|
تجربة المتشائل إبداع تحت الشمس
أحمد الفيتوري
الحوار المتمدن-العدد: 1747 - 2006 / 11 / 27 - 10:24
المحور:
الادب والفن
" إلى الصديق القاص جمعة بوكليب " لم تكن التجربة حصيلة وعي الذات بالوجود ، بما فيه وجودها فحسب ، بل إن التجربة هي " الوسيط الوحيد بين الذات والموضوع " . وإذا كانت الطبيعة نسق وتكرار ، وإذا كانت " المتغيرات الجيولوجيه تبدو مجانية للوهلة الأولى " ، فإننا نتلقى الواقع بشكله الأول والفج على هذا النسق الطبيعي ، وبشكل هذه " المتغيرات الجيولوجيه " ؛ أى أن التجربة هي الوعي الأول ، هى إكتشاف الذات كمعطى موضوعي . إن البحر يمنح الذات ذاتها عبر إكتشافنا له كموضوع مغاير لما نحن عليه ، كموضوع خارجى . فى هذا " الانعكاس الذى لانتبين تداخله تنبثق التجربه فنقول : " للبحر رهبة الصمت " أو " للبحر هدوء العاصفة " أو " البحر سماء سائلة " . إن هذا " الوسيط الوحيد " هو الذى نكتشف من خلاله معنى الموضوع ، بمعنى أن تراكم التجربة يتحول إلى معرفة بشكل نسقى ، فما يبدو مجافيا يشكل موضوعيا المعنى فى الذات العاقلة بتحوله الكيفي عبر التراكم المتصل ، فالعلاقة ( متكاملة بين اليد وبين العقل منذ البداية ) ، وهكذا فالتجربة معنى إنساني لأن الإنسان ( بتعلمه كيف تحدث الاشياء ، عرف كيف يجعلها تحدث ) . وعلى ذلك فالتجربة تتم من خلال وقوع حادث جديد تحت الملاحظة ، ويبقى هذا الحادث مدلهما ومبهما حتى نكتشف معناه من خلال أهميته من عدمها ، أي أن الموضوع قد تمت معرفته ، لكن كمعطى خارجي ( وصفى ) ، ولكن الرحلة الثانية – إن صحت التسمية - هي إكتشاف معنى الموضوع ، أى دلالته والتى قد تتم بشكل تراكمي ، أو كيفي مبنى على تراكم سابق وغير باشر ، وهنا نقول : إبداع . ونصوغ الجملة السابقة بكيفية أخرى لنتبين معنى الإبداع الذى نعنيه فنقول : إن الإبداع لا يعني أن حادثا جديداً قد وقع تحت الملاحظة ، بل أهمية وتعلقا جديداً قد نسب للملاحظة بحيث شكلت واقعة . إن الطفل ابن التجربة ، كما أنه ابن الطبيعة ، بمعنى أن الطفل يكتشف الاشياء - كالانسان في عموم عمره - من خلال حواسه ولكن عن طريق التكرار ، ثم تأتى مرحلة الابتكار والتى تتربى عنده عبر إنماء مخيلته ، لأن الخيال سيد الابداع ، فالخيال هو " الذى يصوغ القوالب التى يستخدمها الإنسان ليفرغ فيها معطيات الواقع الغليظة وحوادثه الغفل من المغزى ، ويعدها فى نماذج تحقق له أهدافه " ، ومن هنا أحس بصحة القول أن الطفل فنان ، من حيث أنه يتلقى العالم عبر الصور ، والفن هو ( تفكير بالصور ) كما يقول بلينسكي . إن الطفل الذى يتلقى العالم - عبر " الوسيط الوحيد " - صوراً ، هو ذاته الممتلئ " بمبدأ العلّية والذى يلح عليه بحيث لا يكف عن السؤال : لماذا ؟ ، ولذا فأن التجربة هي العلم وتقنينه في المرحلة الإنسانيه الأولى ، أى أن التجربة كمعطى أول هى اللحظة البدائيه في إكتشاف الموضوع وانعكاسه على الذات ، وبالتالى كان السحر تعليلا للظاهرة المكتشفه ، كان " تقنينا للذهول " . وكان الخيال حصان العربة والذى لا يمكن أن يكون إلا أمامها فى حركة تطور البشرية ، حتى ان كان نهج هذا الحصان هو السحر ، وكان الإبداع هو تفسير العالم تفسيراً أسطورياً ، بمعنى أن التجربة المكثفة – كتجربة أولى – منحت نفسها فى شكل مكثف ، شعراً من حيث اللغة ، وأسطورة من حيث التركيب والصياغة . هنا تكون التجربة تاريخ ما لا تاريخ له ، من حيث أن الإنسان يمنح - من خلال معايشته للاشياء - معنى يستقيه من علاقته الجدلية بها ، فالبحر الذى هو ( سماء سائله ) أو ( إله غادر ) أو 3/5 الكرة الأرضية من ماء ذي كثافة عالية ملىء بالملح ، يتحول إلى طريق للسفن أو منجم غذائى … الـخ . لعله قد بدأ يتضح أن الإنسان محصلة تجاربه ، والأمر على هذا النحو إذا حاولنا البحث عن معنى التجربة فى العلوم الطبيعية ، إذا يقول إينشتاين : " إن الادراك الحسي هو الذى يتيح لنا معرفة المعلومات عن العالم الخارجي أو الفيزيائى بصورة غير مباشرة ، غير أننا لا يمكن أن نفهم هذا العالم إلا بواسطة وسائل فكرية " ؛ ففى المرحلة المتقدمة يقوم رجل العلم بإعارة الطبيعة أفكاره ، بمعنى أنه يمنح التجربة معنى جديداً هو حصيلة من تجارب سابقة ، لكنه قد نظم ونسّق فى منهج إستقرائي : الاستقراء يحول ما هو قبلى إلى ماهو بعدى ، أى يحول ما هو عقلى سابق إلى ما هو تجريبى لاحق . فالتجريبيه فى العلم استقراء " والتجربة فى العالم لا تمدنا بغير نقاط منعزلة ، وعلينا أن نوحد بينها بخط متصل ، وهذه هي وظيفة التعميم الحقيقية ، والباحث لا يقتصر على تعميم التجارب ، بل هو يصححها ، والذى يحجم عن القيام بالتصحيح ويقنع بالتجربة العادية – أى التى لا توحي بانتظام وأطراد – سيجد نفسه ملزماً بتقرير قوانين فى منتهى الغرابة . لقد كانت التجربه عند الإنسان الأول – كوسيط وحيد – مكثفة مع العالم ، فكانت النتيجة شخصنة العالم ، أى أن الإنسان الأول منح نفسه للعالم ورأى فيه ذات كامنة : كذا كان الجمر وما إلى ذلك كالطفل يمنح العابه نفسه . ومن التراكم والنقلات النوعية التى تمت تحولت التجربة علميا إلى إستقراء وتعميم ، وعلى ذلك فإن " تصوراتنا عن العالم الفيزيائي لا يمكن أن تكون نهائيه ، وعلينا أن نكون على إستعداد لتبديلها انصافا للوقائع المدركة بأكثر الطرق المنطقية كمالاً : كما يقول ابو النسبيه. إذاً لا يمكن للإنسان أن يكون خارج التجربة حتى ولو كانت فى مضمار العلم ، غير أنه يتخارج عنها فى المحصلة فالحياة هى معايشتنا للواقع ، والمحصلة هى : أنا الآن وهنا مفتوحة على أفق الواقع المسمى مستقبلا . الآن ، ما هو دور التجربة في ترجمة الواقع فنيا ؟ .. إذا كان العلم هو الذى يزودنا بمفاتيح المستقبل فلا شك أن الأدب أحد فروع العلم فى مفهومه العام . وإذا كنا قد سلمنا بأن التجربة هى سيدة العلم ، وهى " الوسيط الوحيد " بين الإنسان والعالم فإن الفن – كإحدى الفعاليات الاجتماعية – هو بالتالي أحد فروع التجربه . يقول أرنست فيشر : " لو كان من طبيعة الإنسان أن يكون فرداً مجرداً لما كان لهذة الرغبة من معنى ولا مضمون ، لأن الإنسان الفرد يكون في هذه الحالة " كلاً " قائما بذاته ، يحوى كل ما يستطيع أن يكونه . أما رغبة الإنسان فى الزيادة والاكتمال فدليل على أنه مجرد وفرد ، وهو يشعر بأنه لايستطيع الوصول إلى هذه ( الكلّية ) إلا إذا حصل على تجارب الأخرين ، وهى التجارب التى كان يمكن أن تكون تجاربه هو والتى يمكن أن تكون تجاربه فى المستقبل . والفن هو الأداة اللازمة لإتمام هذا الإندماج بين الفرد والمجموع ، فهو يمثل قدرة الإنسان غير المحدودة على الالتقاء بالآخرين وعلى تبادل الراى والتجربة معهم " . وإذأ .. فإن العمل الفني هو التجربة التي كان ممكن ان أكونها ، أي أنه محصلة لتجربة تتفاعل أمامي ، وإذا كان موضوعاً فى الخارج من جهه ، إلا أنه من جهة أخرى تفاعل ذات وموضوع ، هو محصلة عبر " الوسيط الوحيد " لتلك الذات والموضوع ، فالفن هو : تصوير العالم المعاش والقابل أيضا للمعايشة من قبل القارئ . وعلى ذلك يصح القول أن العمل الفنى تجربة حية ، وقد سبق القول أن الواقع كدراما وملحمة لا يمكن إلامعايشته ، ومن هنا فالفنان فى حاجة ماسه إلى معايشة الواقع من خلال تجربة عميقة ، ولا نقول عريضه ، أي أنه في حاجة بإستمرار لأن يعيش مرتين إذا صح التعبير ، فكما أن حياة الإنسان جهد خلاق فإن الإنسان الفنان فى حاجة لمعايشة هذا الجهد الخلاق فى معناه الصافى لا فى شذرات اليومي . أى لابد من إكتشاف معنى التجربة المعاشه ، معنى الواقع ، وهو فى حاجة أيضا إلى رد الفعل الأولى ، والذي هو الشرط المسبق الذي يقتضيه الخلق الفني ، والذي يتعذر بدونه الوصول إلى التركيب كما يتعذر ذلك بدون طريقة . فإذا كانت حياة الإنسان ليست له وحده فحياة الفنان ليست له وحده ولكن مرتين ، إنه مطالب فى صيرورته ككاتب أن يحقق من خلال التجربة إضافة ، وهى نقل التجربة إلى الإخرين الذين إستقى منهم هذه التجربة ذاتها . إن المبدع يتلقى الواقع كصيرورة إنسانية عبر هذا " الوسيط الوحيد " ، غير أن لتجربته معنيً إضافياَ يتأتى من كونه يقوم بعملية رفع هذه التجربة إلى معنى موضوعي ذى أبعاد فنيه ، وهذا فى الواقع يعيد هذه التجربة إلى موضوعها ، ومن هنا فالكاتب – ونحن هنا نتكلم عن الكاتب الواقعي بصيغة خاصة – مطالب بأن يعمق دلالات تجربته الذاتية باعتبارها نتاجا موضوعيا ، وأن يكون لمعايشته للتجارب الأخرى فى الواقع دور كبير فى بنائه الفنى ، وأن يعمل جهده لإكتشاف العلاقة الموضوعية بين معمار الذات البشرية ( ذاته ) والإرضية الاجتماعية لهذا المعمار ( فكل حياة الكاتب الوعية وغير الواعيه وجهده الفكرى والاخلاقى فى ذاته نفسها ، عمله لتطوير ذاته ، يقرر ما سيكون عليه محتوى المعايشة ) . والكاتب كذات بشرية تكون معايشتها للواقع فى صورته الأولى كحياة ، ولا شك أن هذه الحياة تقدم لنا من خلال موقعنا الاجتماعي وجدل الذات مع المجتمع – رؤية للعالم ، وهذه الرؤية حتى وإن رُفعت إلى درجة التجريد عبر مفهومات ومنهج واضح ، فإنها فى العملية الابداعية تحتاج إلى جهد إضافي هو ما يمكن القول عنه : جهد رجل العلم الذى يعيد ما هو عقلى إلى ما هو تجريبى ، أي أنه يحول ما أستقاه عبر " الوسيط الوحيد " إلى تجربة يمكن معاشتها ، ويبدو لى أن الفن كما هو محصلة تجربة هو تجربة أيضا ، وهنا يمكن تبين حقيقة الجهد الخلاق فى " اعادة بناء المعطيات بحيث تكون خلقا جديداً له فرديته المباشرة المتميزة ، لكن الذي يكون – فى عين الوقت – نموذجا متكرراً بمعنى متصلا بغيره " . ولا بدد لتمثل التجربة من محاولة توظيف الخبرات الخاصة موضوعيا فى سياقها العام ، مع إدراكنا أنه ليست كل الخبرات الخاصة المتأصلة فى ذات الفنان تجد تعبيراً عن نفسها فى أعماله . وهو أيضا لا يمكن أن يعايش كل التجارب الاجتماعية فى معناها التفصيلى واليومي ، ولكن لا بد له من الإلمام بعمق المعنى الموضوعي لهذة التجارب ، بشخوصه ولما يتناوله كمادة للمعالجة الفنيه ، وأن يلم بكل مظاهر ( الظاهرة ) المعالجة ذلك لإنه " يجب لمعرفة موضوع فعلا ، وأن تستوعب جميع جوانبه ، جميع ترابطاته و " توسطاته " وأن يقام ببحثها ، إننا لا نستطيع بلوغ ذلك تماماً ، لكن طلب الإحاطة بجميع الجوانب سيعصمنا من الأخطاء والجمود " . إذا ... التجربة عصية المعنى ، فإذا كان بالإمكان معايشة الواقع وبالخصوص فى عملية إعادة صياغتة فنيا ، وهنا يكون الدور الحقيقى للذات الابداعية عند الكاتب التى هي ذاته فى أصفى حالاتها النفسية والاجتماعية تعيد صياغة رؤيتها للعالم بشكل أدبى . ولذا فإن أعلام الواقعية الاشتركية – يقول خليفة التليسى – " لم ينتجوا ما أنتجوا من أدب رائع إلا بعد المعاناة الشخصية لتلك الحياة القاسية التى صوروا متاعبها وآلاّمها فى قصصهم ، وليس من الصعب أن نستعرض حياة كل واحد منهم فنجدها حافلة بتلك الاحداث التى استوحوا أدبهم منها " . وعندما نحاول متابعة هذا عبر الدرسات فلإننا سنجد لهذا الأمر مصداقيته ، فأميل حبيبى يقول : " أسلوبى فى المتشائل هو أسلوب الهزل الجارح " وهو نفس الاسلوب الذى التجىء إليه فى عملى السياسي اليومي " . ويجىء تعليق فاروق وادي مؤكدا على قول أميل حبيبى من خلال تحليله لأعمال حبيبي حيث يقول : " إن هذا الإرث الطويل من التجربة ، التى تشهد إمتزاج الممارسة الكتابية والممارسة السياسية وتداخلهما فى حياة الكاتب ، ينفى إشكالية العلاقة بين السياسة والأدب عنده ، والتى تخطى بأهتمام نظرى من قبل النقاد والباحثين ، حيث تبدو المسألة فى تجلى العلاقة فى حقل الممارسة أكثر بساطة ووضوحاً ، غير أن التجربة لا تمنح عملا ناجزا . ولهذا فإن أميل حبيبى ، حين يتحدث عن كيفية أعداد نفسه لكتابة إحدى رواياته تجده يذكر أنه رجع للكثير من الكتب والدراسات فى التراث ولأعداد من جريدة " الاتحاد " وغيرها من أجل أعداد عمله " . وإذا كان هذا الوعي بالمنهج قد ساهم – والى جانبه التجربة – فى إظهار العمل الإبداعى واقعيا وفذاً ، فإن تجربة أخرى تسبق الوعي تشكل عملاً إبداعيا يكشف فيه الكاتب تقدم أعماله الأدبية عن رؤيته السياسية حين تم انجاز هذه الأعمال ، وهو الشهيد غسان كنفانى الذى يقول : " لقد شاهدت الفيلم الذى أعد عن روايتى " رجل تحت الشمس " بمنظور جديد ، إذ اكتشفت فجأة أن الحوار بين الأبطال وخط تفكيرهم وطبقتهم ( الاجتماعية ) وطموحاتهم وجذورهم فى ذلك الحين ، كانت تعبر عن مفاهيم متقدمة عن أفكارى السياسيه : [ إذن ] باستطاعتى القول بأن شخصيتى كروائي كانت متطورة أكثر من شخصيتى كسياسي وليس العكس " . إن التجربة العميقة التى استمد من خلالها غسان كنفانى إبداعه هى التى عمقت أعماله وأعطتها هذه " الرؤية المتقدمة " ، إن التجربة الذاتية تجعل للمكان معنىً خاص فى الرواية الفلسطينيه لأنه ذو معنى خاص فى حياة هذا إلانسان ، ولن يُدرك ذلك إلا من خلال المباشرة . إن الشمس أيضا تأخذ دلالة خاصة ومغايرة وان لم نقل مفارقة – فى أدب كنفاني ، وبالتاكيد فإن هذة الدلالة عميقة فى وجدان شخوص " رجال تحت الشمس " ، وقد انتبه الناقد محمد أحمد الزوي لهذه الخصوصية بذكاء الناقد المتفحص . وتأسيسا على ذلك كله ، فإن هذه الرواية تستمد واقعيتها من تجربة غسان لا من وعيه – كما اشار هو نفسه .. من مباشرته للواقع ، ولذا كان هنا له تجربة وعيها الذاتي ، أو أنه قدم الشىء ( فى ذاته ) بحيث كان الوسيط الوحيد بين الذاتى والموضوعي هو بحق .. تجربته ، او كما يقول هو فى النهاية : الإنسان لايمكن أن يكون إلا محصلة تجاربه . غير أن الواقعية فى حاجة إلى حبكة واقعية ، وعلى غير ذلك " فأن يستطيع كائن ما أن ينسج حبكة من تلقيه للعالم ، وأن تقوى شخصياته على المثول فى مختلف مراحل هذه الحبكة بحيوية متنامية وقوة ايحاء ، فهذا أمر يتعلق بما إذا كانت نفس الفنان قد تحولت ، فعلا ، الى مرآة للعالم ، أو إلى قطعة صغيرة تعكس عكسا مشوها أشلاء ممزقة من العالم " . لهذا فإن الروائية الالمانيه ( آنا سيغرز ) تتحدث خلال تجربتها أنها قد التقت بكتّاب خبروا لحظات رائعة من حياة الطبقة العاملة ، بل عانوها هم أنفسهم ، لكنهم جهدو لحشرها فى حبكة كاذبة . وهنا يحضرني نموذج متطرف من الخبرة الذاتية حول المادة المراد صياغتها فنيا ، فقد قيل عن وولتر سكوت انه كان له شىء يشبه الخبرة الشخصية بعد مئات السنين ، فقد تشرب كل ما يتعلق ( بحماعة المتعاهدين ) إلى حد أنه لم يعد فى حاجة إلى أن يتذكر شيئا عنهم ، فقد كان يستطيع أن يفكر مثلهم تماماً ، وان يدرك ما يمكن ان يقولوه أو يشعروا به فى مختلف الظروف ! . وتعليقا على ذلك ، فإن خليفه التليسى يقول : " إن إيمانك بأى مذهب أدبى لن يجعل منك أديبا مبدعا ، ولكن المعاناة الذاتية هى التى تجعل منك هذا الأديب ، فالكاتب الذى يعانى التجربة معاناة ذاتية هو الذى لا يخضع فى انتاجه للمذهب قدر ما يخضع للتجربة ، على أن الفرق بين النوعين ليس حاسما ، إن مسرح " بيرانديللو " كله تطوير لفكرة بسيطة بدأت بتجربة صغيرة ، انتهت فى تطورها إلى أن تعانق مشكلة الإنسان الحديث المعزول الذى يتلقى الصعوبات فى الإيصال والتواصل ، ويدور فى فلك من الجواهر والذوات المغلقة التى لا سبيل للنفاذ إليها والتغلغل فى أعماقها " . وإذا كان من مصداقية لهذا الكلام فهى كونه يؤكد على أن التجربة سيدة الإبداع ، لكنه يؤكد أيضا على أن الإبداع لا يتأتى إلا من خلال رؤية لهذا العالم ، من خلال منهج كما قدم " لويجى بيراند يللو " مثاله الذى صاغ به تجربته الصغيرة فى منهج محدد وواضح السمات : " الذوات المغلقة التى لا سبيل للنفاذ اليها " . إذا ... لا بد من تساوق التجربة والرؤية لصنع أدب ، فالمبدع الواقعي يموضع تجربته ، بمعنى يقدمها فى سياق حركة الواقع وصيرورته ، يمنهج ذاته لكي يكتشف العالم ، ويعيش العالم لكى يكتشف منهجه ، وبذا تكون الصياغة الجديدة للواقع أكثر واقعية من الواقع الذى يبدو لنا ، إن صح التعبير ، لأن إبداعه ليس انعكاسا ميكانيكيا للتجربة بقدر ما هو إعادة صياغة . إن شخصية ( أبى الخيزران ) هى مركب لشخصيات مفتّتة فى الواقع ومقدمة فى الصياغة النهائية كشخصية متطرفه لتبين جوهر العلاقة الجديدة التى كانت قد بدأت تتبلور على أرض الواقع ، و ( الخزان) لم يكن خزانا بل كان جرسا لم يدق . ولهذا فإن الصياغة الواقعية للتجربة الذاتيه للمبدع كانت متألقة ، لانها قدمت فى التجربة منهجها ، عاشت العالم فصاغت من عجينته شخصيتها ، ومن إفق التجربة صاغت المنهج ، لهذا السبب كانت الشخصية الإبداعية للكاتب واقعية ، بمعنى أن " الشخصية الخاصة للكاتب الكلاسيكى تميل الى التراجع إلى الخلف ، لا تجد لنفسها تعبيرا شاملا فى الأدب ، ولا نجد أثارأَ شخصية واضحة ، بل نجد إدراكا حسيا وملاحظات شخصية عن العالم عند الرمزبين " ، لكن الفنان الواقعى مستحضر ذاته كإنسان حي ملتصق بالتفاصيل الدقيقة لعمله الفنى ، ومن هنا فإن إتجاه الفنان نحو الحياة بشكل واقعى يعيد إلى دائرة الفن والأدب جميع مظاهر الحياة المستبعدة ، والتى قد تكون بدت للفنان فى البداية ضئيلة وتافهة وغير مثيرة لاهتمامه كفنان واقعي . وهنا تبدو القيمة الحقيقية للأفاق الإبداعية الشموليه فى أهتمامها الشديد بمختلف الحقائق والموضوعات فى حياة الإنسان ، لذلك تجد ذات الفنان الفرصة للكشف عن نفسها بوضوح فى الأعمال الأدبية والفنيه : ولا يحدث هذا إلا بزوال الخط الوهمى الفاصل بين ما هو جمالى ، وما تعودنا على رؤيته غير جمالى ، كما يقول خرابشنكو . وأخيراَ ... فإن الكاتب حين يبدع عمله يستمد إبداعه من النبع القريب ؛ أي من حياته الشخصية ، ومن إنفعالاته وأحاسيسه ، لكن إزميله لحفر طريقه يكون هو المنهج الذى يقدم العمل فى أبهى صورة ممكن أن يتجلى منها الإبداع ، وبذلك يكون هو الشمس التى لا تغيب ، ولكن تشرق عليها الأرض . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * هذه المقالة كتبت في سجن بوسليم بطرابلس الغرب حيث قضيت سنوات عشر ، وقد قام الصديق جمعة بوكيب بتبيضها في حينها ، هذا القاص الذي خسره الابداع حين كسبته الوظيفة . والمقالة قدمت في ندوة من الندوات التي كنا نقيمها هناك دون كتب و لا مراجع . وقد يستغرب القارئ اذا اشرت أن المراجع كانت عبارة عن بعض البرامج الثقافية وما أندرها في الاذاعات العربية ، وقد كنا هربنا راديو عن أعين الحرس . وقد عثرت عليها وسعدت بذلك واذ أنشرها فذلك باعتبارها من وثائق السجون وكذلك لاهديها لجمعة بوكليب ولكل سجين تجاوز محنته .
#أحمد_الفيتوري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كم شجرة تكون غابة ؟
-
دروس الأكاديمية:لا تقول بغ ، ممنوع التصوير ، الكتابة ، الكلا
...
-
قصيدة حب متأبية بطريقة خ ، خ
-
تعيش جامعة العرب
-
زلة عرجون اليأس
-
فرج الترهوني : ترجمان كثبان النمل
-
..وكذا حبيبتي في الشعر.
-
ذئبة من بعيد ترنو ، ذئبة تندس في غابة عينيه
-
بغداد أفق مسفوح في بحر اللامتناهي
-
شارع الإذاعة : سر من رآه ، سر من لم يره
-
بورتريه الثعلب
-
بورتريه العنيزي
-
بورتريه البوري
-
بورتريه الفلاح
-
بورتريه الكوني
-
بورتريه المنتصر
-
بورتريه مطاوع
-
بورتريه زغبية
-
بورتريه مطر
-
بورتريه لوركا الليبي
المزيد.....
-
-أبوس إيدك سيبيني-.. جمال سليمان يعلق بعد ظهوره في فيديو مثي
...
-
عصام إمام: الزعيم بخير
-
مصر.. حمو بيكا يعلق على قرار إيقافه وإحالته للتحقيق
-
مصر.. إيقاف فنان شهير عن العمل وإحالته للتحقيق بعد فيديو تضم
...
-
ممثل كوميدي يصف نائب الرئيس الأمريكي بـ-قاتل البابا- ويفجر ض
...
-
الأسد يطلب من فنانة تقليل التطبيل منعا للمشاكل الزوجية
-
-نوفوكايين-.. سطو بنكهة الكوميديا يعيد أمجاد أفلام الأكشن ال
...
-
لقاء مع الشاعرة والملحنة اليمنية جمانة جمال
-
فضل شاكر .. نقابة الفنانين السوريين تمنح -عضوية الشرف- للفنا
...
-
رغم ظروف مالية صعبة - SVT مستعد لإستضافة مسابقة الاغنية الاو
...
المزيد.....
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|