|
الله في الإبراهيميات الثلاث
عبدالوهاب الحراسي
الحوار المتمدن-العدد: 7847 - 2024 / 1 / 5 - 00:02
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ستتناول السطور الآتية الله، فقط، كما يظهر في الكتب السماوية الرئيسة الثلاث ( العهد القديم، العهد الجديد، القرآن)؛ وذلك بعيدا عن ذكر الأقوام والأنبياء والمرسلين لأنهم يكوّنون تدخلات قوية في ظهور الله؛ ويجرّون خلفهم سلاسل وقيود شيدها المؤمنون عبر تاريخ الفكر الديني الإبراهيمي. إلى جانب ذلك الظهور سنتتبع عنصرين: - طبيعة العلاقة بين الله والإنسان، وعلى نحو خاص بينه وبين المؤمنين به - طبيعة الجزاء الناجم عن تلك العلاقة. إنهما عنصران لا ينفكان عن ظهورية الله في تلك الكتب.
بقي أن نقول أن المقصود بالظهور .. هو ذلك التصور الذي يحصل لنا من مجمل الخصائص المتراكمة و/أو المتكاملة والتي تشكل وسما لله وسمات فيه.
- في العهد القديم (الأسفار الخمسة) بدأ ظهور الله باسم يٰئيل أو يهوه. إلها خاصا ومخلصا لقبيلة بعينها، محابيا لها حاضرا فيها بذاته و مجسدا: (سفر التكوين حتى نهاية سفر التثنية؛ فهناك كف عن الحضور بذاته*) ، يرفض أن يشرك به. وكان متطلِّبا، متكلفا يصعب إرضاءه. وكان دمويا، بل متعطشا للدماء، بالكاد ترضيه العشرات من القرابين والتقدُمات والأضاحي: ( سفر اللاَّويين والتثنية والعدد) ، حتى أن المؤمنين به كانوا يبنون له مذابحا ومحارقا في أي مكان وكل مكان تقريبا.. وكان متطرفا في حكمه، مفرطا في عقوباته.. لذلك كان يكافئهم ويجزيهم بالنعيم والغنائم و الثروات. وبالرغم من تعصبه لهم فإن علاقته بهم وعلاقتهم به تنتهي بموتهم إلى الأبد؛ فلا شيء ولا وجود لهم بعد الموت؛ وفي المقابل، كان قاسيا، بطَّاشا، وضاريا على باقي الأمم أو الشعوب**. لقد كان ماديا، حسيّا انفعاليا، متحسسا ودقيقا.
- الله في العهد الجديد ( الإناجيل الأربعة)
بات الله طيبا، رحيما،محبا، متنازل عن الكثير من الطقوس والكفارات، ومتخليا عن وعوده السابقة في العهد القديم. ومتساهلا مع الخطاة والآثمين، يقدم ندمهم وتوبتهم إليه على كفاراتهم والقصاص منهم. يؤسس علاقته بالمؤمنين الجدد على الحب باعتبارهم مدانون بالخطيئة؛ لذلك كان الشعور بالندم والثقة بالغفران.. هو جوهر إيمانهم، وسبيلهم إلى رضى الله. ينشد لنفسه المحبة نيابة عن الخوف، وللمؤمنين السكينة والسلام والإيثار بينهم. ولأول مرة يعلن عن ملكوته ( وجود مفارق للطبيعة***) وعن قيامة الأموات؛ للدينونة، ويعد المؤمنين بحياة أبدية بخصائص الملائكة****.. لقد كان أرواحيا، عاطفيا، وعلى النقيض تماما مما كان عليه في العهد القديم.
- الله في القرآن يظهر الله متخارجا من صوره في العهدين القديم والجديد، ومفارقا لسيرته فيهما ومنفصلا، إلى حد كبير، عن نظامهما اللغوي؛ لذلك نجده، هنا، يدعو المؤمنين بهما بـ"أهل الكتاب". لقد بدأ مُفْرِطا في العهد القديم ثم مُفرِّطا في العهد الجديد ومتطرفا في كليهما، و انتهى ومتوازنا، بل صارما في توازنه إلى حد أن صفاته تنسدل تحت ثنائية: الجبروت والرحموت. وفي الوقت نفسه لا ينفك عن تأكيد حريته المطلقة في إرادته وقراراته وأفعاله.
لقد أصبح، في القرآن، لغزا مهيبا ومحيرا للبشر.. يقدم نفسه بلسان جديد ولغة كثيفة، مختزلة مركزة على أنه أحدٌ محضٌ، مجرد.. ليس كمثله شيء. ويعلن أنه يجب على البشرية أن تتخلى عن طفولتها.. حين يقرار توقفه عن إحداث المعجزات التي لطالما كانت معبرا للإيمان به والبرهان عليه وعلى قدراته في العهدين القديم والجديد.
لقدأصبح الله عقليا وعقلانيا، يطلب من الناس الإيمان به إلها واحدا لكل البشر. على أن يكون إيمانهم أصيلا.. وأصالة الإيمان في المؤمنين الجدد تكمن في التعرف على الله والاستدلال إليه والتقرب منه عن طريق التأمل والنظر في الطبيعة والحياة ومألات الأمم السابقة. أصبح الله مُقْصِدا في عواطفه، منطقيا في ثوابه. يطلب لنفسه القليل من المؤمنين في مقابل أن يعطوا الكثير في ما بينهم. يمتاز الله، في ظهوره في القرآن، بمنطق تجاري ولغة تجارية؛ ويؤكد أن العلاقة بينه وبين المؤمنين هي، حرفيا، علاقة تجارية.. وحين نراه يعرض عليهم صفقات مربحة فهو يفعل ذلك حقيقة وليس في سبيل المجاز.
ولئن كانت الخسائر والأرباح، بطبيعتها، تأتي بعد دورة كاملة من البيع والشراء فقد جاء (يوم الحساب) ليكون بوابة لعالم الآخرة - يبدو على النقيض من عالم العهد الجديد - وهو عالم حسي مادي، حيث يدخل الخاسرون أُتون نار حقيقية، ويتعذبون بشيّ جلودهم.. ويدخل الرابحون فردوسا حقيقيا مذهلا، حيث يمتلكون قصورا من رخام ومرمر، ومؤثثة بالزبرجد والدمقس ويرفلون بالحرير والذهب والأحجار الكريمة ويضاجعون فتيات خرافيات الجمال ويسكرون بخمر لذيذ ويشربون العسل واللبن ويأكلون لحوم طيور وفواكه.. كل ذلك على نحو حقيقي لا مجاز فيه.
إن العالم الآخر (الحياة الآخرة)، في القرآن، هو عالم يتمتع الإنسان فيه بوجود حقيقي حيث يتلذذ ويتألم حسيا. بخلاف ما تقرر في العهد الجديد من أن وجود الإنسان سيكون وجودا مفارقا (روحيا أو نورانيا). _______________________ * العدد: الأصحَاحُ 31، 18
** " ١٠ ولم يقم بعد نبي في إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرب وجها لوجه" التثنية 34 العدد: الأصحَاحُ 12، 6 - 8 "6فَقَالَ: «اسْمَعَا كَلاَمِي. إِنْ كَانَ مِنْكُمْ نَبِيٌّ لِلرَّبِّ، فَبِالرُّؤْيَا أَسْتَعْلِنُ لَهُ. فِي الْحُلْمِ أُكَلِّمُهُ. 7وَأَمَّا عَبْدِي مُوسَى فَلَيْسَ هكَذَا، بَلْ هُوَ أَمِينٌ فِي كُلِّ بَيْتِي. 8فَمًا إِلَى فَمٍ وَعَيَانًا أَتَكَلَّمُ مَعَهُ، لاَ بِالأَلْغَازِ."
*** " فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة" يوحنا الأصحَاحُ الخامس: 29
**** " ٣٠ لأنهم في القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله في السماء. " متى 22
" ٢٥ لأنهم متى قاموا من الأموات لا يزوجون ولا يزوجون بل يكونون كملائكة في السماوات. " مرقس 12
#عبدالوهاب_الحراسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اقتلنا أيها الكلام _ اقتلينا أيتها الحقيقة
-
الفيلسوف بين اكتشاف الواقع وصناعة المعرفة
-
الحرية لله
المزيد.....
-
إطلاق نار على قوات إسرائيلية في سوريا وجبهة المقاومة الإسلام
...
-
تردد قناة طيور الجنة الجديد بجودة HD على جميع الأقمار الصناع
...
-
بدء احتفالات الذكرى الـ46 لانتصار الثورة الاسلامية في ايران
...
-
40 ألفا يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
40 ألفاً يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
تفاصيل قانون تمليك اليهود في الضفة
-
حرس الثورة الاسلامية: اسماء قادة القسام الشهداء تبث الرعب بق
...
-
أبرز المساجد والكنائس التي دمرها العدوان الإسرائيلي على غزة
...
-
لأول مرة خارج المسجد الحرام.. السعودية تعرض كسوة الكعبة في م
...
-
فرحي أطفالك.. أجدد تردد قناة طيور الجنة على القمر نايل سات ب
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|