لحد الآن يمكن التأكيد على أن الإدارة الأمريكية ساعية لتنفيذ خطتها في إدارة الدولة العراقية حسب ما أعلنته في العشرين من شباط الماضي أي قبل بدأ الحرب بما يقارب الشهر والتي سربها البنتاغون الى بعض الصحف في الولايات المتحدة الأمريكية.
في خطابه للشعب الأمريكي يوم 21 شباط 2003 في ولاية أتلانتا أشار الرئيس بوش الى أن الإطاحة بصدام حسين سوف تكون درسا لخصوم الولايات المتحدة الأمريكية .وجاء ذلك الخطاب ذو النبرة الحادة والتهديدية متزامنا مع ما سرب من معلومات عن تلك الخطة الخاصة بنوع السلطة التي تأتي بعد سقوط صدام حسين.ورافقته أيضا حملة إعلامية تذهب لإزالة الشكوك في نوايا الولايات المتحدة تجاه خصومها المعلنين والموجودة ملفاتهم في أدراج البنتاغون.
في فحوى خطاب بوش يذهب المحللون الى تحديد واجهتين لمعنى الدرس المنوه عنه. الأول يفسر كونه تهديد صريح بالاستخدام الحتمي للقوة المباشرة في حالة الممانعة. والثاني إدامة الضغط لإحراج الخصوم ووضعهم في المواقف الأكثر هشاشة ، ومحاصرتهم وعزلهم ومن ثم تجريدهم من أدوات المقاومة مما يعني في نهاية الآمر حتمية سقوطهم أي دمقرطتهم وفق النموذج الأمريكي بالردع والإجبار. وهذا ما يحدث اليوم كمقدمة مع الهدف الإيراني .
خطاب الرئيس بوش كان مكملا لصيغة الخطة التي سربها البنتاغون والتي كشفت الخطوط العريضة لبرنامج الإدارة الأمريكية بما يتعلق بإدارة العراق لما بعد صدام حسين.حيث أشارت الى أنه (( سيتم تعيين إدارة أمريكية مؤقتة يرأسها مدني يكون مسؤولاً عن توجيه عملية إعادة بناء العراق السياسي والإداري عبر خلق حكومة (مجلس استشاري ) يضم 20 الى25 شخصية عراقية .يقوم هذا المجلس بمساعدة السلطات الأمريكية بدون أن تكون له صلاحيات في الحكم .ويكون المسؤول الأول عن النشاطات الإنسانية الأولية الفريق المتقاعد جاي غارنر ..ولكن حال وصوله الى بغداد تحل محله سلطة مدنية { سامية } يرأسها شخص أمريكي ذو مكانة عالية ((كأن يكون حاكما سابقا لولاية أمريكية أو أحد السفراء السابقين )).لحد الآن فالخطة طبقت بحرفية عالية ولكن الموضوع المتعلق بشكل السلطة العراقية لا زال يخضع للنقاش والأخذ والرد بسبب ما واجهته الإدارة الأمريكية من وقائع ومستجدات على الأرض فرض عليها خيار التريث وإعادة الحسابات.
حين يرغب المرء في الحصول على معلومة كافية ودقيقة عن المدة التي سوف يبقى عليها العراق في حالة احتلال فأن الإدارة الأمريكية تتجنب التحديد والدقة وتحاول جعل المسألة تخضع لضرورات المراحل والتأني في إعطاء التزام بعينه .وبالرغم من تأكيد وزير الخارجية باول وغيره على أن بقاء قوات الاحتلال لا يتعدى السنة الواحدة وأنهم سيرحلون في أقرب فرصة فأن مساعده مارك غروسمان أكد فترة السنتين كحد أعلى .ولكن وزارة الدفاع وهي الأكثر قربا ومعايشةً لواقع الاحتلال ترى حسب الجنرال ماري ماكفاري أحد رجال البنتاغون أن ذلك سوف يستغرق الخمس سنوات لتحقيق السلام واستمراره بشكل إيجابي .أذن فأن مدة الاحتلال تأخذ شكل الانتداب المفتوح وهذا ما أقره توصيف مجلس الأمن لشكل الاحتلال القائم اليوم في العراق
بالرغم من ظهور وقائع جديدة وحادة على حراك الساحة المجتمعية والسياسية العراقية ربما أن في أغلبها كانت خارج سياق التصور الأمريكي للمشهد العراقي والتي بدورها فرضت خيارات طارئة وجديدة استدعت من الإدارة الأمريكية التدقيق والمعاينة. لكن حقيقة الأمر فأن الوقائع لا زالت تشير الى أن تلك المستجدات لم تكن بالعناصر المؤثرة التي توجب تغيير نمط الخطة الأمريكية وإنما وبالأحرى سهلت وقدمت لها المبرر للتنفيذ الحرفي .
الصراعات السياسية والعرقية والطائفية فتحت المشهد العراقي على احتمالات كثيرة وبالرغم من أن تلك الصراعات لم تبلغ درجة الاحتدام والتقاتل وهي في كمون تفرضه وقائع تواجد قوات الاحتلال ولكنها طرحت الكثير من التساؤلات والاحتمالات الموجب أخذ الحذر منها وتدقيقها.
بعد سقوط فاشية صدام وانطلاق العراقي من أسره بعد سنوات الكبت والمعاناة التي انتقصت بشكل كامل وفج من حقوقه وألقت بالوطن في أتون أزمات اقتصادية اجتماعية سياسية لا يمكن توصيفها بسهولة.بات العراقي بعدها أشد نزوعاً لتوكيد هويته وخصوصيته الثقافية العرقية والطائفية .وتصاعدت نزعته للتفرد وتأكيد ذاته تجاه الأخريين. وذات المعادلة لقت قبولا لدي الأطراف السياسية القادمة من الخارج والعاملة الآن في الداخل والتي أظهرت عدم قدرتها على التواصل فيما بينها وعجزها عن تحقيق نتائج إيجابية لصالح الوطن، ومراوحتها بين البحث عن حلول فردية وإيجاد موطأ قدم وبين إهمال التوتر الاجتماعي والسياسي وترك شأن معالجته للمحتل.مما يدفعني للقول أن الجميع فضل خيار الكارثة الذي سهل أساسا عملية الاحتلال برمتها حين أصبحت قوة الاحتلال تشكل اليوم ((صمام الأمان )) لعدم انفلات الأوضاع وتعرض العراق للحرب الأهلية.والذي جعل قوة الاحتلال تحتكر القرار وتمنع أبناء العراق من المشاركة فيه بحجة عجزهم وتفرقهم وأحترابهم. وهذا بالذات ما ترغب الإدارة الأمريكية في استمراره لمواصلة تنفيذ مشروعها الذي يحوي العراق أولا ثم باقي المنطقة.
أغلب القوى السياسية العراقية أبدت استعدادها للمشاركة وتفهمها للخطة الأمريكية وقد شاركت بشكل مباشر وغير مباشر في تنفيذ أجزاء من تلك الخطة وأبدت ترحيبها للانخراط في عملية تقودها الولايات المتحدة . ولم يكن مؤتمر لندن والذي مثل شرك حقيقي لبعض قوى المعارضة . واللقاءات التي عقدت في واشنطن وعواصم أخرى ومن ثم في صلاح الدين غير مؤشر للاستعدادات تلك. ولذا فأن الإشكالية اليوم تصب في أيجاد توليفة حكومية تضمن للجميع المحاصصة المرضية وليس غير هذا.وبالرغم من وجود من يفضل النقاش في صلاحيات تلك السلطة المزمع تشكيلها فأن اغلب القوى السياسية العراقية تجد الكثير من العسر في انتزاع شيء حقيقي يوصف الحالة الوطنية ويجد معالجات خارج سلطة الاحتلال ومساعيها لفرض خيارتها.
في مؤتمر لندن خرجت بعض التصريحات عن النية في تشكيل حكومة مؤقتة وعرض الأمر أيضا في أروقة مؤتمر صلاح الدين قبل أسابيع من سقوط الطاغية صدام حسين ولكن هذا الشأن لاقى الكثير من الممانعة من الجانب الأمريكي وتوج بالأخير بالحسم التام ونفي فكرة تشكيل تلك الحكومة لتعارضها مع الخطة الأمريكية.
مفترق الطرق هذا لازال يشكل مصدر للنزاع بين الإدارة الأمريكية وبعض أطراف القوى السياسية العراقية.ففي الوقت الذي تؤكد بعض تلك القوى رضاها المطلق عن أداء الإدارة الأمريكية فأن البعض يطمح لتشكيل سلطة مؤقتة تتمتع ببعض الصلاحيات. ويذهب البعض بالرغبة لتشكيل حكومة واسعة الصلاحيات في ظل الاحتلال وآخرون يرغبون بسلطة واسعة الصلاحيات ولكن تحت وصاية الأمم المتحدة .ثلاثة أنماط للرغبات تتنازع أطياف العمل السياسي الفاعل في الساحة العراقية وأغلبها يتجنب الصدام مع المحتل .وهناك خيار رابع لم تنضج ملامحه يراهن على مواجهة المحتل بقوة السلاح .ويشوب هذا الخيار الكثير من الالتباس .
أكثر رغبات القوى السياسية ذات الخيار السلمي تتقاطع جزئيا مع خطة الإدارة الأمريكية لإدارة العراق و تأمل الحصول على بعض المكاسب لتأكيد وجودها.ولذا فأن بريمر يناور لكسب الوقت واحتكار الفعل الإداري والسياسي وحصر الأمر بينه وبين قوى الشعب بمختلف واجهاتها في مسألة واحدة هي الصلاحيات السياسية لتلك السلطة وليس التركيبة الإدارية للسلطة التنفيذية أو ما يسمى الإدارة الميدانية لأجهزة الدولة.وتحت هذا الستار تفرض أدارته ثلاث أنماط من التهديد الموجه للقوى السياسية العراقية. الأول يتمثل في توفير دور معنوي مؤثر للقوى العشائرية ووضعها في مواجهة القوى السياسية والمد الديني المتصاعد.والثاني يركز على جلب مجموعة التكنوقراط العراقيين الذين أعدتهم الإدارة الأمريكية في مشروع واسع لإدارة الوزارات العراقية بعد سقوط صدام حسين والثالث يتمثل باختفاء صدام حسين والتهديد اليومي لأعوانه وغيرهم مما يعطي المبرر الدائم لعمليات عسكرية مستمرة ومفتوحة التوجهات .عبر هذه التهديدات تستطيع الإدارة الأمريكية فرض خياراتها وتجزئة الواجهات .حيث تفصل الإدارة السياسية عن الإدارة العامة للدولة العراقية وعبر هذا الرهان يمكن تشكيل قوة فعل ضاغطة تثلم استحقاقات القوى السياسية ورغبتها في قيادة العراق . ويبدوا أن الإدارة الأمريكية ليست في عجالة من أمرها وترغب بأن تفصح جميع التشكيلات المجتمعية عن مكامن قوتها وضعفها ليتم بعد ذلك بلورة ملامح الخطة والبرامج المتعلقة بها وفق الاستحقاقات العامة المتعلقة بسبب الاحتلال ومستقبل العراق ومتعلقات الإقليم .ويرتبط الأمر كذلك بأهمية المواجهات الحقيقية مع المعارضين المسلحين للوجود العسكري الأجنبي مما يعني تحديد بؤر ومكامن تلك القوى في حرب غير متكافئة لا زالت مستمرة ولم يعلن عن توقفها.
شكل قرار مجلس الأمن المرقم1483 ظاهرة جديدة في إعطاء قوات الاحتلال توصيفات قانونية تضاف للتشريعات التي أقرتها معاهدات جنيف وغيرها من القرارات التي تحدد واجبات قوى الاحتلال تجاه البلدان والشعوب المحتلة . ففي الوضع النادر والغريب الذي يتمتع به العراق. فأنه يكتسب خصوصية فريدة في سعة مشاكله وتشعبها.تتمثل بالإطاحة بأعتى فاشية في العالم وما خلفته من مآسي وجرائم طالت شعب متعدد الأديان والأثنيات . بالإضافة الى دخوله كدولة في عدة حروب سببت له قطيعة كلية مع الكثير من دول العالم وبالأخص في الإقليم.وكذلك فان العراق يتمتع بمخزون نفطي هائل وموقع جغرافي إستراتيجي مؤثر .وقد طاله حصار قاسي تعدى الثلاثة عشر سنة سبب الكثير من الآلام والتخريب لقوى الشعب وجعله في مصاف الدول الفقيرة.بالإضافة الى أن سقوط الدكتاتورية رافقه اختفاء لأطر ومقومات الدولة العراقية. والخطة الأمريكية دفعت وبحكم الضرورة والوقائع الى نزع الصفة القانونية للكثير من تشكيلات السلطة باعتبارها تتعارض مع معالجات إعادة البناء.
أذن هناك وفرة من الخصائص المتقابلة والمتنافرة التي تجعل القوى السياسية في مواقع متباينة من خطة الإدارة الأمريكية لإدارة احتلالها للعراق. فتجد نفسها مرغمة للقبول ببعض الافتراضات الذي يوفرها وجود الاحتلال ذاته مما يجعلها تتأرجح بين خيارات القرار الوطني المستقل ومشاريع الإدارة الأمريكية.وهذه الوقائع تضع تلك القوى اليوم في أشد حالات التخبط الفكري لاكتشاف المسالك المفضية للتعامل مع الواقع المفروض على الأرض.فالمشهد المفتوح على كافة الاحتمالات خاصية لنهج تريد الإدارة الأمريكية جعله مسلمة تقتضي الحتمية التاريخية التلقي الكامل لنتائجه عبر ما يرشح من رؤى وتنظيرات تطرحها إدارة الاحتلال وليس للقرار الوطني غير أن يتبلور وفق تلك الاستحكامات والخطط. وهذا ما جعل القوى السياسية العراقية تجد نفسها في ثنائيات أنهكت وضعها العام منذ لحظة الشروع في المشاركة أو التواجد داخل العراق بعد سقوط الفاشية.وجل تلك الثنائيات هي موروث سابق لا زال ينخر جسد تلك القوى ويجعلها عاجزة عن الربط بين الخصوصية الوطنية والسلوك اليومي،بين ما تركه الإرث الفاشي المدمر من آثار في المجتمع و الرغبات الحزبية الضيقة للحصول على المكاسب الآنية . هذا النهج يعكس دون أدنى ريب رغبة تلك القوى ومحاولاتها إضمار وطمس التغييرات التي طرأت على البنية الاجتماعية والسياسية داخل العراق دون محاولة تلمسها والتعامل معها بجدية وعقلانية .هذه الثنائيات ورغم أن أغلبها مدرك سلفا من قبل تلك الفعاليات والقوى لكنها في الأداء العام تعجز عن معالجتها وتستمر كمحبط حقيقي يخل بعمليات المعالجات للأزمات الحزبية وأزمة العراق الحالية .وتخضعها دائما لاشتراطات داخلية تتنازعها : الرغبة والمكنة .بين الحاجة والقدرة ،بين المنى والواقع، بين التنافس والتعاون، بين صناعة الحدث أو الانتظار وردة الفعل الآنية تجاهه.
قبل سقوط الدكتاتورية كان مدار الحديث ينصب في قدرة تلك القوى على التغيير ولكن في نهاية المطاف وما أسفرت عنه وقائع الحرب دلل على أن تلك القوى كانت عاجزة عجزا كاملا عن صناعة حدث بتلك السعة والوقائع .فالمقاومة والخديعة ومنها الاحتماء بالسكان وغيرها من الأساليب القذرة التي أستخدمها النظام في خوضه الحرب ضد التحالف كان لا يمكن لحرب عصابات أو مشاريع سياسية الإطاحة بسلطته وفق نهج التصورات المليئة بالتمنيات والأحلام.وللمرء مع ما كان لقوة الدكتاتورية العسكرية والقسوة والإيذاء الذي ممكن له استخدامها ضد القوى السياسية العراقية التي تريد الإطاحة به. كان له أن يتصور المشهد لمجزرة مجانية .ولذا فأن المرء يقف بذهول أمام تصريح قطب من أقطاب تلك المعارضة المشتته. الذي أعلن في مقابلة تلفزيونية عن أن أمريكا استعجلت لإطاحة صدام حسين بعد أن أدركت قرب سقوطه على يد قوى المعارضة.هذا الأمر بحد ذاته يدلل على أن تلك التصورات المبتورة والمضللة لا زالت تشكل الملمح الرئيسي للمقارنات واستقراء الوقائع عند أغلب القوى السياسية العراقية. وتدلل على أن الأمر لا زال يحصر وفق جدل التلاعب بقلب الثنائيات وخلطها لتصبح الأمنية وقائع، والأحلام قدرات ولو كان ذلك على حساب استراتيجيات ومبادئ بذاتها.وقد قامت أغلب القوى السياسية بعملية تزوير حقيقية للوقائع شوهت خلالها الحقائق وقدمت لأبناء الشعب العراقي معلومات مضللة عن قدراتها وأيضا عن قدرات النظام الدكتاتوري.ووضعتهم في تغريب وتهميش منهجي لم يجدوا معه غير الدهشة والحيرة و الغضب والعجز مع انفتاح المشهد وسقوط السلطة الفاشية وتسارع الأحدث.
يبدوا أن غياب الحامل الاجتماعي (الابتعاد عن الوطن ) والظروف الموضوعية التي منعت تواجد تلك القوى داخل ذلك الحامل جعلها تسرف في تهشيم الحقائق لصالح خيار التمنيات المفرط.ربما أن مهام ورغبات تلك القوى كان قد بدأ يلاقي انحسارا مع مرور الوقت وتغير إيقاع السياسات الدولية والإقليمية لصالح استبعاد خيار الإطاحة بصدام وتفضيل أعادته للحضيرة الدولية على خلفية المصالح الاقتصادية والسياسية الدولية.هذا الذي جعلها تسرف في عرض المشهد المزيف و المزوق بالتمنيات الطوباوية مما ساعد على تهميش تلك القوى لذاتها وتوسيع الهوة بينها وتشتت خياراتها ووضعها في حالة اللا توازن الدائم.
مأساة تلك القوى اليوم وبعد سقوط السلطة الدكتاتورية تتعلق في ذات الرؤية غير المكتملة النضوج التي تسقط عجزها وتشخيصاتها غير العملية على عوامل خارجية ،ويغلب في معالجاتها الذاتي على الموضوعي، ويجعل البناء الفكري لديها مشوشا ومنصبا لإعادة اجترار القديم والحفاظ على التشكيل السياسي، والحصول على المكاسب فوق الأرض بعجالة حتى وأن أدى ذلك لثلم القيم الأخلاقية والوطنية. أو على حساب متطلبات الوطن المرحلية والمستقبلية. لذا تراها تصر على تناول الأمر بذات الخطابية المكررة والمملة التي تستعير لغتها من لوحة الخمسينيات والستينات المبني على المغالاة في القدرات وإقصاء الأخر والتناحر على الحصص والتعصب للرأي والفكرة.والذي بات المأخذ الذي تجد فيه قوة الاحتلال التبرير المقنع لعدم الركون الى تلك القوى وتسليمها مقاليد إدارة الدولة العراقية.
أثبتت حرب إطاحة صدام حسين أن الهوية الوطنية العراقية يشوبها الكثير من الشكوك على مستوى التشكيلات الاثنية والطائفية . وأن عمليات القسر والإحلال التي طرأت على نماذج السلطة أنعكس بشكل حاسم على هيكلة الدولة العراقية ومس مقوماتها في الصميم. مما جعلها غير قادرة على تأسيس هياكل متكاملة الملامح يمكن لها أن تستوعب الطارئ من الأحداث والأرتكاسات. وهذا بدوره جاء وفق سياق مبدأ قوة السلطة وجبروتها السياسي وليس لأليات القانون وحقوق المواطنة وتثبيت الركائز القانونية لمؤسسات الدولة للسيطرة على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في حالة اختفاء السلطة. ولذا تعرض مفهوم الدولة الحاوية والحاضنة للتقطيع والاستلاب على يد القوى السياسية والاجتماعية الراغبة لتأكيد خصوصياتها وتفردها ونفرتها من الأخر.
اليوم تركز الإدارة الأمريكية على إعادة تجربة بناء الدولة العراقية بعد مضي اكثر من ثمانين عاما على تأسيسها. وترى أن إعادة البناء يتطلب خلق نمط جديد من العلاقات المؤسساتية التي تفصل بين مفهوم إدارة الدولة والسلطة السياسية .وهم مصممون على النجاح في مسعاهم هذا رغم الخسائر التي يواجهونها على مستوى الأفراد والمعدات. وكذلك في العزلة والنفور الذي بدأ يشوب علاقتهم بالفرد العراقي بسبب تباطأ إجراءاتهم في مجال الأمن والخدمات والوظائف التي لم توفر لأبناء الشعب العراقي رغم مضي أكثر من الشهرين.مسعى نجاح تنفيذ الخطة يتمثل بإعادة تشكيل مؤسسات الدولة العراقية بشكل تدريجي وقسري وبإحداثيات تركز على طبيعتين الأولى استغلال معانات الشعب العراقي من تعديات سلطة صدام والثانية اختلاف وتنوع وتضارب رغبات ومفاهيم ورؤى القوى السياسية وشرائح وطوائف وأثنيات الشعب العراقي.
لم يطرأ تغير جوهري على خطة الإدارة الأمريكية لمستقبل العراق بالرغم من ظهور الكثير من التبدلات وأشكال من الظواهر الجديدة في الساحة السياسية العراقية .وفي كل الأحوال فأن تلك المستجدات جعلت الإدارة الأمريكية تجد في خطتها الموضوعة المخرج الوحيد لأزمة السلطة وبناء عراق الجديد يواكب النموذج الأقتصادي الأمريكي ويلاصقه .
في الجانب الأخر فأن مجموعة الست أو السبعة التي خرج بها مؤتمري لندن وصلاح الدين والاجتماعات اللاحقة وجدت في نهاية المطاف أنها خدعت أو غرر بها. وأن الوعود التي أعطيت لها من قبل ممثلي الإدارة الأمريكية قبل عملية احتلال العراق كانت عبارة عن وعود لا أرضية واقعية لها .من المخجل أن يطرح مثل هذا الإدعاء من قبل قوى سياسية تتمتع برؤية سياسية عقلانية .فمجريات ووقائع مؤتمراتها وبحضور ممثلي الإدارة الأمريكية وإعلانهم الصريح عن النموذج المفضل لإدارة مستقبل العراق كان حاضرا وواضحا في مختلف تلك اللقاءات .وتلك القوى السياسية رغم إدراكها ( منذ البداية ) أنها كانت قادرة على استقراء خطة الأمريكان في سعيهم لإطاحة صدام لكنها مثلما تفعل دائما فقد فضلت خلط الأوراق للحصول على المغانم الآنية وابتلاع طعم الخطة الأمريكية برضا (غير مطمئن). وتستمر اليوم على ذات المنوال لاقتسام السلطة دون النظر للمستجدات أو الوقائع على الأرض .ولذا فأن بعضها يرى أن فتات السلطة يمكن الحصول عليه دون فرض شروط بعينها على سلطات الاحتلال .وعلى هذا المنوال فأنها باتت غير مهتمة بفقدان السيادة الوطنية بشكل مباشر أو غير مباشر أو بمجريات الأذى الذي طال المواطن العراقي من جراء استمرار حالة الانفلات الأمني وتوقف الأعمال واختفاء مؤسسات الدولة. وإنما شارك بعضها في استشراء تلك الحالات وأدامتها وفضل عليها هم المحاصصة السياسية كمهمة أساسية وأولى.وتعدى الأمر في بعض من جوانبه أن بعض تلك القوى بدأ يوظف مبالغ طائلة في التجارة المفتوحة. والبعض فقد السيطرة على أعضاءه المشاركين في عمليات الفرهود. وبعضها راح يغدق الأموال الطائلة لكسب الأعضاء دون أن يقدم ولو مبلغ بسيط للمشاركة في إعادة قطاعات الصحة أو التعليم أو الخدمات العامة لجزء من حالتها الطبيعية.
يبدوا أن السير في طريق الخروج من أزمة السلطة اليوم ذا طابع قسري لا يجد فيه الجميع فرصا متساوية للمشاركة .ولن يشارك أحد فيه دون الدخول في متاهة اللعبة الأمريكية. و قسرية الخطة الأمريكية تسعى لتكون بوصلة حراك القوى السياسية والشرائح المجتمعية .ومراحلها تعمل ضمن استحكامات الخطوات التكتيكية المتباينة التي تسعى للوصول الى الهدف الستراتيجي.وتتضمن تلك المهام تدابير وصيغ ووسائل سياسية واقتصادية وأيدلوجية تحاول أن تكون تعبير عن الظروف الموضوعية التي يفرضها الاحتلال .ولكن هذه الظروف لا تكون حصرا وفق إرادة المحتل دائما، وإنما يجب أن يشارك بها الجميع مثلما هو مفترض .وأن يكون لهم بصمات فاعلة فيه. ولكن الأسئلة المحرجة التي تتضارب حولها رؤى القوى السياسية ومن المفترض أن تفصح عنها دون مواربة وأن يتم المكاشفة فيها ونقاشها الآن هي : ما هي نوع الخطوات المتخذة للمشاركة وكيف ؟؟؟. ما نوع الأهداف الاستراتيجية التي تريد تلك القوى الوصول إليها أو تحقيقها ؟؟؟. تلك الشرائح والفئات كان من الواجب عليها أن تضع أمامها دائما مهمات تشعر بأنها قادرة على حلها وإنجازها ، وإزاحة المعوقات الداخلية قبل الخارجية.وأن تكون أكثرا إدراكا لمسؤولياتها تجاه شعبها في محنته قبل التفكير بالانخراط في الهدف الإستراتيجي الأمريكي .من المعقول القول أن تجربة حكم البعث الفاشي وما تعرض له الشعب العراقي يجب أن يكون درسا فاعلا ومهما ليؤسس لثقافة سياسية جديدة تتجاوز أطر الفعل السياسي السابق وتعنى أساسا بالمزيد من التمسك بمفاهيم العدل الاجتماعي والنضال من أجل الديمقراطية وأبعاد شبح الصراع السياسي المسلح والعمل على رفع مستوى وعي الشعب الثقافي والعلمي والأخلاقي ولذا فأن الأمر يتطلب من تلك القوى خلق وعي داخلي حقيقي بضرورات المرحلة ومعالجات تتوائم مع متطلبات الشارع العراقي اليوم .
في خضم هذه المشاكل يبدوا أن فصل السياسي عن إدارة الدولة في الوقت الراهن نظرية نبيلة تخرج العراق من أزمات كثيرة لا حصر لها. وهذا يتطلب مرحلة تاريخية ليست بالقصيرة. يعاد خلالها تركيب التشكيلات الاجتماعية – الاقتصادية ويزداد خلالها التنوع وعملية التقدم لصالح الشعب العراقي وأيضا قواه السياسية. كي تتحول من نسق مغلق لتكون قادرة على حل تناقضاتها الداخلية وتحديث أشكالها التنظيمية والفكرية بعد أن تجد نفسها ضمن حاملها الطبيعي وتستقرأ دورة الخراب السياسية التي تعرض لها الوطن منذ نشوء الدولة العراقية.
أذن من الضروري معاينة واستقراء السؤال الأكثر حراجة وإلحاح ويفرض التحدي الأكثر واقعية ، والذي يوجه بالذات الى مجموعة السبعة وغيرهم من القوى السياسية العراقية والذي من الموجب أن يكون الجواب عليه ملما بمجريات الوقائع وحراك المجتمع العراقي في ظل الاحتلال والتباس الأوضاع.
هل أن تلك الأحزاب السياسية العراقية قادرة فعلا على إدارة الدولة العراقية وإيصالها الى بر الأمان في ظل كل هذا الإرث من الوهن والمشاكل والصراعات ؟؟؟