محمود جلبوط
الحوار المتمدن-العدد: 1746 - 2006 / 11 / 26 - 11:10
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
إن الصيغة اللبنانية الطائفية الحالية ليست وليدة السنوات القليلة الماضية ولا وليدة الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975 وإنما هي موغلة في القدم فهي ترجع بطبيعتها كصيغة سياسية قانونية إلى أواسط القرن الثامن عشر منذ قيام القائممقامية في الجبل عام 1842 عندما تم الاعتراف في نص رسمي أيام شكيب أرسلان بكيانين طائفيين بأثر الضغوط الغربية للدول العظمى الفاعلة وقتذاك , فرنسا وانكلترا وروسيا التي تصدت لمحاولات محمد علي والي مصر لبناء دولة قوية في مصر والمشرق العربي في سياق محاولة النهضة الأولى على حساب الدولة العثمانية الضعيفة , وذلك بسبب شهيتهم لاقتسام تركتها كرجل مريض , قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى , بل راحت قنصلياتهم وبعثاتهم التبشيرية ترعى هذا وترسخه بالذريعة إياها : حماية الطوائف المسيحية والدروز من بطش وجور العثمانيين والمسلمين , وتكرس هذا التقسيم في القانون الأساسي لمتصرفية جبل لبنان عام 1861 وبروتوكول 1864 , وبعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى وضع لبنان وسوريا عام 1920تحت الوصاية الفرنسية التي وسعت رقعته الجغرافية على حساب سوريا لنفس النوايا التي تدفع المستعمر دائما في زرع الأفخاخ الجغرافية , وفي ظل الانتداب أقرت الصيغة الطائفية اللبنانية في نصوص رسمية وحدد دور الطوائف في مؤسسات الدولة في دستور 1926 عبر المادتين 9 +10 والمادة 95 التي كانت الدلالة الرئيسية في تكريس الطائفية بالرغم من عبارة المؤقت التي اعترتها , ثم تتابعت مسيرة ترسيخ الطائفية عبر السلطات الاستعمارية الفرنسية بقوننتها دستوريا في القانونين 146+53 الصادرين عن المندوب السامي الفرنسي , ثم توجت بالقرار الشهير رقم 60 الصادر عن المفوض السامي عام 1936 والذي تحددت على أساسه عدد الطوائف اللبنانية فأصبحت بموجب هذا القرار 17 طائفة فرض بموجبه على اللبنانيين اصطفافهم الاجتماعي ليكرس بعد ذلك بإدراج هذا في بطاقة الهوية .
وبالرغم من ضيق الأغلبية الشعبية اللبنانية من هذه الصيغة الطائفية المفروضة مطلع عهد الاستقلال إلا أن القوى الاستعمارية الفرنسية ووكلائها المحليين من جميع الطوائف نجحوا في جعلها ركيزة العقد الاجتماعي الجديد وإقامة العلاقات الاجتماعية المدنية على أساسها ورسخوها كأهم مقومات الدولة التي تدسترت وتمأسست من خلال ما صار يعرف بالميثاق الوطني المعبر عنه باتفاق شفوي بين بشارة الخوري ورياض الصلح , ممثلي الكومبرادور المحلي , برعاية الفرنسيين , كرس كل ما سبق من صيغة طائفية سياسيا ودستوريا , وراح اللبنانيون منذ استقلال كيانهم يعيشون دائما خطر انفجار وفاقهم الاجتماعي وتشذي كيانهم المرعى دولاتيا وإقليميا ودوليا عبر حروب أهلية حقيقية تحاول الخروج من هذا الثوب الطائفي أو إعادة تفصيله على المقاصات المعدلة دوريا حسب اتساع حجم الطوائف والمطالبة بالاستحقاق الجديد بنائا على هذا الاتساع والتكاثر , كما حصل عام 1952 فيما اعتبر بالثورة البيضاء التي أطاحت بالخوري بعد أن اتهم بالفساد , وخلفه كميل شمعون ذو الميل الفاقع إلى المعسكر الغربي في ظل الحرب الباردة بين الدولتين العظميين في حينه ودخلت الصيغة اللبنانية مسرح التجاذبات العربية الاقليمية والدولية كانت المنطقة في حينها ترزح تحت ظلال حلف بغداد واالاعتداء الثلاثي على مصر , ومبدأ إيزنهاور , وانعكاس تأثيرات كل ما سبق على الساحة اللبنانية , فقد وقفت المعارضة اللبنانية وقتذاك ضد مبدأ إيزنهاور بينما صدر بيان أمريكي لبناني رسمي مشترك يؤيد المبدأ , فقد كان يثير قلق الرئيس اللبناني كميل شمعون طروحات عبد الناصر آنذاك واقترنت هذه المواقف بانتخابات 1957 التي حصل على إثرها مظاهرات مناوئة للحكومة والدولة اتسمت معظم الأحيان بالعنف متهمة الحكومة بالتزوير , وتسارعت الأحداث وحشدت تركيا جنودها على الحدود السورية انسجاما مع أجندات حلف بغداد وأعلنت الوحدة بين مصر وسوريا وانقسم اللبنانيون على أساسها , اغتيل الصحفي اليساري نسيب المتني الذي كان يرأس صحيفة التلغراف , كان قد كتب في حينه مقالا يدعو الرئيس شمعون للاستقالة , فأدى اغتياله إلى اندلاع حرب أهلية دامت شهورا حدث خلالها الانقلاب الشهير في العراق الذي أطاح بنوري السعيد مما دفع بريطانيا إلى إرسال مظلييها إلى الأردن ودفع الرئيس اللبناني كميل شمعون لطلب عاجل لإنزال قوات المارنز الأمريكية على السواحل اللبنانية , ثم انتخب اللواء فؤاد الشهاب رئيسا , الذي حاول اتباع سياسة متوازنة بين الأطراف تحت شعار“ لاغالب ولامغلوب „ مما أثار حفيظة حزب الكتائب ومواليه فقاموا بما يسمى بالثورة المضادة .
إن أحد أبرز الأحداث التي دخلت على خط إحداث الخلل في الصيغة اللبنانية العتيدة المتفجرة هي بناء القواعد الفدائية الفلسطينية على الأراضي اللبنانية ونشاطها المكثف على إثر هزيمة حزيران 1967من الأراضي اللبنانية والأردنية , مما دفع إسرائيل لشن غارات جوية وأحيانا برية ضد الأراضي اللبنانية وضد مراكز لبنانية حيوية أشدها وطأة كان تدمير 13 طائرة مدنية في مطار بيروت من قبل كوماندوس إسرائيلي عام 1968 مما زاد من حدة التوتر بين الجيش اللبناني والفلسطنيين الذي أدى إلى تصادم عسكري جدي بينهما عام 1969 , وأدى ذلك إلى اضطرابات ومصادمات سياسية على الأراضي اللبنانية التي أدت إلى أزمة حكومية لم تنتهي إلا بتوقيع إتفاق القاهرة الشهير بين الفلسطينيين والحكومة اللبنانية الذي لم ينجح في حل الأزمة بشكل نهائي , ودفع طرد الفلسطينيين من الأردن على إثر مجازر أيلول المقاومة الفلسطينية إلى تركيز قواتها في الجنوب اللبناني فزاد الضغط العسكري على لبنان مما دفع الأوساط اليمينية اللبنانية بالتفكير من أجل التخلص من الفلسطينيين على غرار الملك حسين , وحاول الجيش اللبناني مرارا القضاء على الأنشطة الفلسطينية العسكرية ولكنه فشل في ذلك بسبب انقسام اللبنانيين حول ذلك وانحياز القوى الوطنية والإسلامية واليسار اللبناني إلى جانب المقاومة الفلسطينية ضد التيار اليميني والكتائبي , وبدأت تظهر بوادر حرب أهلية بين المشروع اليميني من جهة والوطني اليساري من جهة أخرى أجل اندلاعها في حينه نشوب حرب تشرين عام 1973 بين العرب وإسرائيل إلى عام 1975 على إثر تفجير حافلة تقل فلسطينيين في شارع بيير جميل في حي الرمانة بالتوافق مع إطلاق الرصاص من قبل الجيش اللبناني على الشهيد معروف سعد إثر مصادمات بين الجيش ومتظاهرين في صيدا , وماكادت الحركة الوطنية اللبنانية بقيادة الزعيم الدرزي كمال جنبلاط والمتحالفة مع المقاومة الفلسطينية من تحقيق النصر على القوى اليمينية حتى دخلت القوات السورية بمباركة أمريكية فرنسية لإنقاذ اليمين اللبناني والمحافظة على توازنات هذي الصيغة الطائفية المتفجرة , لم تستطع القوات السورية خلالها من إيقاف الحرب الأهلية التي اتسعت وتفرعت وتعقدت بدخول أكثر من طرف إقليمي ودولي على خطها ومن ضمنها تدخل إسرائيل المتجدد , فقامت باغتيال غسان كنفاني والقادة الفلسطينيين الثلاث مطلع السبعينات ثم خاضت حربا لطرد المقاومة الفلسطينية عام 1982 تواطأت في سياقها مع اليمين اللبناني على تنفيذ مجزرة صبرا وشاتيلا بعد خروج المقاومة , ثم انسحبت تحت ضربات المقاومة الوطنية اللبنانية والإسلامية إلى جنوب الليطاني لتنشيء ما سمي الشريط الحدودي بقيادة لحد , ثم انسحابها النهائي عام 1990 بضغط المقاومة لتحقق انتصارها الناجز عليها وتحرر الجنوب , في حين استمرت الحرب الأهلية حتى عام 1989 حيث اجتمعت الأطراف اللبنانية المتصارعة في الطائف السعودية برعاية السعودية وسوريا ووضعت الحرب الأهلية أوزارها على أساس مابات يعرف باتفاق الطائف الذي حاولت الأطراف اللبنانية من خلاله إعادة ترميم للصيغة الوفاقية الطائفية المنكسرة للتعايش التوافقي بين الطوائف على حساب الوطن والمواطن وليحافظوا على جوهر الصيغة المتفجرة إياها منمقة بنفس الوعود القديمة الحديثة من السعي لإلغاء الطائفية السياسية , وترك لبنان منهكا في ظل سيطرة أمنية سورية لتبني دولة أمنية على شاكلتها بصيغة مسخ , ثم اضطرار القوات السورية للانسحاب حسب قرار 1559 على إثر اتهامها باغتيال الحريري , ثم جاءت الحرب الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل وما رافقها من لغط واختلاف بين الفرقاء امتدت على ساحة الوطن العربي ككل , وفي خضم هذا وذاك لا تنسى أقطاب الصيغة المتفجرة وأمرائها بالتمفصل مع الإقليمي والدولي أن تسعى لاستجماع قواها لدورة قادمة من الإنفجار لا يستطيع أحد التنبؤ بأي مبرر أو حدث ليجدد جولتها القادمة مادامت تحكم لبنان هذه الصيغة الطائفية السياسية التوافقية المقيتة للعيش المشترك .
أما بعد هذه اللمحة التاريخية العامة لصيرورة الصيغة الطائفية اللبنانية والتي وجدتها ضرورية قبل تناول النقاش السياسي الدائر بين أطراف أقطابها المتجددة فيها وضمنها في هذه الأيام في مقالة قادمة .
#محمود_جلبوط (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟