أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الفيتوري - تجربة المتشائل إبداع تحت الشمس















المزيد.....


تجربة المتشائل إبداع تحت الشمس


أحمد الفيتوري

الحوار المتمدن-العدد: 1747 - 2006 / 11 / 27 - 10:24
المحور: الادب والفن
    


" إلى الصديق القاص جمعة بوكليب "
لم تكن التجربة حصيلة وعي الذات بالوجود ، بما فيه وجودها فحسب ، بل إن التجربة هي " الوسيط الوحيد بين الذات والموضوع " . وإذا كانت الطبيعة نسق وتكرار ، وإذا كانت " المتغيرات الجيولوجيه تبدو مجانية للوهلة الأولى " ، فإننا نتلقى الواقع بشكله الأول والفج على هذا النسق الطبيعي ، وبشكل هذه " المتغيرات الجيولوجيه " ؛ أى أن التجربة هي الوعي الأول ، هى إكتشاف الذات كمعطى موضوعي .
إن البحر يمنح الذات ذاتها عبر إكتشافنا له كموضوع مغاير لما نحن عليه ، كموضوع خارجى . فى هذا " الانعكاس الذى لانتبين تداخله تنبثق التجربه فنقول : " للبحر رهبة الصمت " أو " للبحر هدوء العاصفة " أو " البحر سماء سائلة " . إن هذا " الوسيط الوحيد " هو الذى نكتشف من خلاله معنى الموضوع ، بمعنى أن تراكم التجربة يتحول إلى معرفة بشكل نسقى ، فما يبدو مجافيا يشكل موضوعيا المعنى فى الذات العاقلة بتحوله الكيفي عبر التراكم المتصل ، فالعلاقة ( متكاملة بين اليد وبين العقل منذ البداية ) ، وهكذا فالتجربة معنى إنساني لأن الإنسان ( بتعلمه كيف تحدث الاشياء ، عرف كيف يجعلها تحدث ) .
وعلى ذلك فالتجربة تتم من خلال وقوع حادث جديد تحت الملاحظة ، ويبقى هذا الحادث مدلهما ومبهما حتى نكتشف معناه من خلال أهميته من عدمها ، أي أن الموضوع قد تمت معرفته ، لكن كمعطى خارجي ( وصفى ) ، ولكن الرحلة الثانية – إن صحت التسمية - هي إكتشاف معنى الموضوع ، أى دلالته والتى قد تتم بشكل تراكمي ، أو كيفي مبنى على تراكم سابق وغير باشر ، وهنا نقول : إبداع . ونصوغ الجملة السابقة بكيفية أخرى لنتبين معنى الإبداع الذى نعنيه فنقول : إن الإبداع لا يعني أن حادثا جديداً قد وقع تحت الملاحظة ، بل أهمية وتعلقا جديداً قد نسب للملاحظة بحيث شكلت واقعة .
إن الطفل ابن التجربة ، كما أنه ابن الطبيعة ، بمعنى أن الطفل يكتشف الاشياء - كالانسان في عموم عمره - من خلال حواسه ولكن عن طريق التكرار ، ثم تأتى مرحلة الابتكار والتى تتربى عنده عبر إنماء مخيلته ، لأن الخيال سيد الابداع ، فالخيال هو " الذى يصوغ القوالب التى يستخدمها الإنسان ليفرغ فيها معطيات الواقع الغليظة وحوادثه الغفل من المغزى ، ويعدها فى نماذج تحقق له أهدافه " ، ومن هنا أحس بصحة القول أن الطفل فنان ، من حيث أنه يتلقى العالم عبر الصور ، والفن هو ( تفكير بالصور ) كما يقول بلينسكي .
إن الطفل الذى يتلقى العالم - عبر " الوسيط الوحيد " - صوراً ، هو ذاته الممتلئ " بمبدأ العلّية والذى يلح عليه بحيث لا يكف عن السؤال : لماذا ؟ ، ولذا فأن التجربة هي العلم وتقنينه في المرحلة الإنسانيه الأولى ، أى أن التجربة كمعطى أول هى اللحظة البدائيه في إكتشاف الموضوع وانعكاسه على الذات ، وبالتالى كان السحر تعليلا للظاهرة المكتشفه ، كان " تقنينا للذهول " . وكان الخيال حصان العربة والذى لا يمكن أن يكون إلا أمامها فى حركة تطور البشرية ، حتى ان كان نهج هذا الحصان هو السحر ، وكان الإبداع هو تفسير العالم تفسيراً أسطورياً ، بمعنى أن التجربة المكثفة – كتجربة أولى – منحت نفسها فى شكل مكثف ، شعراً من حيث اللغة ، وأسطورة من حيث التركيب والصياغة .
هنا تكون التجربة تاريخ ما لا تاريخ له ، من حيث أن الإنسان يمنح - من خلال معايشته للاشياء - معنى يستقيه من علاقته الجدلية بها ، فالبحر الذى هو ( سماء سائله ) أو ( إله غادر ) أو 3/5 الكرة الأرضية من ماء ذي كثافة عالية ملىء بالملح ، يتحول إلى طريق للسفن أو منجم غذائى … الـخ .
لعله قد بدأ يتضح أن الإنسان محصلة تجاربه ، والأمر على هذا النحو إذا حاولنا البحث عن معنى التجربة فى العلوم الطبيعية ، إذا يقول إينشتاين : " إن الادراك الحسي هو الذى يتيح لنا معرفة المعلومات عن العالم الخارجي أو الفيزيائى بصورة غير مباشرة ، غير أننا لا يمكن أن نفهم هذا العالم إلا بواسطة وسائل فكرية " ؛ ففى المرحلة المتقدمة يقوم رجل العلم بإعارة الطبيعة أفكاره ، بمعنى أنه يمنح التجربة معنى جديداً هو حصيلة من تجارب سابقة ، لكنه قد نظم ونسّق فى منهج إستقرائي : الاستقراء يحول ما هو قبلى إلى ماهو بعدى ، أى يحول ما هو عقلى سابق إلى ما هو تجريبى لاحق . فالتجريبيه فى العلم استقراء " والتجربة فى العالم لا تمدنا بغير نقاط منعزلة ، وعلينا أن نوحد بينها بخط متصل ، وهذه هي وظيفة التعميم الحقيقية ، والباحث لا يقتصر على تعميم التجارب ، بل هو يصححها ، والذى يحجم عن القيام بالتصحيح ويقنع بالتجربة العادية – أى التى لا توحي بانتظام وأطراد – سيجد نفسه ملزماً بتقرير قوانين فى منتهى الغرابة .
لقد كانت التجربه عند الإنسان الأول – كوسيط وحيد – مكثفة مع العالم ، فكانت النتيجة شخصنة العالم ، أى أن الإنسان الأول منح نفسه للعالم ورأى فيه ذات كامنة : كذا كان الجمر وما إلى ذلك كالطفل يمنح العابه نفسه .
ومن التراكم والنقلات النوعية التى تمت تحولت التجربة علميا إلى إستقراء وتعميم ، وعلى ذلك فإن " تصوراتنا عن العالم الفيزيائي لا يمكن أن تكون نهائيه ، وعلينا أن نكون على إستعداد لتبديلها انصافا للوقائع المدركة بأكثر الطرق المنطقية كمالاً : كما يقول ابو النسبيه.
إذاً لا يمكن للإنسان أن يكون خارج التجربة حتى ولو كانت فى مضمار العلم ، غير أنه يتخارج عنها فى المحصلة فالحياة هى معايشتنا للواقع ، والمحصلة هى : أنا الآن وهنا مفتوحة على أفق الواقع المسمى مستقبلا .
الآن ، ما هو دور التجربة في ترجمة الواقع فنيا ؟ ..
إذا كان العلم هو الذى يزودنا بمفاتيح المستقبل فلا شك أن الأدب أحد فروع العلم فى مفهومه العام . وإذا كنا قد سلمنا بأن التجربة هى سيدة العلم ، وهى " الوسيط الوحيد " بين الإنسان والعالم فإن الفن – كإحدى الفعاليات الاجتماعية – هو بالتالي أحد فروع التجربه . يقول أرنست فيشر : " لو كان من طبيعة الإنسان أن يكون فرداً مجرداً لما كان لهذة الرغبة من معنى ولا مضمون ، لأن الإنسان الفرد يكون في هذه الحالة " كلاً " قائما بذاته ، يحوى كل ما يستطيع أن يكونه . أما رغبة الإنسان فى الزيادة والاكتمال فدليل على أنه مجرد وفرد ، وهو يشعر بأنه لايستطيع الوصول إلى هذه ( الكلّية ) إلا إذا حصل على تجارب الأخرين ، وهى التجارب التى كان يمكن أن تكون تجاربه هو والتى يمكن أن تكون تجاربه فى المستقبل . والفن هو الأداة اللازمة لإتمام هذا الإندماج بين الفرد والمجموع ، فهو يمثل قدرة الإنسان غير المحدودة على الالتقاء بالآخرين وعلى تبادل الراى والتجربة معهم " .
وإذأ .. فإن العمل الفني هو التجربة التي كان ممكن ان أكونها ، أي أنه محصلة لتجربة تتفاعل أمامي ، وإذا كان موضوعاً فى الخارج من جهه ، إلا أنه من جهة أخرى تفاعل ذات وموضوع ، هو محصلة عبر " الوسيط الوحيد " لتلك الذات والموضوع ، فالفن هو : تصوير العالم المعاش والقابل أيضا للمعايشة من قبل القارئ .
وعلى ذلك يصح القول أن العمل الفنى تجربة حية ، وقد سبق القول أن الواقع كدراما وملحمة لا يمكن إلامعايشته ، ومن هنا فالفنان فى حاجة ماسه إلى معايشة الواقع من خلال تجربة عميقة ، ولا نقول عريضه ، أي أنه في حاجة بإستمرار لأن يعيش مرتين إذا صح التعبير ، فكما أن حياة الإنسان جهد خلاق فإن الإنسان الفنان فى حاجة لمعايشة هذا الجهد الخلاق فى معناه الصافى لا فى شذرات اليومي . أى لابد من إكتشاف معنى التجربة المعاشه ، معنى الواقع ، وهو فى حاجة أيضا إلى رد الفعل الأولى ، والذي هو الشرط المسبق الذي يقتضيه الخلق الفني ، والذي يتعذر بدونه الوصول إلى التركيب كما يتعذر ذلك بدون طريقة .
فإذا كانت حياة الإنسان ليست له وحده فحياة الفنان ليست له وحده ولكن مرتين ، إنه مطالب فى صيرورته ككاتب أن يحقق من خلال التجربة إضافة ، وهى نقل التجربة إلى الإخرين الذين إستقى منهم هذه التجربة ذاتها .
إن المبدع يتلقى الواقع كصيرورة إنسانية عبر هذا " الوسيط الوحيد " ، غير أن لتجربته معنيً إضافياَ يتأتى من كونه يقوم بعملية رفع هذه التجربة إلى معنى موضوعي ذى أبعاد فنيه ، وهذا فى الواقع يعيد هذه التجربة إلى موضوعها ، ومن هنا فالكاتب – ونحن هنا نتكلم عن الكاتب الواقعي بصيغة خاصة – مطالب بأن يعمق دلالات تجربته الذاتية باعتبارها نتاجا موضوعيا ، وأن يكون لمعايشته للتجارب الأخرى فى الواقع دور كبير فى بنائه الفنى ، وأن يعمل جهده لإكتشاف العلاقة الموضوعية بين معمار الذات البشرية ( ذاته ) والإرضية الاجتماعية لهذا المعمار ( فكل حياة الكاتب الوعية وغير الواعيه وجهده الفكرى والاخلاقى فى ذاته نفسها ، عمله لتطوير ذاته ، يقرر ما سيكون عليه محتوى المعايشة ) .
والكاتب كذات بشرية تكون معايشتها للواقع فى صورته الأولى كحياة ، ولا شك أن هذه الحياة تقدم لنا من خلال موقعنا الاجتماعي وجدل الذات مع المجتمع – رؤية للعالم ، وهذه الرؤية حتى وإن رُفعت إلى درجة التجريد عبر مفهومات ومنهج واضح ، فإنها فى العملية الابداعية تحتاج إلى جهد إضافي هو ما يمكن القول عنه : جهد رجل العلم الذى يعيد ما هو عقلى إلى ما هو تجريبى ، أي أنه يحول ما أستقاه عبر " الوسيط الوحيد " إلى تجربة يمكن معاشتها ، ويبدو لى أن الفن كما هو محصلة تجربة هو تجربة أيضا ، وهنا يمكن تبين حقيقة الجهد الخلاق فى " اعادة بناء المعطيات بحيث تكون خلقا جديداً له فرديته المباشرة المتميزة ، لكن الذي يكون – فى عين الوقت – نموذجا متكرراً بمعنى متصلا بغيره " .
ولا بدد لتمثل التجربة من محاولة توظيف الخبرات الخاصة موضوعيا فى سياقها العام ، مع إدراكنا أنه ليست كل الخبرات الخاصة المتأصلة فى ذات الفنان تجد تعبيراً عن نفسها فى أعماله . وهو أيضا لا يمكن أن يعايش كل التجارب الاجتماعية فى معناها التفصيلى واليومي ، ولكن لا بد له من الإلمام بعمق المعنى الموضوعي لهذة التجارب ، بشخوصه ولما يتناوله كمادة للمعالجة الفنيه ، وأن يلم بكل مظاهر ( الظاهرة ) المعالجة ذلك لإنه " يجب لمعرفة موضوع فعلا ، وأن تستوعب جميع جوانبه ، جميع ترابطاته و " توسطاته " وأن يقام ببحثها ، إننا لا نستطيع بلوغ ذلك تماماً ، لكن طلب الإحاطة بجميع الجوانب سيعصمنا من الأخطاء والجمود " .
إذا ... التجربة عصية المعنى ، فإذا كان بالإمكان معايشة الواقع وبالخصوص فى عملية إعادة صياغتة فنيا ، وهنا يكون الدور الحقيقى للذات الابداعية عند الكاتب التى هي ذاته فى أصفى حالاتها النفسية والاجتماعية تعيد صياغة رؤيتها للعالم بشكل أدبى .
ولذا فإن أعلام الواقعية الاشتركية – يقول خليفة التليسى – " لم ينتجوا ما أنتجوا من أدب رائع إلا بعد المعاناة الشخصية لتلك الحياة القاسية التى صوروا متاعبها وآلاّمها فى قصصهم ، وليس من الصعب أن نستعرض حياة كل واحد منهم فنجدها حافلة بتلك الاحداث التى استوحوا أدبهم منها " .
وعندما نحاول متابعة هذا عبر الدرسات فلإننا سنجد لهذا الأمر مصداقيته ، فأميل حبيبى يقول : " أسلوبى فى المتشائل هو أسلوب الهزل الجارح " وهو نفس الاسلوب الذى التجىء إليه فى عملى السياسي اليومي " . ويجىء تعليق فاروق وادي مؤكدا على قول أميل حبيبى من خلال تحليله لأعمال حبيبي حيث يقول : " إن هذا الإرث الطويل من التجربة ، التى تشهد إمتزاج الممارسة الكتابية والممارسة السياسية وتداخلهما فى حياة الكاتب ، ينفى إشكالية العلاقة بين السياسة والأدب عنده ، والتى تخطى بأهتمام نظرى من قبل النقاد والباحثين ، حيث تبدو المسألة فى تجلى العلاقة فى حقل الممارسة أكثر بساطة ووضوحاً ، غير أن التجربة لا تمنح عملا ناجزا . ولهذا فإن أميل حبيبى ، حين يتحدث عن كيفية أعداد نفسه لكتابة إحدى رواياته تجده يذكر أنه رجع للكثير من الكتب والدراسات فى التراث ولأعداد من جريدة " الاتحاد " وغيرها من أجل أعداد عمله " .
وإذا كان هذا الوعي بالمنهج قد ساهم – والى جانبه التجربة – فى إظهار العمل الإبداعى واقعيا وفذاً ، فإن تجربة أخرى تسبق الوعي تشكل عملاً إبداعيا يكشف فيه الكاتب تقدم أعماله الأدبية عن رؤيته السياسية حين تم انجاز هذه الأعمال ، وهو الشهيد غسان كنفانى الذى يقول : " لقد شاهدت الفيلم الذى أعد عن روايتى " رجل تحت الشمس " بمنظور جديد ، إذ اكتشفت فجأة أن الحوار بين الأبطال وخط تفكيرهم وطبقتهم ( الاجتماعية ) وطموحاتهم وجذورهم فى ذلك الحين ، كانت تعبر عن مفاهيم متقدمة عن أفكارى السياسيه : [ إذن ] باستطاعتى القول بأن شخصيتى كروائي كانت متطورة أكثر من شخصيتى كسياسي وليس العكس " .
إن التجربة العميقة التى استمد من خلالها غسان كنفانى إبداعه هى التى عمقت أعماله وأعطتها هذه " الرؤية المتقدمة " ، إن التجربة الذاتية تجعل للمكان معنىً خاص فى الرواية الفلسطينيه لأنه ذو معنى خاص فى حياة هذا إلانسان ، ولن يُدرك ذلك إلا من خلال المباشرة . إن الشمس أيضا تأخذ دلالة خاصة ومغايرة وان لم نقل مفارقة – فى أدب كنفاني ، وبالتاكيد فإن هذة الدلالة عميقة فى وجدان شخوص " رجال تحت الشمس " ، وقد انتبه الناقد محمد أحمد الزوي لهذه الخصوصية بذكاء الناقد المتفحص .
وتأسيسا على ذلك كله ، فإن هذه الرواية تستمد واقعيتها من تجربة غسان لا من وعيه – كما اشار هو نفسه .. من مباشرته للواقع ، ولذا كان هنا له تجربة وعيها الذاتي ، أو أنه قدم الشىء ( فى ذاته ) بحيث كان الوسيط الوحيد بين الذاتى والموضوعي هو بحق .. تجربته ، او كما يقول هو فى النهاية : الإنسان لايمكن أن يكون إلا محصلة تجاربه .
غير أن الواقعية فى حاجة إلى حبكة واقعية ، وعلى غير ذلك " فأن يستطيع كائن ما أن ينسج حبكة من تلقيه للعالم ، وأن تقوى شخصياته على المثول فى مختلف مراحل هذه الحبكة بحيوية متنامية وقوة ايحاء ، فهذا أمر يتعلق بما إذا كانت نفس الفنان قد تحولت ، فعلا ، الى مرآة للعالم ، أو إلى قطعة صغيرة تعكس عكسا مشوها أشلاء ممزقة من العالم " .
لهذا فإن الروائية الالمانيه ( آنا سيغرز ) تتحدث خلال تجربتها أنها قد التقت بكتّاب خبروا لحظات رائعة من حياة الطبقة العاملة ، بل عانوها هم أنفسهم ، لكنهم جهدو لحشرها فى حبكة كاذبة .
وهنا يحضرني نموذج متطرف من الخبرة الذاتية حول المادة المراد صياغتها فنيا ، فقد قيل عن وولتر سكوت انه كان له شىء يشبه الخبرة الشخصية بعد مئات السنين ، فقد تشرب كل ما يتعلق ( بحماعة المتعاهدين ) إلى حد أنه لم يعد فى حاجة إلى أن يتذكر شيئا عنهم ، فقد كان يستطيع أن يفكر مثلهم تماماً ، وان يدرك ما يمكن ان يقولوه أو يشعروا به فى مختلف الظروف ! .
وتعليقا على ذلك ، فإن خليفه التليسى يقول : " إن إيمانك بأى مذهب أدبى لن يجعل منك أديبا مبدعا ، ولكن المعاناة الذاتية هى التى تجعل منك هذا الأديب ، فالكاتب الذى يعانى التجربة معاناة ذاتية هو الذى لا يخضع فى انتاجه للمذهب قدر ما يخضع للتجربة ، على أن الفرق بين النوعين ليس حاسما ، إن مسرح " بيرانديللو " كله تطوير لفكرة بسيطة بدأت بتجربة صغيرة ، انتهت فى تطورها إلى أن تعانق مشكلة الإنسان الحديث المعزول الذى يتلقى الصعوبات فى الإيصال والتواصل ، ويدور فى فلك من الجواهر والذوات المغلقة التى لا سبيل للنفاذ إليها والتغلغل فى أعماقها " .
وإذا كان من مصداقية لهذا الكلام فهى كونه يؤكد على أن التجربة سيدة الإبداع ، لكنه يؤكد أيضا على أن الإبداع لا يتأتى إلا من خلال رؤية لهذا العالم ، من خلال منهج كما قدم " لويجى بيراند يللو " مثاله الذى صاغ به تجربته الصغيرة فى منهج محدد وواضح السمات : " الذوات المغلقة التى لا سبيل للنفاذ اليها " .
إذا ... لا بد من تساوق التجربة والرؤية لصنع أدب ، فالمبدع الواقعي يموضع تجربته ، بمعنى يقدمها فى سياق حركة الواقع وصيرورته ، يمنهج ذاته لكي يكتشف العالم ، ويعيش العالم لكى يكتشف منهجه ، وبذا تكون الصياغة الجديدة للواقع أكثر واقعية من الواقع الذى يبدو لنا ، إن صح التعبير ، لأن إبداعه ليس انعكاسا ميكانيكيا للتجربة بقدر ما هو إعادة صياغة .
إن شخصية ( أبى الخيزران ) هى مركب لشخصيات مفتّتة فى الواقع ومقدمة فى الصياغة النهائية كشخصية متطرفه لتبين جوهر العلاقة الجديدة التى كانت قد بدأت تتبلور على أرض الواقع ، و ( الخزان) لم يكن خزانا بل كان جرسا لم يدق .
ولهذا فإن الصياغة الواقعية للتجربة الذاتيه للمبدع كانت متألقة ، لانها قدمت فى التجربة منهجها ، عاشت العالم فصاغت من عجينته شخصيتها ، ومن إفق التجربة صاغت المنهج ، لهذا السبب كانت الشخصية الإبداعية للكاتب واقعية ، بمعنى أن " الشخصية الخاصة للكاتب الكلاسيكى تميل الى التراجع إلى الخلف ، لا تجد لنفسها تعبيرا شاملا فى الأدب ، ولا نجد أثارأَ شخصية واضحة ، بل نجد إدراكا حسيا وملاحظات شخصية عن العالم عند الرمزبين " ، لكن الفنان الواقعى مستحضر ذاته كإنسان حي ملتصق بالتفاصيل الدقيقة لعمله الفنى ، ومن هنا فإن إتجاه الفنان نحو الحياة بشكل واقعى يعيد إلى دائرة الفن والأدب جميع مظاهر الحياة المستبعدة ، والتى قد تكون بدت للفنان فى البداية ضئيلة وتافهة وغير مثيرة لاهتمامه كفنان واقعي . وهنا تبدو القيمة الحقيقية للأفاق الإبداعية الشموليه فى أهتمامها الشديد بمختلف الحقائق والموضوعات فى حياة الإنسان ، لذلك تجد ذات الفنان الفرصة للكشف عن نفسها بوضوح فى الأعمال الأدبية والفنيه : ولا يحدث هذا إلا بزوال الخط الوهمى الفاصل بين ما هو جمالى ، وما تعودنا على رؤيته غير جمالى ، كما يقول خرابشنكو .
وأخيراَ ...
فإن الكاتب حين يبدع عمله يستمد إبداعه من النبع القريب ؛ أي من حياته الشخصية ، ومن إنفعالاته وأحاسيسه ، لكن إزميله لحفر طريقه يكون هو المنهج الذى يقدم العمل فى أبهى صورة ممكن أن يتجلى منها الإبداع ، وبذلك يكون هو الشمس التى لا تغيب ، ولكن تشرق عليها الأرض .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هذه المقالة كتبت في سجن بوسليم بطرابلس الغرب حيث قضيت سنوات عشر ، وقد قام الصديق جمعة بوكيب بتبيضها في حينها ، هذا القاص الذي خسره الابداع حين كسبته الوظيفة . والمقالة قدمت في ندوة من الندوات التي كنا نقيمها هناك دون كتب و لا مراجع . وقد يستغرب القارئ اذا اشرت أن المراجع كانت عبارة عن بعض البرامج الثقافية وما أندرها في الاذاعات العربية ، وقد كنا هربنا راديو عن أعين الحرس . وقد عثرت عليها وسعدت بذلك واذ أنشرها فذلك باعتبارها من وثائق السجون وكذلك لاهديها لجمعة بوكليب ولكل سجين تجاوز محنته .



#أحمد_الفيتوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كم شجرة تكون غابة ؟
- دروس الأكاديمية:لا تقول بغ ، ممنوع التصوير ، الكتابة ، الكلا ...
- قصيدة حب متأبية بطريقة خ ، خ
- تعيش جامعة العرب
- زلة عرجون اليأس
- فرج الترهوني : ترجمان كثبان النمل
- ..وكذا حبيبتي في الشعر.
- ذئبة من بعيد ترنو ، ذئبة تندس في غابة عينيه
- بغداد أفق مسفوح في بحر اللامتناهي
- شارع الإذاعة : سر من رآه ، سر من لم يره
- بورتريه الثعلب
- بورتريه العنيزي
- بورتريه البوري
- بورتريه الفلاح
- بورتريه الكوني
- بورتريه المنتصر
- بورتريه مطاوع
- بورتريه زغبية
- بورتريه مطر
- بورتريه لوركا الليبي


المزيد.....




- Rotana cinema بجودة عالية وبدون تشويش نزل الآن التحديث الأخي ...
- واتساب تضيف ميزة تحويل الصوت إلى نص واللغة العربية مدعومة با ...
- “بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا ...
- المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
- رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل ...
- -هاري-الأمير المفقود-.. وثائقي جديد يثير الجدل قبل عرضه في أ ...
- -جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
- -هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
- عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا ...
- -أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الفيتوري - تجربة المتشائل إبداع تحت الشمس