|
ديكتاتورية غريبة: في نقد فيفيان فوريستير لليبرالية المتوحشة... 5 من 8
عبداللطيف هسوف
الحوار المتمدن-العدد: 1745 - 2006 / 11 / 25 - 11:55
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
لا يهم إن أصبح مصطلح (اقتصاد السوق) لا يستجيب للتعريف الذي نجده في أدبيات علم الاقتصاد! لا يهم إن أصبح الاقتصاد اليوم يخضع لإيديولوجية وحيدة لا تقبل أي سلطة مضادة وتتخفى وراء ما يسمى بالعولمة! إنها في الحقيقة وضعية غريبة! ومع ذلك فإننا نعيش في ظل نظام ديمقراطي. وإن كانت هذه الديمقراطية مشوهة، إلا أنها على الأقل موجودة. ومن دون أن يتغير أي شيء بهذا الخصوص: المناخ، البنيات والحريات الديمقراطية، أخذت هذه الديكتاتورية الغريبة مكانها بين ظهرانينا، لدرجة أن أولوياتها أصبحت كما لو أنها قانونا منزها. إنها ديكتاتورية من غير ديكتاتوريين! إنها إيديولوجيا الربح التي فرضت نفسها دون أن تعلن عن أهداف معينة، اللهم سيطرتها الجشعة على عالم المال. هذه الإيديولوجية لا تطمح إلى امتلاك السلطة، لكنها مع ذلك تسيطر على كل ساسة العالم بالقضاء نهائيا على استقلالهم الذاتي. حقا إن هؤلاء الساسة يتخذون في الظاهر القرارات ويقومون بالتسيير والتدبير، إلا أن ذلك يتم بتوجيه (إرهاب مالي) ينزع منهم أي حق في الحرية والاختيار. هكذا فإن الطبقة السياسية تجد نفسها مختنقة تماما لا تقوى على اتخاذ أي قرار يعارض أصحاب المصالح المالية المسيطرين على العالم. ما العمل إذن؟ مع كل ما قلناه، يمكن للطبقة السياسية أن تلعب دورا مهما، شريطة أن يوجهها ويساندها الرأي العام. نعم إن هناك وعي شعبي عالمي مضاد في غالبيته للفكر الليبرالي، إلا أنه لا يعي حتى اليوم مدى انتشاره. هذا الوعي الذي بدأ يتشكل عالميا هو وحده القادر على مساعدة الطبقة السياسية النظيفة للعب الدور المنوط بها. تسريح العمال، إعادة البناء، ترحيل الوحدات المصنعية، اندماج المقاولات، الخصخصة، المضاربة...إلخ، كلها إجراءات مخلة بالشغل. لكن، ولأنها تخدم الربح، وتضخم المردودية والنمو، فهي تعد ضرورية لخلق مناصب الشغل من جديد. هذا ما يدعيه الليبراليون. نقول بدورنا: ليس اختفاء مناصب الشغل هو الأخطر في هذه العملية، بل ظروف العيش المهينة، الإقصاء والمعاملة السيئة التي يعامل بها الموقوفون عن الشغل، بالإضافة للرعب الذي يتحكم في العدد الكبير من المهددين بفقد عملهم. هؤلاء جميعا يخضعون لمضايقات متواصلة. ترديد شعار (الشغل حق مشروع للجميع) وهم ما بعده وهم. الدعاية تعطينا الحق فقط في اجترار مثل هذه العبارات واعتبارها حقيقة مطلقة. إنها إيتوبيا يتضمنها إعلان حقوق الإنسان الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من ديسمبر 1948 م، والذي ينص في فقرته 23 على ما يلي: 1- لكل فرد الحق في العمل، في الاختيار الحر للعمل، في الاستفادة من ظروف عادلة ومقنعة، في الحماية من البطالة. 2- الجميع لهم الحق، دون أي تمييز، في أجرة متكافئة مع قيمة العمل المؤدى. 3- لكل الحق في أجرة عادلة تكفي لتغطية مصارفه ومصارف عائلته، وتكفي لحياة إنسانية كريمة وتكمل، عند الضرورة، بوسائل حماية اجتماعية أخرى. يظهر لنا إذن الإدعاء الذي تتضمنه هذه الفقرة. لقد تم تناسي الحق في العمل وإنكار كرامة الإنسان. هذه الكرامة التي لا يجب أن تسقط بالعمل أو بعدمه. فإذا سلب من الأفراد منصب الشغل، وإذا انتزع منهم الحق في العمل، وإذا تقاعس المجتمع في توفير الظروف لذلك، لماذا إذن نحاسبهم ونعتبرهم عالة يجب التخلص منها بأية طريقة. ما هو الحل إذن؟ يجب اعتبار حالة الطوارئ القصوى ورصد الآليات اللازمة، لكن هذه المرة باستمرار حتى تجتث هذه الوضعية الغير العادية من الجذور. إذا كانت هذه الحواجز موجودة في فرنسا (القوة الاقتصادية الرابعة في العالم)، وفي الولايات المتحدة الأمريكية (القوة الاقتصادية الأولى)، فلأن شيئا ما غير طبيعي يسيطر على هذا الكون. وللخروج من هذه الأزمة والحصول على مجتمع ملائم، يجب خلق نفقات قد تقلص الميزانيات الموجهة بالأساس نحو الربح الخاص. إن الثروات حقا موجودة، ما ينقص هو العدل في مسألة توزيعها. وإذا تسبب ذلك في قلب توازن الليبرالية المتوحشة (الموجة نحو أولويات أخرى، لا اجتماعية ولا إنسانية على كل حال)، فإنه سيعمل على إقرار نوع من الاقتصاد الحقيقي. إنه مبتغى يمكن الوصول إليه بسهولة أكبر من التحايلات المنسوجة حول المضاربات. هذا، في الواقع، سيكون رد فعل لمواجهة التسلط الذي يمارسه نظام الليبرالية الفائقة على عالم يتقاضى فيه 1,3 مليار شخص أجرا يوميا لا يتجاوز دولارا واحدا. هذا في البلدان الفقيرة، أما في البلدان الغنية فعدد الفقراء في تزايد مذهل (ثمانية ملايين فقيرا في فرنسا)، في حين أن القيم في البورصة هي الوحيدة التي تعرف تزايدا فاجرا. لا شيء يمكنه أن يبرر اغتناء أفراد يعدون على رؤوس الأصابع على حساب الفئات الشعبية العريضة. لنعط أمثلة، على سبيل الذكر لا الحصر، عن هذا التوجه الذي تسلكه المقاولات اليوم، أي تسريح العمال بالجملة. - في 7 نونبر 1998 : طردت شركة سوجينال 250 عاملا من بين 1200 مأجورا. - في 12 نونبر: طردت شركة كومنز وارتسيل 500 عاملا من بين 700 مأجورا. - في 13 نونبر: سرح 3000 عاملا من شركة شال. - في 21 نونبر: أغلقت شركة سييتا معملين وتحذف 500 منصب شغل. - في 26 نونببر: تلاحمت طومسون وداسولت إليكترونيك ليتم طرد 1300 مأجورا. - في 28 نونبر: مونبري في باريس يطرد 300 عاملا من بين 1200. - في 30 نونبر: حذفت الروفر 2500 مأجورا. - في الأول من دجنبر: تقلص بوينغ عدد عمالها بنسبة 5 في المائة ( 48000 منصب شغل يحذف ). تتلاحم شركتي إكسون وموبيل ليتقلص عدد العمال بنسبة 7 في المائة ( حذف 9000 منصب شغل ). - في 3 دجنبر: حذفت شركة باناسونيك 600 منصب شغل. - في 5 دجنبر : يسرح 5800 عاملا من شركة جونسون أند جونسون... - في 17 دجنبر: قلصت شركة مجموعة سيتي عدد عمالها بنسبة 5 في المائة (حذف 10400 منصب شغل)...الخ. أي دور تلعبه الدولة للحد من هذه الظاهرة الغريبة؟ تدعم الدولة الشركات التي تسرح العمال وتقدم لها العون حتى يتوقفوا على ذلك. لكن من يؤدي الثمن؟ بالطبع المجتمع المدني. العمال يشتغلون ليؤدوا أجرة زملائهم. وحتى بدعم الدولة تواصل الشركات طرد العمال عندما لا يتطابق الربح مع الحفاظ على مناصبهم.
------------------------ ملحق: ------- فيفيان فورستير( VIVIANE FORRESTER ) روائية في الأصل، كاتبة وناقدة في صحيفة لوموند الفرنسية وعضوة في لجنة تحكيم جائزة فيمينا ( Prix Fémina ). أصدرت عدة كتب أدبية منذ سنة 1970: (فان غوغ أو الدفن في حقول القمح)، (عنف الصمت) ، (هذا المساء، بعد الحرب)، (عين الليل)، (أيادي)...إلخ. لكنها قررت سنة 1996 مساءلة الأفكار الاقتصادية والتوجهات السياسية بكتابها الذي حاز شهرة واسعة : (الرعب الاقتصادي). كتاب حصل في نفس السنة على جائزة ميديسيس ( Prix Médicis ) وترجم بعد ذلك إلى 24 لغة. في شهر فبراير سنة 2000، يصدر لفوريستر كتاب آخر ينتقد الليبرالية في شكلها المعاصر تحت عنوان: (ديكتاتورية غريبة). تقول فوريستير: إننا نعيش اليوم تحت سيطرة ما يسمى بالعولمة ونرزح تحت ثقل نظام سياسي كوني وأحادي التوجه. هذا النظام يتخفى تحت غطاء الليبرالية المتوحشة التي تتحكم في العولمة وتستغلها لصالح عدد محدود وضد مصالح الفئات الشعبية الواسعة. تنتقد فوريستر في هذا الكتاب الفكرة القائلة بأن الاقتصاد يهيمن على السياسة، و تبين أن هذه السياسة المهيمنة والأحادية التوجه تخرب اليوم الاقتصاد لصالح المضاربة، لصالح الربح الذي أصبح متعارضا مع توفير الشغل، مع كل ما يتعلق بالمجال الاجتماعي (الصحة، التربية والتعليم... الخ)، بل ضد كل ما يرتبط بالحضارة الإنسانية. ترد فيفيان فورستير على الدعاية الغربية التي تروج خطأ بأن البطالة تكاد تنعدم في الولايات المتحدة الأمريكية فتقول : (نعم لقد تقلصت البطالة مقابل ارتفاع عدد الفقراء، حتى وإن كانوا يتوفرون على شغل. إنهم في الحقيقة يمولون بطالتهم وفقرهم). إنها دعوة لمقاومة هذه الديكتاتورية الغريبة التي تقصي عددا كبيرا من الاستفادة من التقدم الذي حققته الإنسانية. نعم يمكن مقاومتها لأنها تحافظ رغم ذلك على تمظهراتها الديمقراطية: إنه في آن واحد الفخ والأمل المنشود.
#عبداللطيف_هسوف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ديكتاتورية غريبة: في نقد فيفيان فوريستير لليبرالية المتوحشة.
...
-
ديكتاتورية غريبة: في نقد فيفيان فوريستير لليبرالية المتوحشة
...
-
ديكتاتورية غريبة: في نقد فيفيان فوريستير لليبرالية المتوحشة
...
-
ديكتاتورية غريبة: في نقد فيفيان فوريستير لليبيرالية المتوحشة
...
-
هل سيحكم النساء العالم بعد أن فشل الرجال؟ سيكولين رويال تفوز
...
-
المغرب: أحزاب سياسية مريضة يسيرها زعماء لا ديمقراطيون
-
المغرب الكبير: بين تغييب البعد الأمازيغي واللعب على وتر العد
...
-
الأحزاب المغربية لا ترشح للانتخابات سوى مرتزقين وانتهازيين ج
...
-
الأمريكيون يحاسبون رئيسهم بوش عن سياساته الرعناء - إقالة وزي
...
-
اتحاد المغرب (العربي) الكبير: ضخامة تكلفة انقسام
-
المغرب (العربي) الكبير مؤجل إلى حين: السعي وراء زعامات فارغة
...
-
المغرب خلال عشر سنوات الأخيرة: تعددية حزبية مفبركة وحكومة تن
...
-
حزب الاتحاد الاشتراكي المغربي: انفتاح على فعاليات وطنية بديل
...
-
المغرب: انعدام الأمن وإرهاب المواطنين في وضح النهار، من المس
...
-
في الكتابة وعشق الكلام المرصع
-
الثماني المباركون في القاهرة يتآمرون على الرباعي المنبوذ بحض
...
-
عروبة مفقودة
-
الدين الرسمي وأحزاب اليسار في مواجهة الأحزاب الإسلاموية: ردو
...
-
شافيز ذاك الرئيس المدهش: وصف بوش بالشيطان ودعا الأمريكيين لق
...
-
توالد الذرائع بعد ذريعة 11 سبتمبر
المزيد.....
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
-
-استهداف قوات إسرائيلية 10 مرات وقاعدة لأول مرة-..-حزب الله-
...
-
-التايمز-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي لن
...
-
مصادر عبرية: صلية صاروخية أطلقت من لبنان وسقطت في حيفا
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|