كتب
- العراق وعبد الناصر
- - مناقشات نقدية في مذكرات امين هويدي من أجل الكشف عن حقائق تاريخية جديدة –
- د. سيار الجميل – ( مفكر عراقي صاحب تفكيك هيكل )
- الحلقة السادسة
- القاهرة وبغداد ومقاربة للحقائق بعيدا عن تصفية الحسابات
- لماذا أخفقت سياسة إصدار قرارات اشتراكية في العراق علي النسق المصري؟
- مصر كانت تنظر إلي أمنها في إطار سياسة عربية متكاملة بوجود نظام عراقي صديق
لقد قدم الأخ أمين هويدي آراؤه التي أظنها صائبة في الرئيس العراقي عبد السلام عارف، كما قدم ملخصا لوضعية نظام الحكم وظروفه عهد ذاك.. ولكن لا ادري هل كان هذا رأيه في الرجل خلال أيام العمل معه سفيرا لبلاده عنده، أم جاء رأيه متبلورا بعد مضي هذه السنوات الطوال من تجارب السفير هويدي السياسية. يقول الرجل في عبد السلام عارف: (كانت التيارات السياسية في العراق جارفة وعاتية، والرجل لم يعمق جذوره بعد في دهاليز السلطة ودروبها. والقتال مع الأكراد في الشمال كان لا يزال مستعرا يمتص ويشتت طاقة الحكومة المركزية ويشكل استنزافا للجهود والأموال، وإيران تحرك أنصارها في بعض أوساط الشيعة في الجنوب وتغذي الأكراد في الشمال، وحكم البعث في سوريا يتآمر بإصرار علي الحكم في بغداد في محاولات متتابعة لعله ينجح في إسقاطه) (البيان، العدد نفسه).
ويمكنني أن أضيف ما كان السفير هويدي قد تناسي تسجيله: الانشقاقات في التيار القومي وولادة جماعات وكتل من العسكريين والمدنيين في الداخل، وأيضا، فشل السياسة الاقتصادية التي جازفت بإصدار القرارات الاشتراكية في العراق علي النسق المصري تماما من دون معرفة أخطار ذلك ومن دون معرفة اختلاف الأوضاع الاقتصادية في العراق عن مصر.. وقد سببت تلك القرارات والتطبيقات أزمة سياسية حادة في كل من الدولة والمجتمع، فقادت إلي تباينات واسعة في التيار القومي، أو بالأحري بين الناصريين من طرف وبين القوي القومية الأخري! ولا ادري لماذا استثني الأخ هويدي دور مصر في الأحداث العراقية السياسية والاقتصادية.. وصولا إلي قيام محاولة انقلابية فاشلة سيقوم بها الناصريون كما سيأتي تحليل ذلك بعد قليل.
المهم أن الأخ هويدي يبرر دور مصر وسياستها في العراق بقوله: (كان الموقف صعبا رهيبا يحتاج إلي إسناد، والقاهرة بدورها تنظر إلي أمنها في إطار سياسة عربية متكاملة بوجود نظام صديق في العراق يؤيد موقفها في الساحة العربية ويقفل بابا يمكن أن يفتح وهي مشغولة في مسرح اليمن. ويحد من عداوة النظام البعثي في سوريا، ويجنب حركة القومية العربية الانحسار. وبهذا كان التجاوب مع طلب العراق أمرا تقتضيه ظروف الجمهورية العربية المتحدة..) (البيان، العدد نفسه). وهنا لا ادري ماذا يقصد الأخ هويدي بالنظام الصديق لمصر في العراق: هل هو نظام عبد السلام عارف نفسه الذي بدا واضحا انه لا يؤيد عبد الناصر في سياسته، أم نظام سياسي عراقي ناصري يؤمن موقف مصر وحدويا (سياسيا واقتصاديا) في الساحة العربية والدولية؟ واعتقد أن أي عاقل سوف لا يقبل بكل التبريرات التي تقول بحيادية مصر إزاء القضايا العربية علي عهد عبد الناصر! وكنت أود من الأخ هويدي أن يضع النقاط فوق الحروف، وخصوصا بالنسبة للأجيال والمستقبل وللمؤرخين والدارسين لا بالنسبة للساسة أو المتحزبين من اجل إرضاء العواطف وكأننا لا نعرف مكانة مصر وقت ذاك وادوارها في كل مكان من الأرض العربية. نريد أن نعرف موقف مصر الحقيقي إزاء أزمة عبد السلام عارف والتيار الناصري في العراق!
ما أشجع السياسي عندما
يقول الحقيقة للأجيال والتاريخ؟
إنني افهم جيدا واعتقد ان القراء الكرام جميعا يدركون أيضا لماذا لا يستطيع الأخ امين هويدي أن يقدم التبريرات ويخالف حقائق الأمور بعض الأحيان.. انه يفعل ذلك أساسا كونه جزء من نظام سياسي ناصري لا يريد أي أحد أن يكيل ضده الاتهامات.. وأنا بدوري أقول: ما أشجع السياسي عندما يقول الحقيقة ويعترف بها، والرئيس جمال عبد الناصر نفسه كان قد اعترف بالخطأ بعد الهزيمة العام 1967 وتنازل عن السلطة مسجلا موقفا رائعا للتاريخ. وعليه، فلابد أن تتعلم طواقم عبد الناصر من معلمها درسا وتكتب الحقائق مهما كانت! وعليه، فإنني اختلف والأخ هويدي عندما يقول: (لم تنس القاهرة ما لاقته من نظام الحكم المعادي في العراق أيام نوري السعيد وعبد الكريم قاسم، فلم تنس أن الحكم المعادي في بغداد اجبرها علي خوض معركة ضد حلف بغداد. وكان المحرك والمؤيد للعدوان الثلاثي علي مصر عام 1956 بعد تأميم قناة السويس، ولم تنس أن الحكم المعادي في بغداد اجبرها علي أن تواجه موقفا صعبا بعد حدوث الانفصال إذ أن حكم عبد الكريم قاسم ساعد الانفصال وأيده بل اسهم في التخطيط لحدوثه..) (البيان، العدد نفسه).
الحقائق والأحداث
أقول للأخ هويدي: لابد أن نتقي الله في الذي نطلقه من أحكام تاريخية كبيرة! ولابد أن نتذكر كلمة حق لابد أن تقال في رجال مضوا إلي دار الحق! ولابد أن نتثبت مما نقول ونكتب ونسجل وننشر علي الناس! ولابد لنا ان لم نعرف الحقائق والأحداث، أن نتعمق في قراءة التواريخ ومواقف الشخوص واوضاع الدول.. ومن ثم نحاول أن نطلق الأحكام من دون أن نجازف هكذا وبسهولة بتشويه الحقائق وكأن الأمر سهلا كالذي ألفناه جائرا سابقا في المانشيتات الصحفية والحروب الإعلامية والبيانات السياسية وهياج الإذاعات الكاذبة! أقول هذا وأنا اسأل الأخ هويدي: إذن هي تصفية حسابات قديمة أم تغطية الشمس بغربال؟ لابد أن نكون واثقين ومتأكدين من إطلاق التهم السريعة الجاهزة وارضاء لمن؟ لقد مضي الزعماء القدماء إلي دار الخلود.. متأكدين أن نكون وخصوصا في مسائل تاريخية حساسة مضي عليها قرابة نصف قرن من الزمن.. علينا أن لا نسقط كل التبعات السياسية في الماضي ونصوغها في أحكام تاريخية قاطعة اليوم لكي نربي أولادنا علي معلومات مشوهة. ربما كنت مؤيدا لك في العديد من ذاك الذي قدمته من معلومات، ولكن اختلف معك كثيرا في النتائج التي كتبتها.. ولا أريد أن ابرر أبدا ما فعلته الأنظمة السياسية العربية قاطبة ليس في العراق وحده، بل في كل أرجاء الوطن العربي الكبير في القرن العشرين.
ولكن إذا كنا ندين أنظمة الحكم السياسية السابقة في العراق باعتبارها كانت (معادية) لمصر علي عهدي الزعيمين نوري باشا وعبد الكريم قاسم، فالنظام في مصر لم يكن أقل عداء لهما، والمؤرخ الحصيف الذي لا يتأثر بعواطفه يدرك من الذي أثار العداء ومن الذي أذكي الحروب العربية الباردة! ومن هو ذاك الذي فتح النار واشعلها؟ ان الوثائق التاريخية المتنوعة تشير بمعلوماتها إلي أجوبة صريحة.. وقبل أن نشرع بإدانة نوري السعيد كونه اجبر مصر علي خوض معركة ضد حلف بغداد، علينا أن ندرك لماذا اتبع العراق سياسة مستقلة عن مصر والتي أثبتت الأيام مدي نجاحها أو فشلها! وقد عرف الجميع بعد هذه السنين ما هي ظروف العراق الداخلية والإقليمية قبل ظروفه العربية عندما اختار له سياسة عاداها من لم يدرك طبيعة العراق الجغرافية ومصالحه السكانية والإقليمية والدولية! وكان العدوان الثلاثي علي مصر العام 1956 قد سببه تأميم عبد الناصر لقناة السويس. فما علاقة العراق بالعدوان؟. أما مصر من طرف آخر لا تنس أن الحكم (المعادي) في بغداد علي عهد عبد الكريم قاسم قد اجبرها علي أن تواجه موقفا صعبا بعد حدوث الانفصال بينها وبين سوريا.. فإنني اسأل: ما دخل العراق في ذلك وان عبد الكريم قاسم كان مشغولا إلي حد أذنيه بمشاكل العراق الداخلية.. إنني كمؤرخ متواضع أتحدي من يأتيني بوثيقة رسمية واحدة تثبت ضلوع عبد الكريم قاسم في حركة الانفصال الذي حدث بين سوريا عن مصر.. علما بأنني لم اكن مؤيدا يوما لا لعبد الكريم قاسم ولا لغيره من حكام العراق في سياساتهم التي اتبعوها في حكم العراق المعاصر، ولكن لابد أن يدافع المرء عن الحق ويقول قولته، خصوصا وانني ابن العراق عشت ظروفه المتنوعة في العهد الجمهوري وقد سمح لي تخصصي ان اقرأ جملة هائلة من ادبياته التاريخية ووثائقه السياسية.
واقعة النفاصل
وليكن معلوما للتاريخ والأجيال بأن قاسما ليس له أي ضلع في عملية الانفصال بسوريا ولم يسهم في التخطيط لحدوثه ــ كما ذكر الأخ هويدي ــ، فلماذا يتم إلقاء التهم جزافا؟ وان هذا آخر ما كنت أتخيل قراءته وسماعه! ولنسأل الأخ هويدي: بربك الكريم من اسهم وساعد وخطط وتآمر علي نوري السعيد وعبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف وأخيه عبد الرحمن؟ من الذي دعم وساعد عدد من الانقلابيين العسكريين أمثال: عبد الوهاب الشواف وعارف عبد الرزاق وغيرهما؟ هل سمعنا أو قرأنا في يوم من الأيام أن نوري باشا أو عبد الكريم قاسم أو عبد السلام عارف قد خططوا لإحداث انقلاب عسكري أو دعم تآمر مدني في مصر ضد الرئيس جمال عبد الناصر؟
علينا أن نترفع قليلا عن إلقاء التهم جزافا، وليكن زعماؤنا السابقين مهما كانت توجهاتهم وأنظمة حكمهم ومهما كانت إيجابياتهم وسلبياتهم ونحن نقرأها ونحللها ونطلق الأحكام عليها بعيدة عن الهوس العاطفي أو السياسي أو الأيديولوجي.. علينا أن نكون حياديين وان نعطي لكل ذي حق حقه في التاريخ سواء أحببنا هذا القائد أم كرهنا ذلك الزعيم.
جريدة (الزمان)