|
ديكتاتورية غريبة: في نقد فيفيان فوريستير لليبرالية المتوحشة... 4 من 8
عبداللطيف هسوف
الحوار المتمدن-العدد: 1744 - 2006 / 11 / 24 - 10:17
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
من الصعب على غالبية الناس أن يتخيلوا حقيقة (الربح)، هذا العامل الرديء الذي يفضي إلى نتائج سيئة، والذي أصبح المحرك الوحيد، بل ويشار إليه على أنه معجزة الوجود. يتعلق الأمر في الواقع بفكرة ثابتة، نابعة من حس وراثي مؤسس على الامتلاك، على تكديس الثروات. وإن تغيرت هذه الفكرة وانحرفت شيئا ما، إلا أنها حافظت على سحنتها الأصلية وعلى طابعها، إذ لم تعد (فكرة الربح) مرتبطة بممتلكات ملموسة، بل إنها تتعلق اليوم بالتقلبات الصورية للمضاربة وبرهاناتها المذهلة. اليوم، لا يكمن الغنى في امتلاك أشياء ملموسة كالذهب أو حتى الأوراق النقدية، لقد انحرف الغنى ليعشش في ثنايا معاملات المضاربة. إنه هذا الهلع الموجه نحو هيجان صوري، والذي تلتهم بموجبه أقلية كل شيء، بل تلتهم الجميع. هذا الهلع الذي يريد أن يكون شموليا، ذاتيا ولا يخضع لأي مراقبة. تستقر إذن بسهولة (ديكتاتورية الربح) لينتج عنها بعد ذلك أنواع أخرى من الديكتاتوريات. إن الحق في الربح اليوم يسلك طريق السرية. لكن المشكل هو أن هذه السرية أصبحت شيئا مسلما به، كما لو كانت شيئا مطلقا لا يقبل النقاش، كما لو كانت حقا إلهيا. بل إن الذين يستفيدون من هذا الربح لا يظهرون في الصورة، لا يريدون أن يعرفهم أحد، إنهم مجهولون. الذين يظهرون في الحقيقة هم المستفيدون في القطاع العام (أصحاب الرواتب التي تثير حساسيات)، أو الذين يستفيدون من إعانات الدولة (العاطلون في الدول المتقدمة الذين يتقاضون نفقات شهرية بخسة)، أو المهاجرون من الدول الأجنبية الذين تلصق بهم تهمة إفراغ صناديق دول العالم الثالث. إنه أمر يثير السخرية: أصحاب الفتات في الواجهة والمستفيدون الكبار من الربح لا يعرفهم أحد... عن أي ثروة نتحدث؟ هل الأمر يتعلق بإثراء البشرية؟ بالتقدم العلمي والاجتماعي؟ بإنجازات هامة ؟ بمواد مهمة، أساسية وذات مردود عام؟ لا، إنه ربح يغني أصحاب المقاولات والمالكون لأسهم ضخمة في البورصات. هل ستترجم هذه الأرباح على مستوى التشغيل؟ هل ستوزع هذه الثروات على الجميع؟ هذا ما يعلن عنه دائما، لكن الواقع غير ذلك، فالمقاولات الأكثر ربحا تسرح أكبر عدد من العمال وتقلص أجور المستخدمين. لماذا الاستثمار في ميدان الشغل عندما يصبح تسريح العمال يجلب أكبر الأرباح. هذا ما تحبه البورصة، وما تحبه البورصة يصبح قانونا. الربح ؟ عن أي ربح نتكلم ؟ إنه يسيطر كمبدإ مقدس ويكسب قوته من نجاح الأيديولوجيا المصاحبة له: التستر على الربح بعبارات من قبيل (التنافسية تقتضي ...)، (التنافسية لا تسمح) ... إلخ. كم من عامل تم تسريحه؟ كم من مقاولة تم تفكيكها؟ كم من أجور تم تقليصها أو تجميدها؟ كم من قرار تخريبي وشاذ تم تبريره بجمل فارغة من كل معنى كتلك التي ذكرناها آنفا؟ لكن ماذا تمثل التنافسية؟ ومن هم المتنافسون؟ عن أي صراع نتكلم؟ ما هي الرهانات الناتجة عن ذلك؟ ما هي قوة هذه التنافسية؟ وإلى أي حد هي ضرورية؟ كيف نفسر سلطتها المحتومة؟ كيف نفسر كونها أصبحت عاملا أساسيا في نسيج اقتصاد السوق؟ هذا الاقتصاد الذي نربطه بالديمقراطية... إنها حرب ضروس بين مجموعة من الشركات العملاقة وبعض الدول. لكن كيف يتم ذلك؟ ارتباطا بأي رهان؟ هل يتم ذلك ارتباطا بمصالح أو مشاعر وطنية؟ حتما لا، فالمقاولات التي نتحدث عنها هي مقاولات عالمية، وحتى إن كانت وطنية، فهي تلحق بشركات متعددة الجنسيات وتتنافس معها، كما قد يتعلق الأمر بشركات متنافسة تنتمي لنفس المجموعة. ثم إن طبيعة التنافس لم تحدد بالشكل الكافي حتى الآن، فعندما يتعلق الأمر باتخاذ إجراءات مضادة للمصلحة العامة، لا تظهر على السطح سوى مقاولة واحدة ويتم التستر على المقاولات الأخرى. طبعا يتم ذلك باسم التنافسية .... هل يتعلق الأمر بتحسين الظروف الإنسانية، خاصة المتعلقة بالشغل؟ لا البتة. إنه دائما باسم التنافسية يتم التضحية بمناصب الشغل، يتم التراجع عن المكتسبات الاجتماعية، يتم تخريب ظروف الشغل، يتم إغلاق المقاولات و اتخاذ إجراءات سلبية. ما العمل إذن ؟ كيف نتحرر من هذه التنافسية المتعبة ونتجاوز أزماتها؟ هل يجب أن نعين إحدى الشركات المنافسة على الفوز؟ هل نعمل على توحيد جميع هذه المقاولات المتنافسة؟ كيف نقرر من هو الشرير ومن هو الأصلح من بين المتنافسين عندما لا نكون في عداد هؤلاء المتنافسين؟ كيف نقرر من ندافع عنه؟ هل تمدنا هذه المقاولات بالعناصر الكافية للتعرف عليها؟ لا طبعا، لأن الأمر لا يتعلق بتنافس شريف، بل بنوع محدد من التنافسية، وحتى هوية المتنافسين مجهولة. هم يخرجون من حلبة لدخول حلبة أخرى حتى لا يعرفهم الناس. إنه نادي خصوصي تحكمه المصالح المشتركة، نادي محرم على الفئات الشعبية، كما تحرم التنافسية عليها. إن الاقتصاد بشكله الحالي لم يعد يعتمد على خلق مناصب الشغل، ففلسفة الربح كما رأينا سابقا تؤسس على تقليص هذه المناصب. وكلما سرحت إحدى الشركات عددا كبيرا من العمال، كلما اكتشفنا أن حصتها في البورصة قد تضاعفت. لم تعد مناصب الشغل ضرورية لاغتناء المقاولات كما كان الشأن في السابق. شركات وهمية (على الورق) تدخل عالم الاقتصاد أو ما يشبه الاقتصاد (المضاربة). أما مناصب الشغل التي يتم الحفاظ عليها، فهي لصالح هؤلاء المضاربين ويعتبرونها فوق ذلك صدقة: رواتب شهرية زهيدة يفضلون منحها للذين لا يظهرون أي تمرد، كسكان البلدان المتخلفة (ومن بينهم الأطفال) مثلا. منع عمل الأطفال شعار رفع منذ سنين خلت، لكن الأمر الواقع يظهر غير ذلك. 250 مليون طفل يشغلون في ظروف صعبة للغاية : يفقدون حياتهم داخل المناجم، يفقدون بصرهم وهم يحيكون الزرابي، يفقدون كرامتهم باحتراف الدعارة. من يستفيد من كل ذلك ؟ باسم التنافسية يبحث أرباب المقاولات الحرة عن أسواق يد عاملة رخيصة. هل يتعلق الأمر هذه المرة أيضا بالاستجابة لمتطلبات اقتصاد السوق ؟ إن التنافسية تنجح في تبرير هذا الاستغلال، لأن الرهان الوحيد هو الربح. الربح بأي ثمن، بكل الوسائل الممكنة.
------------------------ ملحق: ------- فيفيان فورستير( VIVIANE FORRESTER ) روائية في الأصل، كاتبة وناقدة في صحيفة لوموند الفرنسية وعضوة في لجنة تحكيم جائزة فيمينا ( Prix Fémina ). أصدرت عدة كتب أدبية منذ سنة 1970: (فان غوغ أو الدفن في حقول القمح)، (عنف الصمت) ، (هذا المساء، بعد الحرب)، (عين الليل)، (أيادي)...إلخ. لكنها قررت سنة 1996 مساءلة الأفكار الاقتصادية والتوجهات السياسية بكتابها الذي حاز شهرة واسعة : (الرعب الاقتصادي). كتاب حصل في نفس السنة على جائزة ميديسيس ( Prix Médicis ) وترجم بعد ذلك إلى 24 لغة. في شهر فبراير سنة 2000، يصدر لفوريستر كتاب آخر ينتقد الليبرالية في شكلها المعاصر تحت عنوان: (ديكتاتورية غريبة). تقول فوريستير: إننا نعيش اليوم تحت سيطرة ما يسمى بالعولمة ونرزح تحت ثقل نظام سياسي كوني وأحادي التوجه. هذا النظام يتخفى تحت غطاء الليبرالية المتوحشة التي تتحكم في العولمة وتستغلها لصالح عدد محدود وضد مصالح الفئات الشعبية الواسعة. تنتقد فوريستر في هذا الكتاب الفكرة القائلة بأن الاقتصاد يهيمن على السياسة، و تبين أن هذه السياسة المهيمنة والأحادية التوجه تخرب اليوم الاقتصاد لصالح المضاربة، لصالح الربح الذي أصبح متعارضا مع توفير الشغل، مع كل ما يتعلق بالمجال الاجتماعي (الصحة، التربية والتعليم... الخ)، بل ضد كل ما يرتبط بالحضارة الإنسانية. ترد فيفيان فورستير على الدعاية الغربية التي تروج خطأ بأن البطالة تكاد تنعدم في الولايات المتحدة الأمريكية فتقول : (نعم لقد تقلصت البطالة مقابل ارتفاع عدد الفقراء، حتى وإن كانوا يتوفرون على شغل. إنهم في الحقيقة يمولون بطالتهم وفقرهم). إنها دعوة لمقاومة هذه الديكتاتورية الغريبة التي تقصي عددا كبيرا من الاستفادة من التقدم الذي حققته الإنسانية. نعم يمكن مقاومتها لأنها تحافظ رغم ذلك على تمظهراتها الديمقراطية: إنه في آن واحد الفخ والأمل المنشود.
#عبداللطيف_هسوف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ديكتاتورية غريبة: في نقد فيفيان فوريستير لليبرالية المتوحشة
...
-
ديكتاتورية غريبة: في نقد فيفيان فوريستير لليبرالية المتوحشة
...
-
ديكتاتورية غريبة: في نقد فيفيان فوريستير لليبيرالية المتوحشة
...
-
هل سيحكم النساء العالم بعد أن فشل الرجال؟ سيكولين رويال تفوز
...
-
المغرب: أحزاب سياسية مريضة يسيرها زعماء لا ديمقراطيون
-
المغرب الكبير: بين تغييب البعد الأمازيغي واللعب على وتر العد
...
-
الأحزاب المغربية لا ترشح للانتخابات سوى مرتزقين وانتهازيين ج
...
-
الأمريكيون يحاسبون رئيسهم بوش عن سياساته الرعناء - إقالة وزي
...
-
اتحاد المغرب (العربي) الكبير: ضخامة تكلفة انقسام
-
المغرب (العربي) الكبير مؤجل إلى حين: السعي وراء زعامات فارغة
...
-
المغرب خلال عشر سنوات الأخيرة: تعددية حزبية مفبركة وحكومة تن
...
-
حزب الاتحاد الاشتراكي المغربي: انفتاح على فعاليات وطنية بديل
...
-
المغرب: انعدام الأمن وإرهاب المواطنين في وضح النهار، من المس
...
-
في الكتابة وعشق الكلام المرصع
-
الثماني المباركون في القاهرة يتآمرون على الرباعي المنبوذ بحض
...
-
عروبة مفقودة
-
الدين الرسمي وأحزاب اليسار في مواجهة الأحزاب الإسلاموية: ردو
...
-
شافيز ذاك الرئيس المدهش: وصف بوش بالشيطان ودعا الأمريكيين لق
...
-
توالد الذرائع بعد ذريعة 11 سبتمبر
-
لم تكن محقا يا بابا الفاتيكان.
المزيد.....
-
إيطاليا: اجتماع لمجموعة السبع يخيم عليه الصراع بالشرق الأوسط
...
-
إيران ترد على ادعاءات ضلوعها بمقتل الحاخام الإسرائيلي في الإ
...
-
بغداد.. إحباط بيع طفلة من قبل والدتها مقابل 80 ألف دولار
-
حريق ضخم يلتهم مجمعاً سكنياً في مانيلا ويشرد أكثر من 2000 عا
...
-
جروح حواف الورق أكثر ألمًا من السكين.. والسبب؟
-
الجيش الإسرائيلي: -حزب الله- أطلق 250 صاروخا على إسرائيل يوم
...
-
اللحظات الأولى بعد تحطم طائرة شحن تابعة لشركة DHL قرب مطار ا
...
-
الشرطة الجورجية تغلق الشوارع المؤدية إلى البرلمان في تبليسي
...
-
مسؤول طبي شمال غزة: مستشفى -كمال عدوان- محاصر منذ 40 يوم ونن
...
-
إسرائيل تستولي على 52 ألف دونم بالضفة منذ بدء حرب غزة
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|