تبين الدراسات الاقتصادية أن معدل دخل الفرد في سورية ينخفض عنه في مختلف الدول العربية غير النفطية باستثناء اليمن وموريتانيا والسودان. كما أنّ معدل نمو الاقتصاد السوري في نهاية تسعينيات القرن العشرين تراجع عن معدلات النمو في السبعينيات، مع انخفاض المساعدات الخارجية والقصور في عمل مؤسسات القطاع العام .. وينجم عن ذلك انعكاسات اجتماعية سلبية ، وارتفاع في معدل البطالة وانخفاض وتراجع في مستوى المعيشة ، وعدم إمكانية الاقتصاد الوطني السوري على الانخراط في عملية المنافسة التي أصبحت من ضرورات التطور الاقتصادي ومواكبة التطور العالمي ..
ونتيجة لذلك بدأت تطرح أسئلة جدية وملحة حول كيفية معالجة آثار الركود الاقتصادي التي تأخذ مظاهر اجتماعية بعضها لم تعهده سورية منذ عقود من الزمن ، ليس في تقلص وشبه انعدام الطبقة الوسطى فقط ، بل في التزايد المضطرد لعدد الذين يعيشون على تخوم ودون مستوى حد الفقر .. والحاجة لتأمين فرص عمل سنوية لما يزيد عن 200 ألف شخص ، مع ضرورة تحقيق توازن بين الأجور والأسعار .. كل ذلك في إطار المتطلبات الجديدة لاتفاقيات التجارة الحرة مع الدول العربية ، وتطوير العمل الاقتصادي العربي المشترك ، وتوقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي ومنظمة التجارة العالمية ، وولوج عصر اقتصاد المعلومات ..
يُرجع الباحثون في أسباب الركود وضعف النمو الاقتصادي في سورية جوهر تلك الأسباب إلى تلك التشريعات والقوانين التي صيغت إبان مرحلة التخطيط المركزي ، والتي لم تعد تسمح بمواكبة متطلبات التطور الاقتصادي السليم .. والتي تقود إلى ضعف الرغبة في الاستثمار الخاص، ومرد ذلك كما يؤكد الباحثون الاقتصاديون إلى أزمة ثقة ، وليس أزمة سيولة مالية ، وأزمة الثقة هذه "ناتجة عن عدم الوضوح بالنسبة للتوجه الاقتصادي الحقيقي للدولة وغياب برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل والهادف إلى لبرلة الاقتصاد الوطني. "(1)
عوائق الإصلاح؟
بناء على ما تقدم فإنّه منذ أكثر من عقد من الزمن والجميع في سورية مواطنون ومسؤولون يقرون بضرورة الإصلاح الاقتصادي الاجتماعي في البلاد . عقدت عشرات إن لم يكن المئات من الندوات والمؤتمرات ، وأهدرت الآلاف من الصفحات في الصحف والكتب والدوريات ، وأصدرت العديد من القوانين ، فضلاً عن إهدار أكثر من عقد الزمن ، ولم يحصل الإصلاح المطلوب ..
إنّ استمرار الضعف في معدلات النمو يدل على أنّ كل الخطوات والقوانين والمساعي الإصلاحية التي تمت وتتم منذ أكثر من عقد من الزمن في سورية لم تحل الأزمة التي يعاني منها الاقتصاد الوطني ، إذ أنّه "لولا أموال النفط، حديثة العهد، لكانت معدلات النمو سالبة، حيث تخفي أموال النفط هذه، مثلما كانت تخفي المساعدات الخارجية في السابق، الخلل الجوهري في البيئة التنظيمية والتشريعية للاقتصاد الوطني والجمود في بنيته الإنتاجية."(2)
ويبقى السؤال : لماذا لم نستطع تحقيق الإصلاح ، وكيف السبيل لعدم إضاعة عقد آخر من الزمن ؟!
قبل الجواب على هذا السؤال ، نقول إنّ أي عمل أو إصلاح قبل تحقيقه في الواقع يحتاج إلى إرادة ورؤية وتصور وأهداف له .. ما هي الأسس الفكرية والعملية التي سيبنى عليها ، أهي نفس الأسس التي يعمل بها منذ خمسينات القرن الماضي ، أم أسس فكرية وعملية عصرية تواكب التطور الذي حصل ويحصل يومياً في العالم .. ما هي الأهداف المحددة التي نبغي تحقيقها والتي تستطيع جذب وحشد المواطنين لتحقيقها ؟.. باختصار نحتاج إلى فكر وفلسفة ومنهج للإصلاح والتغيير ..
لقد أثبتت التجربة أنّ الرؤية الديموقراطية لآلية الإصلاح والتغيير هي الرؤية الدينامية السليمة والمجدية والقابلة للحياة ، أما البحث في كيفية نفخ الروح في البنى والمؤسسات المتكلسة التي أثبتت الحياة عدم جدارتها في تحقيق التطور والنمو ، فهو هدر للإمكانيات ومضيعة للوقت ..
ونظراً للعلاقة المتبادلة بين الاقتصاد والسياسة ، فإنّ غياب الفكر السياسي والإصلاحي السياسي الملائم للإصلاح الاقتصادي ، يفرغ خطوات الإصلاح من محتواها .. وهذا ما يحصل نتيجة عدم ترافق محاولات الإصلاح بوجود فكر اقتصادي يرسم الأفق الاستراتيجي لهذا الإصلاح ، فضلاً عن وجود قوى ذات مركز مقرر في الموقع السياسي تستفيد من الحالة الاقتصادية الراكدة ، ولها مصلحة في بقائها على حالها ، فترفع شعارات سياسية وتختبئ كما يقول الباحث الاقتصادي الدكتور نبيل سكر " تحت عباءة (الحفاظ على اللحمة الوطنية) أو (الخصوصية السورية) أو (المعركة مع العدو) لعرقلة أو لمنع التغيير حفاظاً على هذه المصالح المكتسبة. " فضلاً عن الخوف من أن يسبب الإصلاح الاقتصادي تبعات اجتماعية وسياسية، والخوف على الصناعة المحلية من المنافسة الخارجية. ووجود أسباب ظروف التوتر الإقليمي التي تقوي حجة المنادين بضرورة البقاء على قبضة الدولة القوية ..
إن الواقع الاجتماعي السياسي الذي يعيشه المجتمع السوري ، وحجم التحديات الخارجية والداخلية الكبيرة التي تواجه البلاد ، يبين أنّه إذا أريد للإصلاح في سورية أن يصل إلى مبتغاه ، في معالجة مجمل مكامن الخلل والضعف في البلاد ويزيد من منعتها ، فلا بد من أن يستند على إرادة جماهيرية واسعة تعي أهمية وضرورة الإصلاح ، عبر مؤسسات اجتماعية معافاة تعبر عن إرادة الناس وتلبي طموحاتهم العامة والذاتية ، وهي ما تعرف بمؤسسات المجتمع المدني .. وللوصول إلى هذه الحالة لا بد من إصلاح سياسي في الفكر والممارسة .. إذ أنّه لا يمكن ولوج القرن الواحد والعشرين بالاستناد إلى فكر القرن التاسع عشر فحسب ..
إنّ الكثير من القوانين التي تم تبنيها على طريق الإصلاح في السنوات السابقة ، التي طالما ترقبها المواطنون ، لما لها من آثار اجتماعية واقتصادية تمس مصالح وحياة الناس ، كانت تحتاج للتعديل فور صدورها ، وبعضها لم يحقق الغاية المرجوة منه .. وإن دلّ ذلك على شيء فإنّه يدل على أن طرق وآلية صياغة وتبني هذه القوانين تحتاج إلى إعادة نظر .. والمطلوب هو اتباع الأساليب الديموقراطية في طرح مشاريع هذه القوانين على الرأي العام ومناقشتها بشكل علني وجماهيري في مؤسسات المجتمع المدني ، قبل إقرارها ..
وهذا يؤكد ما قلناه من إنّ تجربة السنوات الماضية تؤكد على أن أي إصلاح لا يترافق مع إصلاح فكري وسياسي سيبقى ناقصاً ولن يصل إلى مبتغاه .. وأساس الإصلاح السياسي يكمن في تبني منطلقات سياسية صحيحة للوصول إلى بنية اجتماعية اقتصادية دينامية متطورة تساعد في رفع وتائر النمو ، لخصتها التجربة الإنسانية بالآلية الديموقراطية ، التي تؤمن عملية وآلية " استقلال السلطة السياسية عن السلطة الاقتصادية ، تشكل أيضاً وبالأساس ضمانة لغير مالكي وسائل الإنتاج أو لغير الرأسماليين في تكوين قوة مقابلة سياسية أو نقابية ، تحميهم من السلطة المطلقة لأصحاب السلطة الاقتصادية . وهذا هو الدور الذي تلعبه ولعبته الأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات المجتمع المدني في الديموقراطيات الغربية، والذي سمح بنشوء نظم سياسة تنحو نحو مزيد من العدالة الاجتماعية والمساواة بين الأفراد ."(3)
ليس المطلوب تقليد البلدان الأخرى ولا استيراد نماذج جاهزة ، بل لا بد من الأخذ بالحسبان كافة مشاكلنا الاجتماعية والاقتصادية ، وظروفنا الثقافية والتحديات الإقليمية والدولية التي تواجهنا ، والتي لا يمكن مواجهتها بمعزل عن مجتمع ذي بنى دينامية متطورة ديموقراطياً . تلعب فيها الدولة الحكم المعالج لمسائل الفروق الطبقية ، من خلال دورها في إعادة توزيع الدخل عبر مختلف أشكال الخدمات الاجتماعية ، وعبر عملية التنمية البشرية المبنية على الحرية والمساواة القانونية والعدالة الاجتماعية .. ولن يتحقق ذلك من دون إصلاح ديموقراطي سياسي وفكري معروفة خطواته ..
الهوامش :
(1) (2) ـ د.نبيل سكر : الاقتصاد السوري إلى أين؟ ـ السفير اللبنانية 14+15/6/2003
(3) برهان غليون ـ الاختيار الديموقراطي في سورية
طرطوس 18/6/2003
[email protected]