أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - مَنْ يمتلك وسائلَ إنتاج المتخيَّل يمتلك السلطة















المزيد.....

مَنْ يمتلك وسائلَ إنتاج المتخيَّل يمتلك السلطة


عبدالجبار الرفاعي

الحوار المتمدن-العدد: 7888 - 2024 / 2 / 15 - 09:38
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


د. عبد الجبار الرفاعي
كلّما ابتعد الدينُ عن لحظة التأسيس لم يعد الواقعُ كافيًا لإشباع مخيِّلة الأتباع؛ لأنهم يرون الواقعَ ضحلًا واضحًا، لا لغز فيه، ولا يبوحُ بسرّ. الإنسانُ الديني مولعٌ بالمقدّس، ينجذب لما ينطوي عليه من حيرة وغموض وإبهام وسحر وأسرار، وينتهي ذلك إلى تضخّمِ المقدّس في المتخيَّل، وقوةِ حضوره في الحياة. الولادة الثانية للأديان في المتخيَّل تتشكل فيه الأديان على شاكلته. في المتخيَّلِ الديني يتشكّل المكانُ والزمان المقدّسان، وتتشكل صورةُ الشخصيات المقدّسة على وفق ما يختزنه المخيال، المكان والزمان المقدّسان يتوالدان ويتسعان ويتضخمان في المتخيَّل، وهما غير المكان المادي والزمان الفيزيائي، الخاضعين لكلِّ مشروطياتِ التاريخ الأرضية، وعواملِ إنتاجه وتوالده وصيرورته.
المتخيَّل موطنُ صناعة المعنى الديني، تتسع آفاقُ هذا المعنى ويتمدّد ويشتدّ، بنحوٍ يتجاوز آفاقَ وحدودَ ولادة الدين الأولى بكثير، وبالتدريج تطغى الصورةُ اللاحقة للدين الذي تشكّل في المتخيَّل وتتقلص صورتُه الأولى. قوةُ الفرد والجماعة بقوةِ الحضورِ في الواقع، والتطلعِ للمستقبل بوعيٍ علمي ورؤيةٍ مُلهِمة، وبقدرةِ المتخّيل على توليد المعاني الروحية والاخلاقية والجمالية في الحياة. المتخّيلُ المقيمُ في الماضي يأسرُ الإنسانَ بتشديده على مغادرة الواقع واتخاذ الماضي موطنًا. المتخّيلُ الذي ينسى الحاضرَ يجعل الإنسانَ يعيش حالةَ غفلة عن واقعه ويصادر عليه مستقبلَه.
مَنْ يمتلكُ وسائلَ إنتاج المتخيَّل يمتلكُ السلطةَ سواء أكانت روحية أو زمنية، ويمتلكُ التحكّمَ بحاضر الناس ومستقبلهم ومصائرهم في مجتمعاتنا. المتخيَّلُ الديني يُستغَل لإضفاء المشروعية على السلطة السياسية، ويعمل على تضخُّمِ هيمنتها وتغوّلها، ويُستثمَر لترسيخ السلطة الروحية وتمدّدها. في المتخيَّل يتوالد المقدّس ويتمدد، وينعكس مباشرة على حياة الإنسان ومواقفه وسلوكه وطريقة عيشه. المتخيَّلُ مؤثر بفاعلية قوية في بناء ثقافة الأفراد والمجتمعات، وتجذّرِ البُنى اللاشعورية في الوعي الفردي والجمعي، وتوجيه بوصلة مصائر المجتمعات وأقدارها التاريخية. للمتخيَّل الديني سلطةٌ واسعة على العقل في مجتمعاتنا. المتخيَّلُ الديني فضاء بلا أسوار، لا يصنع له الأسوارَ إلا العقلُ، فإذا نام العقلُ ينشط هذا المتخيَّلُ بفاعلياته القصوى، ويظل يضيف ويراكم ويكرّس ويجذّر المقدّسَ باستمرار، وربما ينتهي تغوّلُ سلطته إلى تغييب العقل وتعطيله نهائيًا. وحدَه العقل يستطيع معاندةَ المتخيَّل وعصيانه والتغلب على سلطته، لا يستردّ سلطةَ العقل إلا التفكيرُ النقدي الذي يعيد المتخيَّلَ إلى مجاله ويضعه في حدوده، ويعمل على توظيفه بشكلٍ فاعل في إنتاج العلوم والمعارف والثقافة والفنون والآداب والبناء والتنمية والتطلع للغد. إلا أن تمادي العقل بسطوته وطغيانه يمكن أن يُهمِّشَ المتخيَّل، وربما ينتهي إلى إسكات صوته، ويصادر على الإنسان منبعَ إلهام أساسي لآدابه وفنونه وثقافته ومعارفه وعلومه،كما حاولت ذلك تياراتُ العقلانية الصارمة والاتجاهاتُ العلموية والمادية في القرن التاسع عشر وما قبله.
تنشط المخيِّلةُ وتتضخم صورُها لحظةَ تخوض في عالَم المجردات، وتتدفق وتنبعث فاعليتُها لحظةَ تغوص في الوقائع التاريخية القديمة، وتحاول أن تتمثّل أحداثَ قصصٍ تنتمي إلى ماضٍ اندثرتْ معالمُه الأثرية، واختفى مكانُه وزمانُه وصورُه عن الأنظار. تعيد المخيِّلةُ ابتكارَ الصور في فضائها، وهو فضاءٌ رحب يتعاظم باستمرار، فتولِّد المخيِّلةُ الأحلامَ والأماني والرغباتِ المختلفة وحتى الأوهام، وما يصدر عن نرجسيات الهوية المتجذّرة في البُنى اللاشعورية، وما تختزنه من أوهام تفوّق هذه الهويةَ واصطفائها وقدراتها الاستثنائية الفذّة، وإن كانت تعيش واقعًا بائسًا يضجّ بالأمية والفقر والمرض، غير أنها تلجأ للذاكرة العتيقة والأمجاد الامبراطورية لأسلافها. تكرّر هذه الهوية بلا جدوى، لسنواتٍ طويلة تجنيدَ الإنسان، وما يمكن توظيفُه من طاقات في المجتمع، لإيقاد رمادِ نرجسية امبراطورية مندثرة، من دون أن تكترثَ هذه الهويةُ بهزائمها، ولا تقف عندها وتدرس أسبابَها وتكتشف ثغراتها، ولا تسعى أن تجرّب طريقةً بديلة في توكيد حضورها في الواقع وصناعة حاضرها ومستقبلها.
التمثلاتُ البشرية للأديان لا تقتصر على التعاطي مع الشخصيات الدينية في إطارها التاريخي، بل تحاول أن تتخطى ذلك لتخرجَها من عالمِها الأرضي وخصائصِها البشرية،كما يفعل أكثرُ مريدي المتصوفة وغيرُهم، الذين يغالون بشيوخهم فيخرجونهم من الزمان التاريخي الأرضي إلى زمانٍ مقدّس لاتاريخي. جلال الدين الرومي وأمثاله من الشخصيات الروحية عاشوا في الواقع كما يعيش غيرُهم من البشر في زمانهم، كانت لديهم احتياجاتُ كلِّ إنسان طبيعي.كانوا يأكلون ويشربون، ويفرحون ويحزنون، ويغضبون، ويضحكون ويبكون، ويصابون بالأمراض ويموتون. جلال الدين في متخيَّل المولوية والمتصوفة كائنٌ أسطوري، كلُّ كلماته لا نقاشَ فيها، تاريخُه يعلو على تاريخ الإنسان، آثارُه لا تصحّ إعادةُ غربلتها وتمحيصها، الحكايات المنحولة حول حياته الشخصية ومواقفه وسلوكه ينبغي التسليمُ بها وقبولُها كما هي، ولو كان المنطقُ العلمي يرفضها، ولا تقبلها بداهات العقل السليم. وهذه ظاهرةٌ موجودة في الأديان والمعتقدات المختلفة،كلُّ دين ينتج ذلك على شاكلة مجتمعه، وطريقة عيش ذلك المجتمع، وثقافته، ورؤيته للعالم.
الأنبياء والأولياء والصحابة والتابعون الذين عاشوا في الارض كانوا يمارسون حياتَهم واحتياجاتهم كما يفعل كلُّ إنسان. لا يكتفي بعضُ الناس بهذه الصورة للنبي "ص" بوصفه إنسانا يعيش مثل بقية البشر، يمتاز على غيره بالاتصال بالله عبر الوحي. هؤلاء تنتج أذهانُهم صورًا غير بشرية للنبي، فهو في نظرهم لا يأكل ولا يشرب، ولا يمشي في الأسواق، ولا يعيش مثل الناس، وغير ذلك. هذه الصورة تتضخم بمرور التاريخ، حتى يتم تجريد النبي بوصفه بشرًا من طبيعته، فيرونه ينتمي إلى ملكوت السماء، مقطوع الصلة تمامًا بالأرض، لا يشبه البشرَ في شيء، ولا يخضع للزمان والمكان والبيئة والتاريخ والثقافة، يتحول إلى كائنٍ مجرد لا يشبه الإنسانَ الأرضي، ولا يشبه ذلك النبيُّ الإنسانَ الذي كان بشرًا عاش في عصره مثل غيره. هذه أحدُ فاعليات المتخيَّل الديني في الأديان السماوية والأرضية المتنوعة.
في الدين غطاءٌ ميثولوجي، لكن حين يستهلك الغطاءُ المضمونَ، تخسر الأديانُ غاياتِها الروحية والأخلاقية والجمالية وتتبدّد أهدافُها القيمية والإنسانية. عبورُ أيِّ شخصيةٍ دينية من الواقعي إلى الميثولوجي، بل انقلابِها من كونِها حقيقةً إلى خيالٍ محض، لا حضورَ له في الواقع الذي عاشت فيه. وقتئذٍ تصير هذه الشخصيةُ مُنوِّمة بعد أن كان مُلهِمةً، مُخدِّرةً بعد أن كان مُوقِظة. وتنقلب أهداف الأديان بعد هربها إلى عالمٍ غير عالمها، عالم تخسر فيه رسالتَها.



#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المخيال الجمعي لا يخضع للعقل النقدي
- المخيلة منجم الابداع البشري
- ينفرد الإنسان بالعقل وبملكة الخيال
- الوجه نافذة الدخول إلى قلب الإنسان
- الكراهية ليست طارئة
- نمط وجودنا في الإنترنت ووسائل التواصل
- وسائل التواصل ليست شرًا مطلقًا
- لا علمَ بلا فلسفة
- مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث
- علي الوردي وفهم المجتمع في أفق رؤية ابن خلدون
- علي الوردي ومركزية الشعر في الثقافة العراقية
- القيم الكونية نسبية في تطبيقاتها لا في ذاتها
- مسرات القراءة ومخاض الكتابة
- قراءة فرديد لهيدغر في أفق فهم كوربن
- ‏ متعة تسوّق الكتب
- غواية اللغة: أحمد فرديد وطه عبد الرحمن
- كلما احترقت مكتبة انطفأ شيءٌ من نور العالَم
- مكتباتنا أرشيف ذكرياتنا
- الكتابة الأيديولوجية
- الكتابة في عصر الإنترنت


المزيد.....




- عيد الفطر في مدن عربية وإسلامية
- العاهل المغربي يصدر عفوا عن عبد القادر بلعيرج المدان بتهمة ق ...
- المرصد السوري يطالب بفتوى شرعية عاجلة لوقف جرائم الإبادة
- عبود حول تشكيلة الحكومة السورية الجديدة: غلبت التوقعات وكنت ...
- بقائي: يوم الجمهورية الإسلامية رمز لإرادة الإيرانيين التاريخ ...
- الخارجية الايرانية: يوم الجمهورية الإسلامية تجسيد لعزيمة الش ...
- الملك المغربي يعفو عن عبد القادر بلعيرج المدان بتهمة قيادة ش ...
- بكين: إعادة التوحيد مع تايوان أمر لا يمكن إيقافه
- العالم الاسلامي.. تقاليد وعادات متوارثة في عيد الفطر المبارك ...
- اتصالات هاتفية بين الرئيس الإيراني وقادة الدول الإسلامية


المزيد.....

- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - مَنْ يمتلك وسائلَ إنتاج المتخيَّل يمتلك السلطة