|
ديهيا - القديسة -
عساسي عبد الحميد
الحوار المتمدن-العدد: 1746 - 2006 / 11 / 26 - 07:54
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حدث ذلك منذ سنين عديدة،أيام كنت طفلة في ميعة الصبا ، لقد أعطتني أمي سلة و قالت لي اذهبي يا تودا إلى بستاننا عند وادي الصفصاف،واملئي سلتك عنبا و تينا و رمانا ، كان أبي يومها مريضا طريح الفراش، وكانت أمي قلقة عليه ، وكنا نقوم بكل الأعمال نيابة عنه ، وفيما أنا وسط الكرم تراءت أمام عيني الملكة العظيمة قادمة نحو بستاننا ممتطية صهوة حصان أبيض جميل وكانت ساطعة كشمس أيلول، بهية كشجرة لوز مزهرة وكان شعرها الفاحم الطويل يتطاير من ورائها في الهواء فبدت ككائن علوي عجيب يحل بين الربوع حاملا بشائر الخير والعطاء في موسم الحصاد و القطاف ، وناثرا بذور الحب والوفاء في غرة الأعياد و الأعراس ، نعم....لقد راقتني هيئة الملكة و هي ممتطية حصانها الجميل ، وما زالت صورتها ماثلة في خيالي إلى يومنا هذا .....
ترجلت" ديهيا " تاركة حصانها حرا طليقا ، لأنها لم تكن من عادتها أن تعقل الجياد، فحيتني تحية الصباح ثم خطت لبضع خطوات واتجهت صوب سنديانة عتيقة لتجلس تحت ظلها مسندة ظهرها على جدعها العريض، هرعت نحو سلتي المملوءة وأحضرت عنقودا كبيرا من العنب الطري و أعطيته للملكة فتناولته مني مبتسمة ابتسامة عذبة رقيقة، وناولتها ماء باردا زلالا ، وسقيت حصانها أطعمته حشائشا و شعيرا، ووقفت أرقب الملكة عن بعد و أنظر إليها بشغف كبير لأنها كانت رائعة و جميلة وتنفذ إلى الأعماق بسحر عجيب،التفتت نحوي ونادت علي فأسرعت ووقفت أمامها فبدأت تتلمس ضفائر شعري وتتفرس ملامح وجهي و ترسل بنظراتها إلى أعماق عيني ، ثم قالت لي : كيف حال والدك اليوم يا " تودا" ؟ فأجبت، إنه مريض يا خالة و ما زالت الحمى تلازمه منذ أيام ، فقالت لي :بلغيه سلامي و قولي له إن "ديهيا " ابنة الجبل و الغابة ستدعو لك الإله العظيم من أعماق روحها و بكامل قوتها لكي تشفى و تعود قريبا ليدرك و كرمك و ثيرانك، ولكي تلامس يداك الفأس و المحراث في موسم الحرث القادم، فقلت لها :نعم ...سأفعل يا خالة ، سأفعل ... نهضت الملكة ورفعت يديها عاليا ملوحة لحصانها ، فأقبل هذا الأخير طائعا مسرعا ، ووقف بجانبها دونما حراك فامتطت صهوته و انطلقت كالشهاب بين تلك المنعرجات ، وكانت الجبال و الأودية تردد صدى صهيل ذلك الحصان ووقع حوافره المنتظمة .
عند الصباح نهض أبي نشيطا معافى في كامل صحته و عنفوانه و اتجه نحو الثيران ليقودها صوب الحقول ، وكانت فرحتنا لا تضاهيها فرحة، لقد أيقنا حينئذ أن الملكة قد صلت بحرارة طول الليل من أجل شفاء والدي.
لقد كنا نرى الملكة " ديهيا " مرارا على طريق وادي الصفصاف ، أو قرب الغدير عندما كنت أذهب لأملأ جرتي من مائه العذب ، وعند طرف الغابة عندما كنت أصحب أبي لإحضار الحطب ، و أحيانا كنا نراها أنا و صبايا القرية وحيدة تجلس على الصخر ، تتأمل زرقة السماء و قمم الجبال المسننة ، وكانت رائعة و عظيمة في وحدتها و خلوتها. نعم...هكذا كانت حياتنا بسيطة بجوار ملكة عظيمة فريدة، لصيقة بالناس، وقريبة من القلوب ،إلى أن اختفت فجأة لأيام عديدة ، لقد كان الأعداء يترصدونها و يتعقبون آثارها ليل نهار بين الغابات الكثيفة و الأودية العميقة ، ويلقون القبض على أتباعها ومن يؤمن بخوارقها .... وذات مساء دخل علينا والدي كئيبا حزينا و حكى لنا آخر أخبار ديهيا ...لقد رحلت الملكة العظيمة ، نعم لقد رحلت ...ولن يعد بمقدورنا أن نراها ثانية، لقد قاومت بشجاعة ناذرة وكانت مكابرة و عنيدة رغم أنها ظلت وحيدة وسط غابة من السيوف والرماح فانهالت عليها الضربات واخترقتها الطعنات وسالت دمائها الزكية لتطوق بئرا عن كاملها، لقد مزق الحزن قلوبنا حتى الموت، ولأول مرة رأيت أبي يبكي بحرارة ...
لقد كانت ل "ديهيا"روح ذات وجهين وجه يحب الزهور وابتسامة الأطفال وعبق الأرز و السنديان في وقت السلم والأمان ، ووجه غاضب كالشلال الهادر و مزمجر كالرعد المدوي في زمن الحرب والسجال....وجه قديسة وديعة هادئة تبعث الأمان والهدوء في النفوس والقلوب، ووجه آخر لمقاتلة شرسة تصيح صيحة النخوة الغضب وترفع سيف العز والكرامة في وجه الظلم والجبروت.... وبعد مرور كل هاته السنين يمكنني أن أقول جازمة بأن رحيل ديهيا ليس نهاية، بل بداية طريق جديد لأن الملكة الخالدة ستعود لتسكن قلوب أحفادنا في "تامزغا" العظيمة وستكون لها قدرة أكثر للتواصل مع أحبائها وبني جلدتها ولو بعد حين ... لقد أحببنا ديهيا من أعماق قلوبنا وبادلتنا الحب بالحب والوفاء بالوفاء ، وستظل سيدة الجبال سر مقدسا في وجداننا وأنشودة خالدة على شفاهنا ....
3- بعد مرور أربعة عشر قرنا :
يامن رفعت كأس الحب بيمينها، ونثرت زهور الأحلام بيسارها وسكبت بلطف متناه نسائم الربيع و عبق الغابات بين جنبات قلوبنا و على تلال أفكارنا، أيتها الساكنة ذكراها دوما في حنين الغريب و شوق المحب، يا من انتخت لكرامة الجبال و شرف الأودية ، ورفعت سيفها البتار في وجه الأعداء والدخلاء ..
سبع مرات قد ولدت وسبع مرات قد رحلت وبين كل رحيل و ولادة ألف ألف مخاض ...وفي كل ولادة أو يقظة كنت أراك إما مارقة تسلك درب الشر والرذيلة ، فأصدق كلام الفقيه وألعنك من صميم روحي ...وإما مخلوقة ذميمة تنشد الكهوف والمغاور والأودية ، فأنفر منك وأنحني إجلالا لمن كتبوا لنا التاريخ و المهزلة...وإما ساحرة هائمة على وجهها ليلا بين شعاب موحشة تنقب عن نبت غريب أو بذر ناذرة لتصنع من عصارتها سما و ترياقا و أرغفة ...... وصدقت يا سيدتي ما قيل عنك من الكلام وما حكاه عنك الفقيه والوالي و الإمام وصدقت أن روحك شريرة تعشق الخراب و ترتاح للموت والدمار....
وبين اليقظة والرحيل كانت أصابع يديك تلمس أعماق روحي ، وكان قبس نورك يغمر كياني فأستفيق و أستكين لأراك مشرقة بهية في أروع صورة وأجمل حلة.... يا سيدة الكائنات... يقولون أننا نريد أن نعيد تامزغا إلى عصر الكاهنة أي عصرك يا سيدتي ، و يا ليتهم يدرون ما يقولون ، فهم صم بكم عمي لا يفقهون ، لأنهم يتناسون و يتجاهلون أن ربوعنا الجميلة كانت في عهدك ، بل ومنذ الخليقة معطاءة فياضة مرحبة بالغريب كريمة مع الوافد المسالم و سموحة و حليمة حتى مع المخطئين ، وكان أسلافنا العظام المخلدة أرواحهم في العلياء يمنحون الجوار والأمان لكل من أم أرض الأمازيغ واتخذ منها موطنا و مقاما ... إنها ذروة الأريحية و قمة السخاء ..ولأننا هكذا فقد باركنا الإله و عظم الوطن الخالد في كل حبة من ترابه و قطرة من مائه و نسمة من هوائه ذلك الإله الذي كنت تتحدثين عنه بحماس منقطع النظير ،وكنت تخبريننا عن حكمته الفائقة وقدوته اللامتناهية و عن حضوره الدائم في كل نسمة تدب وكل عرق ينبض ، ذلك الإله الذي يمنح القداسة للأم الرءوم ويرافق رعاة الغنم صوب المروج الخضراء والحطابين نحو الغابات ، ويكون أنيس الفلاح في بيدره و معصرته .....يهدهد جفون الأطفال عند حلول المساء، لقد كنت تصلين للإله بحرارة، فكانت صلواتك حرة مجنحة، لا تحبسها قضبان الكلمات و لا جدران الحركات، فكانت تنفذ إلى قلب السماء مع نور الشمس و ضوء القمر لترددها معك الغيوم و النجوم و تمتزج مع أنفاس الصنوبر و الياسمين ليترنم بها كل شبر من ربوعنا الجميلة ... يا سيدة تامزغا الخالدة.... لروحك العظيمة منا سلاما حارا كحرارة اللقاء، و حرا كحرية شعبك الصامد الأبي ....فطوبى للأرض التي أنبتتك ، وللبطن الذي حملك والثدي الذي أرضعك وليتمجد إلهنا العظيم رب السماء والأرض....
#عساسي_عبد_الحميد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إلى روح الملكة الأمازيغية - ديهيا -
-
المحاكم الإسلامية بالصومال.... والكائنات الممسوخة
-
لن نضرب كفا بكف، و نقول عفا الله عما سلف.....
-
السيف...
-
السبت في الذاكرة اليهودية المغربية
-
الطاعون و خز أعدائكم من الجن ...حديث صحيح
المزيد.....
-
الحكومة الإسرائيلية تقر بالإجماع فرض عقوبات على صحيفة -هآرتس
...
-
الإمارات تكشف هوية المتورطين في مقتل الحاخام الإسرائيلي-المو
...
-
غوتيريش يدين استخدام الألغام المضادة للأفراد في نزاع أوكراني
...
-
انتظرته والدته لعام وشهرين ووصل إليها جثة هامدة
-
خمسة معتقدات خاطئة عن كسور العظام
-
عشرات الآلاف من أنصار عمران خان يقتربون من إسلام أباد التي أ
...
-
روسيا تضرب تجمعات أوكرانية وتدمر معدات عسكرية في 141 موقعًا
...
-
عاصفة -بيرت- تخلّف قتلى ودمارا في بريطانيا (فيديو)
-
مصر.. أرملة ملحن مشهور تتحدث بعد مشاجرة أثناء دفنه واتهامات
...
-
السجن لشاب كوري تعمّد زيادة وزنه ليتهرب من الخدمة العسكرية!
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|