ليست الثورة هي التي تأكل أبناءها فقط كما يرد في القول السائر بل يبدو أن الاحتلال يقوم بهذه الفعلة الافتراسية أيضا على أرض العراق :
إن التطورات السياسية والعسكرية المتلاحقة على الأرض نقلت الحالة العراقية أو هي في طريقها إلى نقلها قريبا من حال إلى حال مختلفة تماما وعلى جميع الصعد . ومن أهم مستجدات هذه التطورات تخلي المحتل الأمريكي عن بعض الشعارات والعناوين التي رفعها قبل أن يشن حرب احتلاله للعراق وكررها لفترة بعد أن تم له هذا الاحتلال . من ذلك مثلا تخليه عن عنوان "حرب تحرير العراق" وإعلانه صراحة إنه إنما جاء محتلا لا محررا ، ومحاولته التي تكللت بالنجاح لإضفاء شرعية من الأمم المتحدة على وجوده الاحتلالي الأمر الذي أحرج كثيرا حلفاءه السياسيين العراقيين . لقد تخلى المحتل الأمريكي عن هؤلاء الحلفاء علنا وبقسوة قد يصعب تفسيرها على بعض المراقبين فقد شرعت قواته في حملات اعتقال طالت بعض رموز هؤلاء ونزع أسلحة بعض المليشيات واعتقال عشرات العناصر منها مع استثناء الوجود المليشياوي الكردي من هذه الحملات حتى الآن ، كما تخلى في الوقت نفسه عن مشروع "المؤتمر الوطني العراقي " الذي وعد بأنه سيتمخض عن " حكومة عراقية " واستبدال ذلك بمشروع آخر أكثر مهانة للحلفاء العراقيين يقضي بتشكيل مجلس للمستشارين العراقيين العاملين لدى القوات المحتلة الأمر الذي أحرج وعقد مواقف الأحزاب العراقية التي أيدت وروجت وصفقت للحرب والاحتلال .
من ناحية أخرى تصاعدت العمليات العسكرية التي تستهدف قوت الاحتلال تصاعدا مثيرا وقد ردت عليها قوات الاحتلال ما دعي " ضربات استباقية " خلفت في يوم واحد أكثر من مائة قتيل ومئات المعتقلين .لقد أثارت هذه العمليات الكثير من التساؤلات والغموض لعدة أسباب منها تمركزها في منطقة الشمال الغربي العراقية ذات الغالبية السكانية العربية السنية والتي شكلت على امتداد سنوات الحكم المنهار الخزين البشري لأجهزته الأمنية والمخابراتية والقاعدة الجماهيرية الأكثر ولاء .
إن هذا التمركز للعمليات المسلحة التي استهدفت قوات الاحتلال يثير تساؤلات معبرة ومشروعة عن أسباب صمت إقليمي الجنوب و الفرات الأوسط على الاحتلال ، وعدم حدوث عمليات مشابهة في هذه المناطق ،ومعروف أن الأغلبية السكانية لهذين الإقليمين هي للعرب الشيعة ومنهما بالضبط انطلقت الثورة العراقية الكبرى ضد الاحتلال البريطاني سنة 1920 والعديد من الانتفاضات ضد الأنظمة الاستبدادية المتحالفة مع الغرب .
ولا يمكن في الحقيقة نكران هذا الواقع نكرانا تاما إنما سيكون من الخطأ اعتباره واقعا نهائيا وشاملا ، ومن ناحية أخرى فقد شهدت هذه المناطق عمليات محدودة ضد قوات الاحتلال وخصوصا في منطقة بعقوبة شرق بغداد وتكاد تكون العديد من المدن الجنوبية الكبرى محررة ومدارة ذاتيا من قبل السكان الذين لا يظهرون أي ود للمحتلين ، أما في ثاني مدن العراق وعاصمة الجنوب "البصرة" فلا يكاد يمر يوم دون أن تشهد المدينة مظاهرات جماهيرية مناوئة للاحتلال ومطالبة علنا برحيله ، وهكذا فلن يكون من الحصافة والإنصاف التقليل من شأن هذه التحركات الجماهيرية التي لا تخرج بأية حال من الأحوال عن عنوان المقاومة العراقية . أما السبب الأهم الذي يعرقل حتى الآن انطلاق العمل المقاوم الشامل في عموم العراق وبخاصة في هذين الإقليمين فيتعلق أساسا بتأثيرات ماضي النظام الشمولي وممارساته القمعية الدموية التي جعلت من العراق - وفي الإطار الجغرافي الذي نتكلم عنه تحديدا - عبارة عن مقبرة جماعية شاسعة الأرجاء . إن الجماهير العراقية التي دفعت غاليا ثمن بطش النظام و ممارساته هي ضحية لمخاوف حقيقية مصدرها عدم الثقة بقوات الاحتلال الأمريكية التي قد تتخلى عن "نصرها" في العراق إذا ما أصيبت بخسائر بشرية قاسية مما يفتح الباب أمام احتمالات عودة النظام الشمولي أو السماح بعودة صورة مخففة منه ليقوم بحمامات دم مرعبة . ومع أن هذا الاحتمال بعيد عن التحقق واقعيا في الوقت الحاضر ولكن استمرار صدام حسين وقيادته في الوجود والنشاط السري يجعل الناس تشك بوجود صفقة ما مع الأمريكان أو على الأقل تشك بوجود خطة أمريكية سرية لن يكون اللجوء إلى تنفيذها في مصلحة العراقيين عموما والقوى الديموقراطية خصوصا .
وعموما فالوضع العراقي العامّ، بعد مرور أكثر من شهرين على احتلال بغداد واختفاءِ قيادة النظام الشموليّ، لا يخرج عن منطق الأزمة المركّبة والشاملة لجميع الأطراف الفاعلة في الحالة العراقية.
أ - فلنبدأْ بتفحُّص حالة المحتل الأنكلو - أمريكيّ الذي يعيش مأزقًا معقَّدًا، من أبرز مظاهره: أنَّه يواجه شعبًا ناقمًا عليه ومعاديًا له بجذريةٍ شديدةٍ تعود أسبابُها إلى حجم المجازر الفظيعة التي ارتكبها بحقّ السكان المدنيين وبحق العسكريين أيضًا (وهي مجازر لم يُرفع النقابُ عن تفاصيلها المأساوية بعدُ) مع أنّ المحتلّ انتظر أن يُمْطرَه الشعبُ العراقيُّ بالزهور والرياحين لقاءَ تخليصه من نظام شموليّ.
ومن أسباب نقمة الشعب العراقيّ على المحتلّ فشلُ هذا الأخير طوال الأسابيع الماضية في إدارة أية مؤسسة من مؤسسات البنية التحتية ذات الطابع الخدماتيّ - ويسود اعتقادٌ بين العراقيين بأنّ الاحتلال يتقصَّد فعْلَ ذلك - وفي ضبط الشؤون الأمنية (ولا يكاد يمرّ يوم واحد دون أن ينطلق تعبيرٌ رافضٌ لواقع الاحتلال أو دون أن تُسْتَهدف قواتُه بعملية مسلحة مهما كانت محدودة). كما فشل الاحتلال في تشكيل حكومة مؤلفة من الأميركيين مائة بالمائة، فتراجَعَ ليرفعَ شعارَ حكومة "الفِفْتِي فِفْتي "أي المناصفة بين جنرالاته وعملائه من المعارضة العراقية وانتقال أخيرا إلى الأخذ بصيغة الحكم المباشر والذي يساعده " مجلس من المستشارين العراقيين " . كما راح الاحتلال في الوقت ذاته يجرِّب بشيء من الخوف خطةَ تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق، وبعدها تابَعَ تنظيمَ مسرحيات بائخة ومبرمَجة سلفًا لـ "انتخاب" مجالس بلدية يتقاسمها عملاؤه المباشرون مع رجالات النظام السابقين كما حدث في مدينة الموصل العربية التي لَفظتْ اثنين من أصدقاء الاحتلال بعد مجزرةٍ داميةٍ بحقّ المدنيين العزّل من عرب المدينة. ولكنّ الفشل الأكبر للإدارة الأميركية هو عجزُها حتى الآن عن تقديم دليل واحد مهما كان ضئيلاً على صحة مزاعمها بوجود أسلحة دمار شامل في العراق. وللتذكير فإنّ الكشف عن وجود هذه الأسلحة قد كان الأساس الذي أقامت عليه تلك الإدارةُ سياستها العدوانية، والمبرِّرَ المعلَنَ أمام العالم لشنّ هذه الحرب الاستعمارية التقليدية.
ب ــ المأزق المركّب ذاته تعيشه أيضًا المعارضة العراقية المتعاونة مع الاحتلال. فهي تَعرف تمامًا أنّ الاحتلال مرفوض شعبيًا رفضًا قاطعًا، ولذلك لم تنجح في 6 أيار (مايو) مثلاً في تسيير مظاهرة ضئيلة لتأييد الاحتلال في بغداد. وهذه علامة هامة تَجِيش بالدلالات، وتأتينا فورًا من التاريخ العراقيّ البعيد والقريب الرافضِ لأيّ شكلٍ من أشكال الاحتلال ومصادرة الاستقلال.
الوجه الآخر لمأزق المعارضة الصديقة للمحتلين هو في تنافرها وتشرذمها على صعيد التفاصيل الميدانية، الأمرُ الذي بَلَغَ درجةً دَفعت المحتلَّ الأميركيَّ إلى التدخل المباشر واعتقالِ وقمعِ بعضِ رموز هذه المعارضة الفاسدة من الذين بالغوا في أعمال النهب والسلب والسرقة والاستيلاء على المناصب الحكومية (كما في حالة المدعوّ محمد الزبيدي). خلاصة هذا المأزق هو أنّ هذه الأطراف من المعارضة تريد بوسائل محدودة تحقيقَ المحال، وهو: تشكيل حكومة وطنية مستقلة في بلد محتلّ ! إنّ هذا الأمر مُحال لأنّ المحتلّ لن يرضى بأن ينسحب من أجل سواد عيون قادة الأحزاب العراقية المتعاملة معه. كما أنّ الشعب العراقيّ لن يرضى بأقلّ من الاستقلال الكامل والناجز وطردِ المحتلين الأجانب الذين قَتَلوا الآلافَ من بنيه ودَمَّروا بلادَه وتراثَه الحضاريَّ التليدَ الذي لا يُقدَّر بثمن.
ج -الطرف الثالث الذي يعاني مأزقَه الخاص هو الطرف الاستقلالي التحرُّري، الذي ناوَأَ الحربَ العدوانيةَ منذ البدايات الأولى مناوأةً تامةً، وَرَفَعَ شعارَ "إنهاء الدكتاتورية من دون حرب " وهو الآن يقف ضدّ الاحتلال ويدعو إلى مقاومته ومقاطعته. ويتمثّل مأزقُ هذا الطرف في الأمور التالية:
- تردُّدُ بعض الاتجاهات والقوى المحسوبة على هذا التيار، واستمرارُ مراهنتها على "لعلّ وعسى وربما..." ولهذا، يكاد المرء ألاّ يَفْهم مثلاً موقفَ الحزب الشيوعيّ العراقيّ أو حزبِ الدعوة الإسلامية من الاحتلال الأميركيّ، وهل تجب مقاومتُه أم التعاملُ والتعاونُ معه ؟ وهل هما مع أم ضدّ تشكيل حكومة (مناصفة أو غيرها) تتعامل مع الاحتلال؟ أما عبارات من قبيل "نحن لم نُدْعَ إلى هذا المؤتمر" أو "نحن لم نُسْتَشَرْ في تشكيل هذه الحكومة أو تلك " وهي من العبارات التي تكررتْ في بيانات الحزبيْن المذكوريْن، فهي عبارات فارغة من أيّ مضمون أو قيمة معيارية مفيدة.
- ضعفُ إمكانياته المادية والإعلامية. وهذا ما جعله يَترك الساحةَ الداخليةَ مضطرًا، لتجرِّب فيها الأحزابُ الصديقةُ للاحتلال استراتيجيةَ "رَشِّ الدولارات"
- عجزُه عن تحقيق أيّ شكل من أشكال التنسيق بين جميع القوى الرافضة للاحتلال ولعودة الديكتاتورية معًا. بل إنّ هذا التيار لم يتمكّن حتى الآن من تقديم برنامجه السياسيّ الخاصّ.
وختاما يمكن الخلوص إلى أن إقدام المحتل على وضع قناع التحرير جانبا ، والخروج إلى الميدان بوجهه الاحتلالي الحقيقي سيختصر الطريق كثيرا على حملة الأوهام أو ضحايا التضليل بواسطة تلك الأوهام ، لتبدأ مرحلة أخرى من تاريخ العراق ستكون محكومة بآليات الصراع التقليدية بين احتلال عسكري مباشرة وحركة استقلالية جديدة تقطع مع فلول الدكتاتورية المهزومة وتغتني بتراث وتقاليد الكفاح التحرري العراقي عميق الجذور .
السفير