإلحادية بالقوة المادية:
السبب الرابع الذي شجع الناس على الكفر بالله والانطلاق نحو الإلحاد الكامل هو اقتران القوة المادية بالإلحاد، وذلك أن الناس رأوا أن أوربا لم تتقدم وتمتلك القوى المادية وتكتشف أسرار الحياة إلا بعد أن تركت أفكار الكنيسة وعقائدها، وأن الدول الغربية لم تصبح دولة عظمى إلا بعد أن أعلنت أنها دولة إلحادية، ورأوا مع ذلك أن الدول التي ما زالت تتمسك بالدين دولاً متخلفة في القوة والصناعات فظن الناس لذلك أن الإلحاد سبب للقوة والعلم، وأن الدين يعني التخلف والجهل، ولما كان للعلم المادي آثاره الظاهرة والباهرة من تيسير حياة الإنسان على ظهر الأرض ونشر الرفاهية والرخاء فإن الناس انصرفوا عن العقائد الدينية وآمنوا بالعلم المادي كإله جديد قادر على أن يذلل لهم كل الصعاب على هذه الأرض، بل أطمعهم هذا الإله المادي أيضاً في الوصول إلى الكواكب الأخرى وتسخيرها في خدمة الإنسان وهكذا ساعد اقتران العلم المادي والكشوف الجديدة بالإلحاد على ظن الناس أن العلم ثمرة ونتيجة للإلحاد، وكان هذا خطأ عظيماً عمت بسببه موجة الإلحاد.
5_ هزيمة العالم الإسلامي أمام الهجمة الأوربية:
ما كاد الأوربيون يمتلكون القوة المادية، ويستخدمون الآلة، ويبنون المصانع حتى اتجهوا إلى دول العالم بحثاً وراء الأسواق لمنتجاتهم الصناعية، وجلباً للمواد الخام اللازمة للصناعة، ولما كانت هذه الدول تطمع في الحصول على ما تريد بثمن زهيد أو بلا ثمن أصلاً فإنها استعملت قوتها العسكرية النامية للحصول على ما تريد.
6_الحياة الجديدة ومباهج الحضارة:
فتح العلم المادي للناس أبواباً عظيمة من أبواب الرفاهية والترف ومغريات الحياة، فالمراكب الفخمة من سيارات وطائرات، وقطارات، ووسائل الاتصال ووسائل الراحة والتسلية، والمطاعم والمشارب الفاخرة، والألبسة الأنيقة، والتفنن العجيب في التلذذ بالحياة، والجري وراء الشهوات والمغريات كل هذا فتح على الناس ألواناً لم يعهدوها من الاستمتاع بالحياة، والانغماس في الشهوات والملذات، ولما كان الدين بوجه عام ينهى عن الإسراف ويأمر بالقصد والاعتدال، ويحرم الاستمتاع بالحرام كالخمر والزنا والتعري فإن الناس الذين يجهلون سر أمر الدين بذلك ظنوا أن هذه قيوداً على حريتهم، وحجراً لملذاتهم وشهواتهم فازدادوا لذلك بعداً عن الدين، وكراهية لمن يذكرهم بالآخرة ومن يحذرهم من نار أو يغريهم في جنة، وبذلك أيضاً ازدادت غربة العقائد الدينية وانتشرت عقائد الإلحاد والزندقة.
7_دوامة الحياة:
كان لانطلاق الناس الصارخ نحو العب من الحياة والاستمتاع بكل ما أفرزته الحضارة الغربية من ملهيات ومغريات، واقتناء من وسائلها الحديثة أثره البالغ في انشغال الناس عن كل شيء حتى عن أنفسهم، فضاعف الناس ساعات عملهم طمعاً في المزيد من الأجور ولتحصيل المزيد من وسائل الراحة كالغسالات والثلاجات والسيارات، ونحوها، وفي سبيل ذلك أيضاً انطلقت المرأة من المنزل لتشارك الرجل أعباء الحياة وتكاليفها الجديدة، وللحصول على مزيد من الرفاهية والراحة، وابتدأ السعار المجنون والرغبة الجامحة نحو اقتناء مغريات الحياة فتطلب ذلك زيادة في الجد والنشاط وانشغالاً بالليل والنهار، وهكذا بدأت دوامة الحياة تطحن الإنسان المعاصر وتشغله في ليله ونهاره ولا تترك له فرصة للتفكير في نفسه أو في مصيره فهو يعمل في متجره أو مصنعه ويعود لملهياته وشهواته ثم يعود إلى عمله وهكذا دون أن تترك له الحياة المعاصرة وقتاً للفراغ يستطيع فيه أن يفكر في حقائق الدين، وأن يجيب عن الأسئلة الخالدة التي تتردد داخل كل نفس: من خلق هذا الكون؟ ومن خلقنا؟ ولماذا خلقنا؟ وإلى أين نسير؟ وهل لهذا العالم نهاية؟ وهل له من بداية؟ ولماذا يعيش الناس متفاوتين فهذا غني وهذا فقير، وهذا ظالم، وذاك مظلوم، وهذا قاتل، وذاك مقتول؟ بل بقيت هذه الأسئلة حائرة في أكثر النفوس وبلا جواب وذلك أن الإنسان المعاصر المستهلك الذي تطحنه دوامة الحياة لا يجد وقتاً للتفكير في كل هذه الأسئلة.(21)
تنولنا اعلاه أهم اسباب الالحاد في الغرب، أما في الوطن العربي فكانت هناك عدة اسباب، وليست بالضرورة أن تكون الدوافع هي بواعث دينية فقط، بل إلى جانب الدوافع الدينية هناك دوافع أخرى وراءه كالدوافع العلمية والتربوية والنفسية، ومن اهم الدوافع:
أولاً_ دوافع عقدية:
أ_ استقرار في الاذهان أن التقدم الحضاري الغربي سببه أن الغربيين عزلوا الدين، بل نحوا فكرة الإله الخالق من أذهانهم، فيلزم أن نفعل الشيء ذاته للوصول إلى النتيجة نفسها.
ب_ هزيمة العالم الاسلامي أمام الهجمة الاوربية، لقد كان للهزيمة العسكرية التي مني بها المسلمون أمام الغزو الاوربي أثرها البعيد في زلزلة العقائد الاسلامية، وانحسارها أمام المد الذي حمله المستعمرون الاوربيون، وبذلك الشعوب الاسلامية بدأت تقلد المستعمر الاوربي وتتشبه بأخلاقه، ولما كان العالم الإسلامي في غاية التخلف والفقر والضعف العسكري والسياسي، فإنه لم يصمد طويلاً أمام الهجمة الأوربية الاستعمارية، وكان للهزيمة العسكرية التي مني بها المسلمون أمام الغزو الأوربي أثرها البعيد في زلزلة العقائد الإسلامية، وانحسارها أمام المد الإلحادي الذي حمله المستعمرون الأوربيون، وطفقت الشعوب الإسلامية تقلد المستعمر الأوربي وتتشبه بأخلاقه وعاداته وتدخل في عقيدته الإلحادية ظناً منها أن الأوربيين لم يصلوا إلى القوة إلا برفضهم للدين، وكانت هذه خطيئة جديدة وسبباً آخر أسهم في الظاهرة الإلحادية العالمية.
ت_ التعرض للشبهات دون تحصيل أدنى حد من المناعة الفكرية، وذلك بالدخول في نقاشات غير متكافئة مع الملاحدة ومنتقدي الأديان، مع الاستهانة بقدرات الخصم على التشكيك والهدم، ويكرس هذا الأمر لدى الكثير من الشباب مزاج الانطلاق والتحرر ورفض الوصاية من العلماء وأهل الخبرة.
ث_ جمود الدرس العقدي، واجتراره نفس الموضوعات التقليدية المتكررة، دون قدرة على تجديد نفسه ليواكب المستجدات العقدية المتسارعة، والشبهات الالحادية التي تتساقط على رؤوس شبابنا، دون أن تكون لهم حيلة في دفعها.
ثانياً_ الدوافع العلمية:
أ_ الضعف المعرفي، وناتج عن اشكالات التعليم المتراكمة، وهذا الضعف يكرس السطحية الفكرية والعجز عن الفهم العميق للإشكالات المعرفية الخطيرة التي يطرحها انتشار الالحاد في وجه الحضارة الانسانية.
ب_ القصور في نظام الوعظ والدعوة، وعجز التيار المتدين عن الاحتضان الروحي العلمي للشباب والاكتفاء في احيان كثيرة، بدروس علمية جافة أو مواعظ ينقصها التجديد والابداع، بدلاً من ممارسة التأخير الروحي والتربوي للأفراد.
ت_ القراءة المسمومة، وهي قراءة الكتب المغرية للإلحاد، والتي غالباً ما يتأثر بها صاحب الوعي المعرفي الضعيف.
ثالثاً_ دوافع تربوية:
أ_ سوء التنشئة، أن ينشأ الشخص في بيت خال من آداب الاسلام وقيمه ومبادئه، فلا يرى أحداً من العائلة ينصحه ويعلمه، ولا يجد أمامه قدوة صالحة في الخير والصلاح، فأقل شبهة تواجهه ينساق خلفها وتزل قدمه فيها.
ب_ تضخيم نقائض المتدينين، وتحميل الدين تبعاتها سواء تلك المتعلقة بالنقص البشري كالعجز والظلم والجهل والشهوة والكسل واتباع الهوى، أو المتعلقة بالخلل في تطبيق الدين بفهم منحرف أو تأويل بعيد لنصوص الوحي وهذا خلل منهجي كما سبقت الإشارة إليه.
ت_ الصحبة السيئة، أن يتصل ضعيف الإيمان بالذات من الشباب بملحد قوي الحجة وبارع في الخطابة، وليس لدى ذلك الشاب من العلم والحصانة الإيمانية ما يدرأ بها عن نفسه الشبهات، فيفسد ذلك الملحد عليه دينه وعقيدته.
رابعاً_ دوافع نفسية:
أ_ الخلل النفسي، المتمثلة في العجز عن الملاءمة بين ممارسة التدين في مراتبه العالية والتعامل مع مخرجات الحضارة المادية الشهوانية المعاصرة، وما يوفره الاسلام من إمكانات للتعامل مع ضعف النفس البشرية، فإن الكثيرين يختارون التضحية بالتدين عبر رفض المنظومة الدينية بأكملها وتلبيه الشهوات المتاحة بيسر كبير في هذا العصر.
ب_ اضطراب الشخصية، وهذه الاضطرابات تؤدي بالشخص في تقلب مشاعره وعلاقاته وانجازاته ومعتقداتها، ولذلك يكون هذا الشخص متقلب في معتقداته الدينية فتجده متطرقاً دينياً أحياناً ونجده في تارة أخرى علمانياً أو ملحداً.
ت_ الأمراض النفسية، مثل الفصام والاضطراب الوجداني واضطرابات التوافق، وهذه الاضطرابات تؤثر في تفكير الشخص ومشاعره وعلاقاته بالناس والحياة، وقد تجعله يتوجه في بعض الاحيان إلى اعتناق أفكار مخالفة لعموم الناس، وعلى الجانب الأخر قد تدفع هذه الحالات صاحبها لمزيد من التدين كنوع من الدفاع ضد التفكك أو القلق أو الخوف.(22)
آثار الالحاد:
يترك الالحاد آثار مدمرة في سلوك الإنسان وفي اخلاق الأمم ونظامها الاجتماعي، ومن هذه الآثار:
1_ القلق والصراع النفسي، أن أول الآثار التي يخلفها الالحاد في نفوس الأفراد هو القلق والاضطراب والصراع النفسي، ولما كان الالحاد عقيدة الجهل، لأنها تقوم على افتراض عدم وجود الله، فأنها لا تقدم شيئاً يخرج هذا الإنسان من الحيرة والقلق، ويبقى لغز الحياة محيراً للإنسان وتبقى رؤية الظلم والمصاعب التي يلاقيها البشر في حياتهم كابوساً يخيم على النفس ويبقى الالحاد عاجزاً عن فهم غاية الحياة والكون، ولا يقدم للإنسان إلا مجموعة من الظنون والافتراضات لا تقنع عقلاً.
2_ الأنانية الفردية، كانت النتيجة الحتمية للقلق النفسي والخوف من الأيام هي اتجاه الإنسان نحو الفردية والأنانية واتجاه الإنسان لخدمة مصالحه الخاصة وعدم التفكير في الآخرين، وبذلك أنطلق الناس نحو شهواتهم وأهملوا في سبيل ذلك العطف والاحسان والعناية بالآخرين.
3_ فقد الوازع والنزوع إلى الاجرام، لأن الالحاد لا يربي الضمير ولا يخوف الإنسان من إله قوي قادر يراقب تصرفاته واعماله في هذه الأرض، فإن الملحد ينشأ غليظ القلب عديم الاحساس وفقد الوازع الذي يردعه عن الظلم ويأمره بالإحسان والرحمة، بل على العكس من ذلك فإن الالحاد يعلم اتباعه أنهم وجدوا هكذا صدفة ولم يخلقهم خالق، أو أنهم خلقوا أنفسهم وأنهم حيوانات أرضية كسائر الحيوانات التي تدب على الأرض، وبذلك يغلظ احساسهم ويتنامى شعورهم بالحيوانية والانحطاط ويتجهون إلى اثبات ذواتهم بالإغراق في الشهوات وملذاتهم، وإذا منعتهم ظروفهم المعاشية أو القوانين الوضعية البشرية عن بلوغ غاياتهم واهدافهم الحيوانية، فإنهم يقومون بالتغلب على تلك الظروف وذلك أما بالحيلة والمكر، وأما بالقوة والغلبة وفي كل الأمرين لا يجد الإنسان الملحد رادعاً داخلياً يردعه، لأنه لا يخاف رباً ولا يرجو حساباً ولا يبقى أمام الملحد من وازع إلا بالقانون البشري أو ظروفه الواقعية وهذه أمور يمكن التغلب عليها بصور كثيرة وخاصة في المجتمع المعاصر الذي تفنن الإنسان فيه في طرق الأجرام والتهرب من القوانين.
4_ هدم النظام الاسري، كان للإلحاد آثاراً مدمرة في الحياة الاجتماعية للإنسان، فالبعد عن الله لم يكن من آثاره تدمير النفس البشرية، وإنما كان من لوازم ذلك تدمير المجتمع الإنساني وتفكيكه، وذلك أن النظام الاجتماعي لا يكون صالحاً سليماً إلا إذا كانت اللبنات التي تشكل هذا النظام صالحة سليمة، فالأسرة هي الخلية الأولى من البناء الاجتماعي وبفسادها لا شك يفسد النظام كله، ولما كانت الاسرة تقذف إلى المجتمع كل يوم بلبنات فاسدة وتأتي هذه اللبنات الفاسدة وتأخذ مكانها في الهرم الاجتماعي الكبير، والمجتمع الحديث في ظل الالحاد اصبح شبيهاً بمجتمع الغابة الذي يحاول كل حيوان فيه أن يفترس الآخر وبهذا يلجأ الضعيف إلى التخفي والخداع والنفاق ويلجأ القوي إلى البطش والقسوة والعنف، وهكذا في ظل الالحاد وعدم مراقبة الله تتحول المجتمعات إلى مستنقع آسن للرذيلة والفجور، وتصبح الجريمة عملاً يومياً ويصبح التحايل على القانون واستغلال النفوذ وظلم القادر للضعيف ونفاق الضعيف أمام القوي خلقاً وديناً ومنهجاً جديداً تسير عليه المجتمعات المنحلة البعيدة عن الله سبحانه وتعالى.
5_ الاخلال بالتوازن في حياة الانسان، لا يستطيع الإنسان أن يحافظ على فطرته التي فطر الله عليها في احسن تقويم، إذا أبتعد عن سبيل الله، بل أنه عندئذ يفقد توازنه، ذلك أن الإيمان هو الذي يحفظ التوازن.
6_انهيار القيم وخراب المجتمعات، أن الالحاد في حقيقته ليس معضلة وجودية فحسب، بل هو معضلة أخلاقية تمتد بآثارها الكارثية في كل اتجاه حتى تتمكن من تسميم الحياة و تلوينها بالسواد، فالملحد حين انكر وجود الله قتل كل وازع ديني، وحين احتقر المجتمع وكرهه ضرب بكل اعرافه وقيمه عرض الحائط، فلم يبقى ما يمنعه من اطلاق العنان لغرائزه البهيمة بعدما تهاوى أمام عينيه سياج المرجعية الاخلاقية بصورة نهائية وانحطت معالم الخط الفاصل بين الخطأ والصواب والحرام والحلال والحسن والقبيح، فعندما تضع الدارونية كقيمة معيارية للصواب والخطأ، فإننا حتماً داخل غابة حيث القوة هي الحق، وحيث المكر والقسوة والخداع هي اسس بقاء الفرد والمجتمع، فالإلحاد قارب أن يجعل من الإنسان أحقر حيوان، وتشيع في أدبيات الالحاد آراء مقيته وممارسات في غاية الشذوذ، لذلك نرى ريتشارد دوكينز يؤيد الاغتصاب ويدافع عن الخيانة الزوجية باعتبارها سلوكاً طبيعياً، لذلك وضع جون لوك مبدأ التسامح وربطه بالدين فيقول: " لا يمكن التسامح على الاطلاق مع الذين ينكرون وجود الله، فالوعد والعهد والقسم من حيث هي روابط المجتمع البشري ليس لها قيمة بالنسبة للملحد، فأنكار وجود الله حتى لو كان بالفكر فقط، يفكك جميع الاشياء". وامتداداً لهذه النظرة العبثية للوجود تفقد الاشياء قيمتها وتصبح حياة الناس رخيصة، ويمتلئ الإنسان بالعدوانية على حد وصية نيتشه" تخلص من الضمير ومن الشفقة والرحمة تلك المشاعر التي تطغى على حياة الإنسان الباطنية، اقهر الضعفاء واصعد فوق جثثهم". ولهذا فعادة ما يتسم الملاحدة بالقسوة المفرطة والوحشية حينما يتسلمون زمام الحكم، وقد شهد التاريخ أن أشد الحكام عنفاً وأكثرهم دموية في التاريخ الإنساني هم من الملاحدة من فرعون إلى ستالين وهتلر وغيرهم الكثير، وهكذا استطاع الإلحاد والبعد عن الله سبحانه وتعالى أن يحول المجتمع الإنساني كله إلى مجتمع بغيض جداً يقوم على الظلم والقهر والنهب والخوف الدائم من الدمار والخراب وهذا بدوره يؤدي إلى تدمير نفس الإنسان المعاصر وهروبه الدائم من واقعه، ولذلك انتشرت المخدرات والمهدئات والإغراق الجنسي، وكذلك دفعت هذه السياسات العالمية الفرد إلى مزيد من الأنانية وحب الذات والحرص على المال بكل سبيل وطلب النجاة لنفسه فحسب، والعيش ليومه فقط وهكذا خلق الإلحاد الدوامة المعاصرة التي تلف الإنسان في عصره الراهن عصر القلق والأنانية والإجرام والفوضى.
7_ الاجرام السياسي، لعل أعظم آثار الالحاد هو آثاره في السياسة العالمية، ونظام العلاقات بين الدول، وذلك أن الاخلاق المادية الالحادية التي جعلت قلب الإنسان يمتلئ بالقسوة والأنانية دفعت الإنسان إلى تطبيق هذه القسوة والأنانية في مجال العلاقات السياسية العالمية، ولذلك الدول الاستعمارية تلجأ إلى وسائل خسيسة في استعباد الشعوب الضعيفة والحصول على خيراتها ونهب ثرواتها، وبلادنا الاسلامية بوجه عام والعربية بوجه خاص، عانت كثيراً من الالحاد، فهي دائماً تحت التهديد بالقهر والتدخل العسكري، كلما حاولت دولنا الاسلامية أن تحصل على شيء من حقوقها، وهكذا استطاع الالحاد أن يحول المجتمع الإنساني إلى مجتمع يقوم على الظلم والقهر والنهب والخوف الدائم من الدمار والخراب، وهذا بدوره يؤدي إلى تدمير نفس الإنسان المعاصر وثروته الدائم من واقعه، ولذلك انتشرت المخدرات والاغراق الجنسي، وكذلك دفعت هذه السياسات العالمية الفرد إلى مزيد من الأنانية وحب الذات والحرص على المال بكل سبيل وطلب النجاة لنفسه فحسب، والعيش ليومه فقط وهكذا خلق الالحاد الدوامة المعاصرة التي تلف الإنسان في عصره الراهن عصر القلق والأنانية والأجرام والفوضى.(23)
علاج ظاهرة الإلحاد:
بعد أن عرفنا ظاهرة الإلحاد، وعرفنا أسبابها، وشرحنا آثارها المدمرة في نفس الإنسان، ومجتمعه، وفي العلاقات السياسية العالمية أيضاً نأتي الآن إلى كيفية علاج هذه الظاهرة:
جعل الإسلام دعوته تبدأ من توحيد الله والإيمان به والإقرار أنه إله الكون وخالق الوجود وجعل الهدف الأول بل والأخير للرسالات السماوية جميعاً هو إقرار هذه القضية العظيمة من قضايا الدين قال تعالى: "ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، سورة النحل، من الآية 36". وقال تعالى: "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلوات، ويؤتوا الزكاة، وذلك دين القيمة، سورة النحل، الآية 5". وجعل الله سبحانه وتعالى الهدف الأول من وجود الإنسان على هذه الأرض هو أن يعبد الله "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، سورة الذاريات، الآية56". وبهذا جعل الدين الإسلامي هدف الإنسان على الأرض أن يعرف ربه سبحانه وتعالى ويوحده، ويعبده وحده لا شريك له، وقد أبان الله هذه القضية وأظهرها ودلل عليها بكل دليل حتى لا يترك فيها شكاً ولا ريباً لأحد فأقام سبحانه وتعالى من آياته العظيمة في خلق السموات والأرض والناس ما يرشد العباد إلى خالقهم العظيم، ويدلهم على ربهم القدير سبحانه الذي أحسن كل شيء خلقه وأمرهم أن يتفكروا في خلق السموات والأرض، وفي خلق أنفسهم، وتعهد سبحانه أن يرى العباد من آياته في الآفاق ما يحملهم حملاً على هذه القضية كما قال سبحانه وتعالى: "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، سورة فصلت، من الآية 53". والأدلة الكونية المشاهدة ليست هي الأدلة الوحيدة التي نصبها الله للدلالة عليه، بل إن الله أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ومؤيدين من قبله بالأدلة والبراهين العظيمة على وحدانية الله ، وأنه خالق الكون و رب العالمين المستحق وحده للعباد، ولقد أتى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بوصف تفصيلي بليغ لأسماء الله صفاته حتى يعظم الرب سبحانه أكمل تعظيم ويعبد على الوجه الأمثل، وهكذا أصبحت الأدلة السمعية التي جاءت بها الرسل مكملة ومتممة للأدلة البصرية العقلية التي نصبها الله في هذا الكون الفسيح وليس هذا فقط بل جعل الله شريعة الإسلام وعباداته جميعاً دالة على الله داعية للتوحيد حتى يصبح المسلم في كل عمل من أعماله موحداً ذاكراً لهذه الحقيقة العظيمة والصلاة والصيام والزكاة والحج شرعت جميعها لتعرف الله وتدل عليه وتشعر المؤمن بقربه من عباده واطلاعه عليهم ولذلك اشترط فيها جميعاً إخلاص النية لله وتعلق القلب أثناء فعلها بالله، وشغل اللسان وقت فعلها بذكر الله والدلالة عليه، فإذا عرفنا أن المسلم يمارس الصلاة خمس مرات في كل يوم وليلة وجوباً علمنا تبعاً لذلك أن المسلم لا بد وأن يظل ليله ونهاره ذاكراً لربه منيباً إليه داعياً له، وهذا كله ليظل بعيد تماماً عن الإلحاد بالله والكفر به، وهكذا أصبح الإسلام منهجاً وطريقاً للتوحيد والصلة الدائمة بالله والبعد الدائم عن الإلحاد بل عن كل ما يقطع صلة العبد بربه، وقد جعل الإسلام الهدف الدنيوي الأرضي لرسالته هو إقامة العدل في الأرض وإسعاد الإنسان عليها، ولذلك وجه الإسلام إلى عمل الخير وأوجب على المسلمين جميعاً الدعوة إليه كما قال تعالى: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون، سورة آل عمران، الآية 104". وأمر الإسلام أتباعه أيضاً بالعدل والإحسان مع كل الناس حتى مع المشركين والكافرين، والصبر على أذاهم إن كان في هذا خيراً ومصلحة، وجاء الإسلام أيضاً بالبر والإحسان والرحمة بالوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وكل محتاج، وجعل للجار حقوقاً على جاره، وللصديق حقاً على صديقه وكذا للصاحب والزميل، بل لكل مسلم على مسلم حقوقاً كرد السلام، وإجابة الدعوة وعيادة المريض، واتباع الجنائز، ونهى عن ظلم المسلم واحتقاره، وبهذه الروح الطيبة التي يخلقها الإسلام في نفوس أتباعه ويغرسها فيهم ينشأ المسلم الطيب القلب العلي الهمة نقي السريرة، فإذا توجه المسلم في كل ذلك نحو ربه مراقباً لله عاملاً لمرضاته، مربداً وجهه كان أبعد الناس عن الإلحاد والكفر والزندقة، أقرب الناس إلى ربه وخالقه ومولاه لأن أعماله وأقواله جميعاً ستكون عبادة خالصة، وسيكون قلبه دائماً وأبداً متصلاً بربه ذاكراً له شاكراً لنعمته كما قال تعالى: "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين، سورة الانعام، الآية 162_163".(24)
هناك بعض الوسائل التي تساعد في علاج الالحاد:
1_على المستوى الأفراد والاسر، وذلك بتحصين الإيمان، والتمسك بالاعتدال والوسطية وانتهاج التفكير الايجابي وتعزيز روح الحوار في الاسرة، ومعالجة المشكلات التي تمس هذه القضية، وأخذ العلم من مصادره الحقيقية.
2_على مستوى الخطاب الديني، وذلك بالتزام الخطاب المعتدل، وتعزيز ركائز الإيمان والعقيدة السليمة وابراز محاسن الاسلام وكماله، والتعدي لمظاهر تشويهه من قبل المتطرفين والارهابين، وتصحيح المفاهيم المغلوطة حول العلاقة بين الدين والعلوم الطبيعية، والتصدي للشبهات بالحجة والتصور السليم، وبناء الجسور مع الاجيال الناشئة وتجديد لغة الخطاب وتقديم المادة العلمية والوعظ بأسلوب متميز ووفق معايير تراعي المعاصرة وتواكب التحديات.
3_على مستوى الجامعات، وذلك بتأهيل طلبة العلم لمواجهة هذه المشكلة بالطرق السديدة، ووضع برامج لأطروحات الماجستير والدكتوراه تعني بجوانب هذا الموضوع من كافة أبعاده، وتواكب ما يتجسد حوله لإثراء المكتبة العربية والاسلامية وتزويد القراء بالتصانيف المميزة.
4_على المستوى المثقفين والاعلاميين، وذلك من خلال التوعية بخطورة هذه المشكلة، وبيان مفاسدها وعمل البرامج والمبادرات التي تعني بهذا الأمر والاستعانة بالمتخصصين فيه، والتزام الثقافة الايجابية والاعلام الهادف.
5_ على مستوى الدول والقيادات، وذلك عبر مسارات عدة منها، نشر التنمية والازدهار ومكافحة الفقر والتخلف، وسن وتطبيق القوانين التي تكافح الالحاد ودعم الخطاب الديني المعتدل.
6_ تظافر الجهود على مستوى المجتمع الاسلامي، وذلك بإنشاء مجمع اسلامي فعال يعني بهذه المشكلة وغيرها، ويجمع بين علماء الشريعة وعلماء الاجتماع وغيرهم من العلماء ذات الاختصاص للرد على شبهات الملحدين.
7_ العناية بالتربية الاخلاقية، وعلى جميع المستويات المجتمعية والاسرية والتعليمية، فمسؤولية التربية الصالحة والتوجيه الاخلاقي تقع على كاهل المؤسسات التعليمية والاجتماعية والاسرة أن يقوموا بواجبهم في تربية الجيل على الإيمان والخير والهدى وتحذيرهم من الكفر والفسوق والعصيان.(25)
النتائج:
إنّ أخطر نتائج الإلحاد هي العبث، العبث الذي يشعر به الإنسان عندما يشعر بأن مصيره هو شخصياً، ومصير كل من يحبه ويعزه هو الفناء، وعندما تتكون لدى الإنسان قناعة بهذه العبثية، في كثير من الأحيان يكون لها عواقب سيئة كبيرة، فهي قد تدفع بالإنسان إلى اليأس والإحباط، طالما أنه محتوم المصير بالفناء، وقد تحوله إلى شخص لا مبال لا يكترث بالنجاح ولا يفكر بالأفضل سواء على المستوى الفردي أو الجمعي، ولا يأبه لمشاكل واقعه أو معاناة غيره أو عيوب مجتمعه، طالما أن كل ذلك سينتهي ويفنى، وهذه اللامبالاة قد تذهب باتجاه أخطر وتلتقي مع الأنانية والعدوانية، وهنا سيحاول الإنسان أن يغتنم وجوده المؤقت ليحصل على أكبر قدر من المكاسب والمتع، وتتضخم لديه الأنانية، فلا يبالي بأي شر يلحقه بغيره أو يتسبب به لسواه، وفي أقل الحالات سوءاً قد يتحول هذا الإنسان إلى كائن استهلاكي فردي يهتم بمتطلباته الاستهلاكية الخاصة وحسب.
التوصيات:
1_ يتوجب على رجال الدين أن يختاروا نوع الخطاب الشرعي الذي يخاطبون به الشباب، وعليهم أن يجدوا في هذا الخطاب دون التنازل عن الثوابت أو الوقوع في المحظورات.
2_اهتمام كبير من الوزرات والمؤسسات الحكومية والتعليمية والاجتماعية بإقامة الدورات الشرعية والتدريبية وورش العمل وتعرف المجتمع بالسبل الصحيحة التي يسلكونها لتلقي العلم والثقافة.
3_ايجاد منظومة دينية تحصينيه تتبناها جهة مسؤولة ضد ظاهرة الإلحاد لمواجهة الانحرافات وتحديد نقاط الضعف وأسباب الإلحاد عن طريق وضع برامج تحصينيه وبرامج تعديلية لذلك.
4_التأكيد باستمرار على عقد الندوات والحلقات النقاشية لمواجهة الإلحاد للشباب في الكليات والجامعات برعاية المؤسسات العلمية وبالتعاون مع المؤسسات الدينية والعتبات المقدسة.
5_التشجيع على اجراء ابحاث و دراسات تطبيقية وعملية تتناول موضوع الإلحاد وأسبابه وآثاره الاجتماعية على واقعنا العراقي وتحديد العلاجات اللازمة للحد من انتشاره والقضاء عليه ، وتقديم سيرة لبعض الشخصيات البارزة التي هجرت الإلحاد من خلال اعداد الدراسات عنهم.
6_توعية المجتمع بخطر الإلحاد عبر وسائل الإعلام المختلفة.
الهوامش:
1_ينظر عبدالرحمن عبدالخالق: الالحاد( اسباب هذه الظاهرة وطرق علاجها)، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية، الرياض، ط2، ص5_6.
2_ينظر سوزان المشهراوي: الالحاد المعاصر( سماته وآثاره واسبابه وعلاجها)، مجلة كلية الدراسات الاسلامية، جامعة أم القرى، العدد35، ص980.
3_ينظر المصدر نفسه، ص962_963_964.
4_ينظر زينب عبدالعزيز: الالحاد واسبابه(الصفحة السوداء للكنيسة)، دار الكتاب العربي، دمشق_ القاهرة، ط1، 2004، ص7.
5_ينظر عمرو شريف: وهم الإلحاد، الازهر، القاهرة، 2013، ص27.
6_ينظر سوزان المشهراوي: الالحاد المعاصر، ص980_981_982.
7_ينظر المصدر نفسه، 984_985_986.
8_ ينظر عمرو شريف: وهم الإلحاد، ص26.
9_ينظر المصدر نفسه، ص3_4_5.
10_ينظر سوزان المشهراوي: الالحاد المعاصر، ص988.
11_ينظر عمرو شريف: وهم الإلحاد، ص13.
12_ينظر فرج الله عبدالباري: العقيدة الاسلامية في مواجهة التيارات الالحادية، دار الافاق العربية، ص43.
13_ينظر عمرو شريف: وهم الإلحاد، ص59.
14_ينظر عبدالله بن صالح العجيري: ميليشيا الإلحاد( مدخل لفهم الإلحاد الجديد)، تكوين للدراسات والابحاث، السعودية، ط2، 2014، ص21.
15_ينظر المصدر نفسه، ص23_24.
16_ينظر احمد خيري العمري: لا شيء بالصدفة( العلاقة الممكنة بين الإيمان ونظرية التطور)، عصير الكتب للنشر والتوزيع، ص43.
17_ينظر عبدالله بن صالح العجيري: ميليشيا الإلحاد، ص17.
18_ينظر عمرو شريف: وهم الإلحاد، ص57. وأيضاً ينظر احمد خيري العمري: لا شيء بالصدفة، ص142وص147.
19_ينظر عمرو شريف: وهم الإلحاد، ص30_31.
20_ينظر سوزان المشهراوي: الالحاد المعاصر، ص992. وأيضاً ينظر عبدالله بن صالح العجيري: ميليشيا الإلحاد، من ص28إلى ص43.
21_ينظر عبدالرحمن عبدالخالق: الالحاد، من ص8إلى ص17.
22_ينظر سوزان المشهراوي: الالحاد المعاصر، من ص973إلى 979.
23_ينظر المصدر نفسه، من ص997إلى ص1001. وأيضاً ينظر عبدالرحمن عبدالخالق: الالحاد، من ص18إلى ص31.
24_ينظر عبدالرحمن عبدالخالق: الالحاد، من ص32إلى ص42.
25_ينظر سوزان المشهراوي: الالحاد المعاصر، من ص1002إلى ص1005.



#حيدر_جواد_السهلاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاقتصاد في فلسفة الإمام الشهيد محمد باقر الصدر
- النظام الاجتماعي في فلسفة الإمام الشهيد محمد باقر الصدر
- العالم الذي قهر الإعاقة ستيفن هوكينج
- مفهوم الهوية في فكر عبدالجبار الرفاعي
- فرسان العراق في حرب 6أكتوبر
- مفهوم الولاء في فلسفة جوزايا رويس الأخلاقية
- المعوقات الاجتماعية لمشاركة المرأة العربية في صنع القرار الإ ...
- الدين والتدين في فكر عبدالجبار الرفاعي
- موقف عبدالجبار الرفاعي من التربية
- موقف عبدالجبار الرفاعي من الاستبداد
- الدولة في فكر عبدالجبار الرفاعي
- عبدالجبار الرفاعي سيرة وفكر
- البرلمان في فلسفة جون ستيوارت مل السياسية
- مفكر بعقل فقيه، ماجد الغرباوي
- بيل جيتس
- فلسفة الثورة عند سيد الشهداء الحسين بن علي(ع)
- الطبيب الثائر، جيفارا
- زها حديد وفن العمارة التفكيكي
- دجلة
- العمل التطوعي ، الثقافة الغائبة


المزيد.....




- من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا ...
- ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا ...
- قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم ...
- مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل ...
- وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب ...
- واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب ...
- مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال ...
- -استهداف قوات إسرائيلية 10 مرات وقاعدة لأول مرة-..-حزب الله- ...
- -التايمز-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي لن ...
- مصادر عبرية: صلية صاروخية أطلقت من لبنان وسقطت في حيفا


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حيدر جواد السهلاني - الظاهرة العبثية الإلحاد