|
ي عروقي... دم الجائلين إلى البحر!
حنا مينه
الحوار المتمدن-العدد: 1748 - 2006 / 11 / 28 - 11:25
المحور:
سيرة ذاتية
تأتي الرياحُ التي من نحوِ أرضِكمُ حتى أقولَ رنَتْ مني بريّاها وقد تراخَتْ بها عنا نوىً قذفٌ هيهاتَ مصبحُها منّا وممساها من حبِّها أتمنَّى أن يلاقيَني من نحوِ بلدتِها ناعٍ فينعاها كيما أقولَ فراقٌ لا لقاءَ له وتضمرَ اليأسَ نفسي ثم تنساها ولو تموتُ لراعَتْني منيتُها وقلتُ يا بؤسُ ليتَ الدهرَ أبقاها يوم كنت حلاقاً، في حي القلعة في اللاذقية، كنت أطالع كثيراً، قل ألتهم الكتب التهاماً، وهكذا تعرفت إلى ثلاثة من الروائيين، هم الأبرز في القرن التاسع عشر في فرنسا. أول هؤلاء الثلاثة بلزاك، وأذكر روايته (الأب غوريو)، وثانيهما فلوبير وروايته الشهيرة (مدام بوفاري)، وثالثهما ستاندال وروايته (الأحمر والأسود)، التي قرأتها مترجمة إلى اللغة العربية، وشاهدتها فيلماً سينمائياً. وما يعنيني، الآن، من هؤلاء الثلاثة، أنهم استشرفوا انحطاط البرجوازية الفرنسية، وأعملوا فيها مباضعهم التي هي أحد من مباضع الجراحين في الأورام الخبيثة. حتى إن ماركس، في زمنه، إذا لم تخن الذاكرة، أفاد من بلزاك، في فضح امتلاكية البورجوازية الفرنسية، أكثر مما أفاد من كتب رجال الاقتصاد. بلزاك كان غزير الإنتاج، ففي شقته التي قليلاً ما خرج منها، كان غارقاً، حتى عنقه، بين الكتب والأوراق ومؤلفاته، فلوبير كان أستاذاً للقاص غي دي موباسان، وكان ينصحه، بالتروي، بعدم الاستعجال، ويقول له، من بين أقوال كثيرة: إذا لم تدخل الغابة في عينيك فلا تصف الغابة، مثلاً. وفي يوم جُنَّ فيه فلوبير، فجمع كل تذكارات النساء الباقية لديه، ومنها فردة حذاء، وأحرقها حتى آخرها وهو يقهقه ضاحكاً، مجنوناً، ثم يبكي لأنه أحرق كل تلك التذكارات. أما ستاندال، وهو ما أرغب في التوقف عنده، فقد فضح الجزويتيين فضحاً لا رحمة فيه، في روايته (الأحمر والأسود)، وكان، ثمة، نسب بيني وبينه، هو الماء، سواء كان البحر، أو نهر السين في باريس! في روايتي (الشراع والعاصفة) أسطورة جميلة، تقول إن ملك البحر وملكته، كانا على متن موجة شامخة، ورأت الملكة إنسان الأرض يتقدم نحوهما، متخطياً الأمواج، غير هيّاب منها، فقالت للملك: (انظر! إنسان اليابسة يرتفع إلى أعلى، فوق كل اللجج الزرقاء من حولنا). أجاب الملك: (لا تخافي، يا مليكتي من هذا الإنسان القادم إلينا، فعندما أعطي الأمر ستغرقه الأمواج العاتية!). أعطى ملك البحر الأمر للأمواج أن تصطخب وتغرق إنسان اليابسة، استجابت الأمواج للأمر، ومع ذلك ظل إنسان اليابسة يتقدم، يتقدم، والملكة خائفة تستجير، لأن القادم إليها يقصدها هي، كي يكون زوجها، أو عشيقها، أو حليةً في بيته الشبيه بقصر من قصور ألف ليلة وليلة. وقد فعل ملك البحر كل ما بوسعه لإغراق هذا القادم إليه، لينتزع، وفق شريعة اللجة الزرقاء، زوجته منه، إلا أن أوامر ملك البحر ذهبت مع الريح، واستطاع إنسان اليابسة أن يصل إليه، ويغرقه، ثم يحمل زوجته الملكة إلى قصره على اليابسة، وينحني أمامها قائلاً: (أنا طوع يدي مليكتي). فتجيبه الملكة: (من يغلب يستحق، خذني حلالاً إلى القصر الذي زجاجه، وأثاثه، من زرقة اللجة، وسأكون لك..) وكانت له. إنني، أنا البحار، الذي في المحيط الباسيفكي، تحدى العاصفة عنوة، وانتصر عليها اقتداراً، وجدت بين أوراقي لقية ذهبية، أحجارها لازوردية، هي عبارة عن قطعة نثر، منسوبة إلى ستاندال، صاحب رواية (الأحمر والأسود) لا أدري من ترجمها إلى اللغة العربية، ومن وضعها بين أوراقي، حين، في عز الشباب، كنت أتحدّى أسماك القرش، وهي كثيرة في ذلك المحيط، وأقفز إلى صخرة عالية، مجرح الصدر من نتوءات تلك الصخرة، دون أن أهاب القروش التي تهيجها رؤية، أو شميمة من بعيد! إليكم كلمات ستاندال، هذا الروائي الذي تحدى الجزويت، وهم، في القرن التاسع عشر، الحاكمون، أو الأمراء الذين يحكمون الحكام، بغير مبالاة، لأن بقايا محاكم التفتيش، في القرون الوسطى، كانت في أيدي كهنتهم، المالكون الكنائس وما فيها، ومن فيها، ومن يصدرون أحكام الموت على الذين يتمردون، أو حتى يُشتبه في أنهم سيتمردون، من كبار المفكرين، المنتصرين، بحق، على الخرافة والجهل، والمغادين بأرواحهم، مثل غاليلي أو سواه، الذي قال إن الأرض تدور، ولما سيق إلى الإعدام، وقف وصاح صيحته الشهيرة: (ومع ذلك تدور!). قال ستاندال: ليست هناك سوى طريقة واحدة نخدع بها أنفسنا، وهي ألا نخدع أنفسنا. إني أؤمن إيماناً راسخاً بأن أحد الشروط الضرورية للإنسان ليجعل من حياته فدية، هو أن يكون تقدمياً. إن صديق الحرية والعدالة يورث القرون المقبلة أثمن جزء من نفسه. إنهم دائماً في خط النار كفرسان الحرية! الطيبة هي محبة الروح، وبهذه الفضيلة نحب كل من يتألم، وكل ما هو تعيس، إنهم يؤمنون بإمكانية نقل رسالتهم، ولولا ذلك لما عبّروا عن شيء! أنا في كل مكان يوجد فيه الألم، وقد صليت نفسي على أقل دمعة! عندما يحل بنا المصاب، فليست هناك وسيلة واحدة لكسر شوكته، سوى أن نقابله بثبات ورباطة جأش! يتألم الإنسان، ويندهش للإحساسات الغريبة التي تنتابه، وفجأة لا يشعر بشيء، فقد مرت اللحظة، ومات! ـ آه يا سيدي، إن لحظة الموت هذه هي التي لا أستطيع أن أتحمل فكرتها! ـ ولكن، يا سيدتي، هذه اللحظة يشغلها ألم يكون أحياناً حاداً قليلاً، هذا الألم يشعر به الإنسان، وبالتالي فهو لا يزال حياً لم يمت، إنه ليس إلا مريضاً وبحالة خطرة. وفجأة لم يعد يشعر بشيء، فقد مات! الموت إذن ليس بشي، إنه باب مفتوح أو مقفول، يجب أن يكون إما هذا وإما ذاك، لا يمكن أن يكون شيئاً ثالثاً! إن عروقي يجري فيها دم الجائلين في البحر، وأبهج ما يبهجني أن أُبحر بقاربي ذات صباح ربيعي إلى موانئ مجهولة! في عروقي... دم الجائلين إلى البحر! بقلم: حنا مينه تأتي الرياحُ التي من نحوِ أرضِكمُ حتى أقولَ رنَتْ مني بريّاها وقد تراخَتْ بها عنا نوىً قذفٌ هيهاتَ مصبحُها منّا وممساها من حبِّها أتمنَّى أن يلاقيَني من نحوِ بلدتِها ناعٍ فينعاها كيما أقولَ فراقٌ لا لقاءَ له وتضمرَ اليأسَ نفسي ثم تنساها ولو تموتُ لراعَتْني منيتُها وقلتُ يا بؤسُ ليتَ الدهرَ أبقاها يوم كنت حلاقاً، في حي القلعة في اللاذقية، كنت أطالع كثيراً، قل ألتهم الكتب التهاماً، وهكذا تعرفت إلى ثلاثة من الروائيين، هم الأبرز في القرن التاسع عشر في فرنسا. أول هؤلاء الثلاثة بلزاك، وأذكر روايته (الأب غوريو)، وثانيهما فلوبير وروايته الشهيرة (مدام بوفاري)، وثالثهما ستاندال وروايته (الأحمر والأسود)، التي قرأتها مترجمة إلى اللغة العربية، وشاهدتها فيلماً سينمائياً. وما يعنيني، الآن، من هؤلاء الثلاثة، أنهم استشرفوا انحطاط البرجوازية الفرنسية، وأعملوا فيها مباضعهم التي هي أحد من مباضع الجراحين في الأورام الخبيثة. حتى إن ماركس، في زمنه، إذا لم تخن الذاكرة، أفاد من بلزاك، في فضح امتلاكية البورجوازية الفرنسية، أكثر مما أفاد من كتب رجال الاقتصاد. بلزاك كان غزير الإنتاج، ففي شقته التي قليلاً ما خرج منها، كان غارقاً، حتى عنقه، بين الكتب والأوراق ومؤلفاته، فلوبير كان أستاذاً للقاص غي دي موباسان، وكان ينصحه، بالتروي، بعدم الاستعجال، ويقول له، من بين أقوال كثيرة: إذا لم تدخل الغابة في عينيك فلا تصف الغابة، مثلاً. وفي يوم جُنَّ فيه فلوبير، فجمع كل تذكارات النساء الباقية لديه، ومنها فردة حذاء، وأحرقها حتى آخرها وهو يقهقه ضاحكاً، مجنوناً، ثم يبكي لأنه أحرق كل تلك التذكارات. أما ستاندال، وهو ما أرغب في التوقف عنده، فقد فضح الجزويتيين فضحاً لا رحمة فيه، في روايته (الأحمر والأسود)، وكان، ثمة، نسب بيني وبينه، هو الماء، سواء كان البحر، أو نهر السين في باريس! في روايتي (الشراع والعاصفة) أسطورة جميلة، تقول إن ملك البحر وملكته، كانا على متن موجة شامخة، ورأت الملكة إنسان الأرض يتقدم نحوهما، متخطياً الأمواج، غير هيّاب منها، فقالت للملك: (انظر! إنسان اليابسة يرتفع إلى أعلى، فوق كل اللجج الزرقاء من حولنا). أجاب الملك: (لا تخافي، يا مليكتي من هذا الإنسان القادم إلينا، فعندما أعطي الأمر ستغرقه الأمواج العاتية!). أعطى ملك البحر الأمر للأمواج أن تصطخب وتغرق إنسان اليابسة، استجابت الأمواج للأمر، ومع ذلك ظل إنسان اليابسة يتقدم، يتقدم، والملكة خائفة تستجير، لأن القادم إليها يقصدها هي، كي يكون زوجها، أو عشيقها، أو حليةً في بيته الشبيه بقصر من قصور ألف ليلة وليلة. وقد فعل ملك البحر كل ما بوسعه لإغراق هذا القادم إليه، لينتزع، وفق شريعة اللجة الزرقاء، زوجته منه، إلا أن أوامر ملك البحر ذهبت مع الريح، واستطاع إنسان اليابسة أن يصل إليه، ويغرقه، ثم يحمل زوجته الملكة إلى قصره على اليابسة، وينحني أمامها قائلاً: (أنا طوع يدي مليكتي). فتجيبه الملكة: (من يغلب يستحق، خذني حلالاً إلى القصر الذي زجاجه، وأثاثه، من زرقة اللجة، وسأكون لك..) وكانت له. إنني، أنا البحار، الذي في المحيط الباسيفكي، تحدى العاصفة عنوة، وانتصر عليها اقتداراً، وجدت بين أوراقي لقية ذهبية، أحجارها لازوردية، هي عبارة عن قطعة نثر، منسوبة إلى ستاندال، صاحب رواية (الأحمر والأسود) لا أدري من ترجمها إلى اللغة العربية، ومن وضعها بين أوراقي، حين، في عز الشباب، كنت أتحدّى أسماك القرش، وهي كثيرة في ذلك المحيط، وأقفز إلى صخرة عالية، مجرح الصدر من نتوءات تلك الصخرة، دون أن أهاب القروش التي تهيجها رؤية، أو شميمة من بعيد! إليكم كلمات ستاندال، هذا الروائي الذي تحدى الجزويت، وهم، في القرن التاسع عشر، الحاكمون، أو الأمراء الذين يحكمون الحكام، بغير مبالاة، لأن بقايا محاكم التفتيش، في القرون الوسطى، كانت في أيدي كهنتهم، المالكون الكنائس وما فيها، ومن فيها، ومن يصدرون أحكام الموت على الذين يتمردون، أو حتى يُشتبه في أنهم سيتمردون، من كبار المفكرين، المنتصرين، بحق، على الخرافة والجهل، والمغادين بأرواحهم، مثل غاليلي أو سواه، الذي قال إن الأرض تدور، ولما سيق إلى الإعدام، وقف وصاح صيحته الشهيرة: (ومع ذلك تدور!). قال ستاندال: ليست هناك سوى طريقة واحدة نخدع بها أنفسنا، وهي ألا نخدع أنفسنا. إني أؤمن إيماناً راسخاً بأن أحد الشروط الضرورية للإنسان ليجعل من حياته فدية، هو أن يكون تقدمياً. إن صديق الحرية والعدالة يورث القرون المقبلة أثمن جزء من نفسه. إنهم دائماً في خط النار كفرسان الحرية! الطيبة هي محبة الروح، وبهذه الفضيلة نحب كل من يتألم، وكل ما هو تعيس، إنهم يؤمنون بإمكانية نقل رسالتهم، ولولا ذلك لما عبّروا عن شيء! أنا في كل مكان يوجد فيه الألم، وقد صليت نفسي على أقل دمعة! عندما يحل بنا المصاب، فليست هناك وسيلة واحدة لكسر شوكته، سوى أن نقابله بثبات ورباطة جأش! يتألم الإنسان، ويندهش للإحساسات الغريبة التي تنتابه، وفجأة لا يشعر بشيء، فقد مرت اللحظة، ومات! ـ آه يا سيدي، إن لحظة الموت هذه هي التي لا أستطيع أن أتحمل فكرتها! ـ ولكن، يا سيدتي، هذه اللحظة يشغلها ألم يكون أحياناً حاداً قليلاً، هذا الألم يشعر به الإنسان، وبالتالي فهو لا يزال حياً لم يمت، إنه ليس إلا مريضاً وبحالة خطرة. وفجأة لم يعد يشعر بشيء، فقد مات! الموت إذن ليس بشي، إنه باب مفتوح أو مقفول، يجب أن يكون إما هذا وإما ذاك، لا يمكن أن يكون شيئاً ثالثاً! إن عروقي يجري فيها دم الجائلين في البحر، وأبهج ما يبهجني أن أُبحر بقاربي ذات صباح ربيعي إلى موانئ مجهولة!
#حنا_مينه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السودان يكشف عن شرطين أساسيين لبدء عملية التصالح مع الإمارات
...
-
علماء: الكوكب TRAPPIST-1b يشبه تيتان أكثر من عطارد
-
ماذا سيحصل للأرض إذا تغير شكل نواتها؟
-
مصادر مثالية للبروتين النباتي
-
هل تحميك مهنتك من ألزهايمر؟.. دراسة تفند دور بعض المهن في ذل
...
-
الولايات المتحدة لا تفهم كيف سرقت كييف صواريخ جافلين
-
سوريا وغاز قطر
-
الولايات المتحدة.. المجمع الانتخابي يمنح ترامب 312 صوتا والع
...
-
مسؤول أمريكي: مئات القتلى والجرحى من الجنود الكوريين شمال رو
...
-
مجلس الأمن يصدر بيانا بالإجماع بشأن سوريا
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|