"عند منابع دجلة" مع الآشوريين والاكراد
مسؤول دار سركون للنشر في السويد
صدر حديثا عن دار سركون للنشر في السويد كتاب "عند منابع دجلة" لمؤلفه الروسي (سي . ف . فيغين)، وترجمه من الروسية الى العربية الدكتور محمد البندر، وصمم غلافه الفنان التشكيلي حنا الحائك، ويقع الكتاب - نشر أول مرة باللغة الروسية عام 1929 - في 204 صفحة من الحجم المتوسط. ُكتب النص بشكل روائي مشوق ورائع، يسلط الأضواء على جوانب عديدة ومهمة من تاريخ الكلدوآشوريين "السريان" والارمن واليزيديين والاكراد، وبالاخص مأساة ومعاناة المسيحيين (السريان الآشوريين الكلدان والارمن) في منطقة اعالي ما بين النهرين في مطلع القرن الماضي. ومما لا شك فيه، ان الكتاب يعتبر وثيقة نادرة ومهمة، دونت من قبل طرف محايد حول مرحلة حساسة وحاسمة ومهمة من تاريخ العراق الحديث. ويعطي المؤلف (فيغين) صورة واضحة عن الخارطة الاثنية واللغوية وحتى الدينية التي كانت سائدة في أعالي ما بين النهرين قبل ان تطرأ عليها تغيرات خطيرة وكارثية اثر التطهير العرقي الذي تعرض له الشعب الكلدوآشوري السرياني والارمني ابان الحرب العالمية الأولى.
احداث الكتاب تدور بمنطقة حساسة واستراتيجية، تشبه المثلث، تقع ما بين بحيرة "وان " في تركيا، وبحيرة "اورمية" في اذربيجان الايرانية، والمناطق العراقية الشمالية المحاذية لجبال هكاري والتي كانت تتبع العراق سكانيا وتاريخيا حتى الحرب العالمية الاولى، اذ ضمت الى تركيا اثر تآمر دولي استهدف اغتصاب المناطق الشمالية لكل من سوريا وبلاد ما بين النهرين، أي العراق. وعلى هذه المنطقة ايضاً يطمح اكراد اليوم اقامة دولتهم (كردستان)!
هذا المثلث عرف تاريخيا في المصادر العربية والسريانية بـ (اقليم الجزيرة)، ويمتد غربا حتى نهر الفرات في سوريا، وضم جنوبا المدن العراقية المعروفة مثل اربيل ونوهدرا (دهوك) والموصل وكركوك وتكريت، وبعد الاحتلال العثماني لمنطقة اعالي ما بين النهرين عرفت غالبية المدن الشمالية العراقية بـ "ولاية الموصل" . وشكل الكلدوآشوريون "السريان" واليزيديون والارمن والعرب اغلبية في هذه المنطقة حتى فترات متأخرة. ثم اضيف الى اقوام الجزيرة التركمان الذين استقروا في كركوك وشكلوا أغلبية فيها منذ قرون، اضافة الى بعض المناطق في اربيل واطراف الموصل، والقبائل الكردية النازحة من كردستان الحقيقية في بلاد فارس، والتي قدمت الى المنطقة بتشجيع ودعوة من العثمانيين بعد وقوف الاكراد الى جانبهم ضد الفرس في معركة جالدايران الشهيرة سنة 1514. وللعلم اننا لا نتنكر لمسألة وجود بعض الجماعات والجيوب الكردية في المنطقة قبل هذا التاريخ، ولكنها لم تشكل أغلبية سائدة بأي شكل من الاشكال وخصوصا في المناطق العراقية والسورية، عدا منطقة شهرزور (السليمانية) والتي كانت تتبع اصلا كردستان الحقيقية في ايران، ولظروف غير طبيعية ضمت الى العراق. والجدير ذكره أيضا ان الجماعات الكردية التي قدمت للمنطقة قبل معركة جالديران كانت بغالبيتها مجموعات من القبائل الرحل سرعان ما كانت تنتقل من مكان لأخر بحثا عن الكلأ والمرعى، ولم تكن بالقوة والعنفوان والتأثير الذي يذكر لضألة عددها قبل التاريخ المذكور. فاغلبية المصادر التاريخية عندما تتحدث عن الاكراد تبدأ من معركة جالديران.
وايا يكن من أمر، فإن النزوح والانتشار الكردي ما بعد عام 1514 م، لم يحقق نجاحا وتفوقا الا عن طريق أعمال عنف رهيبة وحملات فتك وصراع على تملك الاراضي الخصبة وصولا الى التطهير العرقي ضد السكان المحليين للجزيرة، وحول هذه النقطة بالذات (الصراع الارمني، الكلدوآشوري، الكردي، واليزيدي)، اضافة الى معاناة المرأة المسيحية تتمحور اغلبية أحداث وتفاصيل الكتاب. ويتوقف المؤلف بشكل خاص عند منطقتان مهمتان هما (وان) و(هكاري)، ليعطينا صورة قيمة عن مجمل العادات والتقاليد والازياء الشعبية والمؤكولات وغيرها عند شعوب هاتين المنطقتين من كلدوآشوريين وارمن واكراد ويزيد...
المنطقة الأولى (وان) كانت ذات اغلبية ارمنية، واعتبرت الحدود الشمالية لمنطقة الجزيرة العراقية. وهنا تشابكت القرى والقصبات الارمنية مع الآشورية الكلدانية السريانية. ويخبرنا المؤلف: ان وان وضاحيتها الارمنية "ايغستان" ضمت عام 1914 اكثر من 60 الفا من السكان، شكل الارمن اكثر من الثلثين.. (ص 43). ويسجل االكاتب بخصوص معاناة ومذابح وعمليات تهجير الارمن والجالية العراقية المشكلة من الكلدوآشوريين في مدينة وان: (وعند اندلاع الأعمال الحربية نزح جميع السكان الارمن والآشوريين من منطقة وان، وكلف هذا النزوح نصف أرواح السكان، ووقعت المدينة فريسة سهلة لغارات النهب الكردية التي لم تبق في المدينة حجر على حجر وحرقت في النهاية، ص 44).
أما بالنسبة للمنطقة الثانية التي يتوقف عندها الكاتب الروسي "سي. ف. فيغين" باسهاب، فهي جبال هكاري (معقل القبائل الاشورية المستقلة) التي شطرت في القرون المتأخرة اثر تزايد اعداد الاكراد القادمين اليها من بلاد فارس عبر بوابة أورمية، الى شطرين، شمالي وجنوبي، وكانت بلدة جولاميرك القريبة من مقر البطريرك الاشوري في قوجانس، الحدود الفاصلة ما بين القسمين، حيث حافظ الكلدوآشوريون السريان على وجودهم وقراهم وكثافتهم السكانية في القسم الجنوبي وشكلوا اغلبية فيه حتى عام 1918م. وحول هذه الكثافة السريانية في القسم الجنوبي لجبل هكاري المحاذي لمناطق الكلدوآشوريين في مناطق اربيل ودهوك والعمادية... ينقل لنا كتاب "الاكراد" الذي الفه ونشره بالروسية عام 1915 البرفسور ف. ميتورسكي وصدرت ترجمته العربية في بغداد سنة 1968: (تعيش العشائر النسطورية "ويقصد الاشورية" في جنوب هكاري –جوله ميرك – في منطقة صغيرة مقفلة وهم يشكلون 90% من السكان ويسيطرون على الوضع، ص17).
ويذكر المؤرخون أن بقاء وديمومة الاشوريين الكلدان السريان في مناطقهم الجبلية المنيعة في هكاري وطورعبدين والكثير من قرى شمال العراق الحالي، كان بمثابة الفاصل والعائق امام التحام وتواصل اكراد بلاد فارس مع مناطق الاستقرار الجديدة لاكراد الدولة العثمانية، ولهذا نرى ان الكثير من العشائر الكردية (وليس كلها) في كل من ايران والعراق وتركيا قد تعاونت ولبت النداء العثماني عام 1914 بالقضاء على الكلدوآشوريين "السريان" والارمن وطرد المتبقين على قيد الحياة خارج اراضيهم التاريخية. في الوقت الذي أمتنع فيه الموصليون والحلبيون (سكان الموصل وحلب) وبعض المجموعات والقبائل الكردية الخيرة بالاشتراك أو التعاون مع العثمانيين وبعض العشائر الكردية في ذبح السريان والارمن على رغم كونهم أيضا (الموصليون والحلبيون) مثل الاكراد من أتباع ورعايا الدولة العثمانية. فالاكراد كانوا هم المستفيدون الوحيدون من التطهير العرقي الذي تعرض له المسيحيون في تركيا وبعض اجزاء العراق الحالي. فاغلبية المناطق الاشورية الكلدانية السريانية وحتى الارمنية تحولت اليوم الى كردية، ولم تتحول الى عربية او تركية، مثل مدينة (امد) التي اصبحت بمفهوم الاكراد بعد التطهير العرقي عاصمة لـ (كردستان الشمالية)، وأربيل عاصمة (كردستان الجنوبية)!
ومن المهم أن نذكر، ان عموم اقليم هكاري الذي اتسم بتعددية قومية ولغوية في القرون الاخيرة، اذ كان فيه تجمعات مهمة للاتراك والارمن الى جانب الكلدوآشوريين والاكراد واليزيد ، قد فقد تنوعه الاقوامي ورونقه الفلكلوري الجميل. هذا واصبح هذا الاقليم اليوم، بعد حملات التكريد الشرسة الماضية، ذو اغلبية كردية بحتة. فمثلا، يذكر أثليستاريلي (المسيحيون والاكراد، ص 452) عن التنوع الاقوامي في عموم اقليم هكاري الواقع اليوم في جنوب شرق تركيا عام 1885 ، أي بعد حملات بدرخان الكردي (1843 – 1846) – تلك الحملات التي حققت تفوقا عدديا للاكراد وانتشارا جديدا على حساب الكلدوآشوريين - وقبل التطهير العرقي الذي حدث عام 1915، كالتالي:
الاتراك (20) الفا، الاكراد (175) الفا، الارمن (140) الفا، الآشوريون (80) الفا. (المصدر، كتاب الواقعية في الفكر الاشوري المعاصر، ص 145). وعلى ضوء هذه الاحصائية التي اعترف بها الباب العالي، يتبين أن الاكراد وعلى رغم حملات ومذابح بدرخان الكردي ومحمد الرواندوزي ضد السكان المحليين، كانوا في ذاك الزمان اقلية مقارنة مع مجمل الاقوام الأخرى في عموم اقليم هكاري، بينما نرى اليوم ان عددهم بلغ ما يقارب (12) مليون كردي، في حين ان الشعبان الكلدواشوري والارمني قد اختفيا من الخارطة الاثنية لجنوب شرق تركيا وخاصة جبال هكاري المنيعة التي عجز العثمانيون انفسهم على غزوها او الهيمنة عليها حتى عام 1918! هذا التزايد العددي الكردي السريع الذي جرى خلال اقل من قرنين لم يتم الا على حساب الوجود الكلدوآشوري والارمني وحتى اليزيدي مدعوما بعوامل دينية وعرقية كان يقف وراءها الاتراك والاكراد وأحيانا الفرس وأحيانا اخرى المبشرون الاوربيون الذين هدفوا الى تفتيت الصف الداخلي لأبناء كنيسة المشرق السريانية تمهيدا لفرض المذاهب الاوربية على هؤلاء المسيحيون الشرقيون !
وبعد ان استقر القادمون الجدد في مناطق الكلدوآشوريين والارمن، مثل وان ونصيبين والرها وسعرت وهكاري وضواحي اربيل وزاخو ونوهدرا ... بدأ هؤلاء بحملاتهم الجديدة ضد التاريخ العراقي الرافديني. وقاموا بتخصيص أموالا طائلة وجندوا الكثير من الباحثين والكتاب لأجل اعادة كتابة التاريخ من جديد ليخدم طروحاتهم ومشاريعهم المسيسة الضيقة الجديدة، مدعين انهم قد قطنوا المنطقتان العراقية والسورية منذ الاف السنين من خلال ربط اصولهم باقوام انصهرت في البوتقة العراقية والسورية أو ابيدت وازيلت من الوجود منذ الفي عام تقريبا!؟ ومن أجل الغاء الوجود القومي الكلدوآشوري السرياني راح هؤلاء الباحثون يروجون ويدعون بان اشوريي وكلدان اليوم ما هم الا (اكراد مسيحيون) اعتنقوا المسيحية في القرون المتأخرة، تماما مثلما اطلق علينا العروبيون تسمية (عرب مسيحيون) بهدف صهرنا في البوتقة العربية. وكما اطلق الاتراك على الاكراد لقب (اتراك الجبال) تمهيدا لمحو الهوية الكردية من تركيا. وما يؤسف له حقاً، ان اخوتنا الاكراد في الوقت الذي يطالبون فيه العالم ومؤسساته بالاعتراف بالمذابح التي ارتكبها صدام بحقهم وتعويضهم عما خسروه، يقوم هؤلاء "الضحايا" اليوم، بالتنكر لما ارتكب الاكراد (والاتراك) من مذابح وعمليات تطهير عرقي ضد مسيحيي تركيا والعراق، تلك الابادة التي دخلت الذاكرة السريانية الشعبية وهي موثقة في الكثير من المصادر الاوربية وغيرها، والكتاب الذي نحن بصدده ينقل لنا صورا واضحة عن هاجس وخوف الاشوريين من المستقبل في هكاري بسبب سياسات التكريد وحملات الغزو والنهب الكردية التي لم تنقطع يوما الا بانتهاء الوجود الآشوري الكلداني في تلك الاصقاع النائية!؟ ولا يمكن ان تزول اثار المذابح المؤلمة التي خلفتها تلك الاعمال الهمجية من الذاكرة العراقية او السورية الا من خلال الاعتراف بحدوثها من قبل الاتراك والاكراد معاً بهدف ازالة الغبن الموجود من خلال ادانة اليد الاثمة التي شاركت بعمليات التطهير العرقي التي تعد الأولى في التاريخ الحديث، ولكي يطمئن أبناء وأحفاد الضحايا ان ماجرى من احداث مؤلمة ومآسي وويلات وحملات تطهير عرقي في مطلع القرن الماضي، قد ذهبت وولت الى الابد، وان المستقبل يتطلب فتح صفحات جديدة للاخوة: الكلدوآشورية – الكردية – العربية – التركمانية – التركية – الارمنية واليزيدية، بالطبع، بعد تصحيح أخطاء الماضي !!؟