|
كيف نقرأ الدين الإبراهيمي في ضوء الفلسفة
إلياس شتواني
باحث وشاعر
الحوار المتمدن-العدد: 7845 - 2024 / 1 / 3 - 22:47
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لطالما شكّل الدين جزءا هاما من حياة الإنسان العاقل، فضرورته مختلف عليها بين من يرى تدين الإنسان كأمر فطري وغريزي مكنه من التغلب على اللاشكلية القبلية وبناء صرح المدنية (كارل يونغ)، وبين من يدخله في إطار المأثور الذي تشبه أعراضه أمراض الوسواس القهري، والهستيريا، والعصاب (سيغموند فرويد). لكن المتفق عليه بين الرأيين هو أن الإنسان البدائي قد ضحى بغرائزه وحريته الشخصية لغايات أكبر وأعظم منه: نشأة الحضارة والدين. تطورت الفكرة الدينية على مر عصور طويلة وتضمنتها حضارات إنسانية عريقة. فعالمنا قد شهد المذهب الإحيائي، أول ديانة في التاريخ المسجل، وعرف أيضا مذهب تعدد الآلهة مع الحضارة المصرية القديمة وحضارة بلاد الرافدين وحضارتي الإغريق والرومان، وشهد كذلك ميلاد عقيدة التوحيد الابراهيمية، والتي صاغت، بنصوص أسفارها المدونة، ثورة فكرية في تاريخ اللاهوت الإنساني. أول فلسفة للكون تعتبر اليونان مهد الفلسفة ومنبع الفكر الحر. لقد حاول طاليس، أول فيلسوف في التاريخ، في طلبه للحكمة، أن يرد أصل الحياة إلى مصدر واحد: الماء. كل شيء نشأ من الماء ويعود في النهاية للماء. إضافة طاليس الهامة تتمثل في أنه كان الأول الذي لم يتحدث عن "آلهة" خيالية للماء، بل عن موضوع واقعي وفيزيائي للماء. كان طاليس السباق في الانسلاخ من طريقة التفكير التقليدية وتفسير الظواهر الطبيعية بطريقة جديدة وثورية عن سابقيه. كان طاليس يملك المهارة وليس المعرفة. فلم يفسر الوجود عن طريق استنباطات أو مقولات، بل اهتم بالكيفية التي بدأ بها العالم وليس البحث عمن صنع أو أوجد العالم. كانت إجابته بسيطة: الماء. هذا لأن الطبيعة كانت المجال الأوحد لاهتمام طاليس وكل من سار على نهجه من بعده. وصفت نظريته المبدئية الجانب المادي للوجود في مقابل المكونات الأخرى كالشكل والقوة. تخيل طاليس أن القدرة على الحركة هي من مميزات المادة، وفهم هذه القدرة على أساس روحاني يعكس دينامية الروح والحياة. لقد بلغت فلسفة الروح أوجها مع أفلاطون، حيث يجادل أب المثالية بأن للعالم روح تسكن الجانب المادي للكون. يمثل الكون في نظره، بما في ذلك أجسادنا، جوهر الخالق في أفضل و أكمل صوره. لقد وهب الخالق البشر النوس (Nous) والذي يعني العقل أو قابلية التفكير. هذا الأخير يقع في الجانب الروحي، والروح بدورها تقع في الجسد الإنساني. خلق الله الروح قبل الجسد في التكوين والذكاء. الروح غير مرئية، وتتألف من العقل والإحساس. نحن، بالمعنى الصحيح، نبتة ليست من الأرض بل من السماء. العقل المحض كل شيء يوجد بالنسبة لنا يكون ممكنا وضروريا، هكذا يمكن تبسيط وتلخيص فكر ايمانويل كانط. فالعقل الخالص، بالنسبة لكانط، هو عندما يستخدم العقل صوره الفطرية ومقولاته في مجالات ونطاقات حيث لا توجد تجربة حسية. أفكار العقل المحض لها قيمة منظِمة، فهي تحدد وتبين أن هناك حقيقة متعالية وراء الواقع المادي، الشيء الذي يبرهن على مسلمات الله، والجنة، والحرية، والسعادة، وذلك على أساس متعالي وأخلاقي محض. التطور الخالق يقرن هنري برجسون جوهر الوجود بمفهومه الشهير «التطور الخالق». الحياة في نظر برجسون هي عبارة عن عملية خلاقة وغير منقطعة، فهي تستمر في الزمان والمكان. هذه العملية تحدث سواء عن طريق خالق أولي للمادة والوجود، أو عن طريق المادة نفسها التي تتحرك وتتطور بناء على قوانين طبيعية راسخة وثابتة. التطور إذن يحدث عبر تلقائية ووفق آلية الدفعة الحية، هذه الأخيرة هي ما يعبر عنها برجسون بالله، والتي تخالف نظريا مفهوم الإله الابراهيمي. حركة العالم المادي الخارجي تميل إلى التوقف وفقا لقانون انحلال الطاقة عند كارنو. فالحياة إذن ليست نتاجا للمادة على الإطلاق، بل هي حركة مضادة تنشئ الكائنات الحية من المادة نفسها. الدفعة الحية تتحرك في الاتجاه المعاكس للمادة، وتنشئ الكائنات الحية منها، وتختزن طاقة تقل بشكل تدريجي في الكائنات الحية. فهناك بالتالي صراع بين الدفعة الحية والمادة اللتين لا ينتج إحداهما الأخرى، ولا يمكن اختزال إحداهما في الأخرى بأي شكل من الأشكال. يوجد في الإنسان، في نظر برجسون، غريزة فطرية تدفعه نحو التعاون الاجتماعي والعاطفة النبيلة، فهذه الغريزة في نظره تأتي من الله. يرجع برجسون أصل الانضباط الأخلاقي إلى قوة العادات، والتقاليد، والمحرمات. فقد صاغت الأديان القديمة وأساطيرها أسس الأخلاق وضبطت النزعة الفردية عند الإنسان، وعبدت الطريق للدفعة الاجتماعية لكي تتطور أكثر. ولذلك يدافع برجسون عن فكرة الموروث الأخلاقي والضبط الاجتماعي كأصل للفكرة الدينية. في نفس السياق، يرى هربرت سبنسر أن المجتمعات الإنسانية قد شهدت عملية تطورية بدأت من أسر غير متحضرة ثم اتحدت لتكوِّن قبائل بدائية. خضعت هذه القبائل الضعيفة لجيران أكثر قوة، وتكونت بذلك مجتمعات أكثر تنظيما وفاعلية من حيث تمظهرات الحضارة، والفنون، والسياسة، والأفكار. نجد نفس النمط التطوري في اللغة، والموسيقى، والاقتصاد، والدين، حيث يرجع سبنسر أصل هذا الأخير إلى خوف البشر البدائيين من العالم الثاني و ارتباطه بما يعرف اصطلاحا في علم النفس برهاب الأشباح (Phasmophobia). المبدأ الأولي والهام للتطور عند سبنسر هو الانتقال من الصورة الأضعف والأقل تماسكا إلى الصورة الأقوى والأكثر تماسكا، وذلك عائد لتكامل المادة وبقاء الحركة في الوجود. كيف نقرأ الدين الإبراهيمي في ضوء الفلسفة تدور فكرة الدين الإبراهيمي على أساس التوحيد وعلى مبدأ الإيمان المطلق، حيث يؤكد العهد القديم على ذلك في سفر اشعياء: "هَكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ وَفَادِيهِ رَبُّ الْجُنُودِ: «أَنَا الأَوَّلُ وَأَنَا الآخِرُ وَلاَ إِلَهَ غَيْرِي" (اشعياء 44: 6). ويؤكد العهد الجديد على ذلك في سفر العبرانيين: "وَأَمَّا الإِيمَانُ فَهُوَ الثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَالإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى." (عبرانيين 11: 1). ويثبت القرآن ذلك أيضا في عدة مواقع أهمها : ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة: 136). من أهم ما يميز الفلسفة هو ارتباطها الوثيق باللاهوت، حيث تعد مسألة أصل الكون من أكثر القضايا المشتركة بينهما. ترجع الفلسفة مفهوم الوجود لثلاثة أوجه رئيسية: أن الكون موجود بذاته (مذهب الإلحاد)، أو أنه مخلوق بذاته (مذهب وحدة الوجود)، أو أن قوة خارجة خلقته (مذهب التأليه). الدين الابراهيمي يتخذ الوجه الثالث ويرى أن كل ما يمكننا أن نعرفه هو ظواهر متناهية تتميز بروابط مادية وسيرورة حياتية يمكن لنا ملاحظتها ورصدها، ولكننا عاجزون فعلا عن أن نعرف علتها الكافية، هذه العلة أو "المطلق" هو الله خالق المادة و الروح.
#إلياس_شتواني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إلى الشيماء
-
أحببتها
-
حب كانون الأول
-
المرأة التي تعبد نفسها
-
الكلمة
-
الفرق الإسلامية (13): الشيعة الاثنا عشرية
-
الفرق الإسلامية (12): الأشعرية
-
الفرق الإسلامية (11): الدروز (الموحدون)
-
الفرق الإسلامية (10): الرافضة
-
فوق القبر
-
الفرق الإسلامية (9): المعتزلة
-
الفرق الإسلامية (8): أهل السنة والجماعة
-
الفرق الإسلامية (7): الصوفية
-
أحرقوا الجثمان
-
رسالة إلى أمي
-
الفرق الإسلامية (6): الجهمية
-
يوم مات الملك/الإله
-
مشكلة المرأة
-
الفرق الإسلامية (5): السبئية
-
الفرق الإسلامية (4): السلفية
المزيد.....
-
بدء احتفالات الذكرى الـ46 لانتصار الثورة الاسلامية في ايران
...
-
40 ألفا يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
40 ألفاً يؤدون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
تفاصيل قانون تمليك اليهود في الضفة
-
حرس الثورة الاسلامية: اسماء قادة القسام الشهداء تبث الرعب بق
...
-
أبرز المساجد والكنائس التي دمرها العدوان الإسرائيلي على غزة
...
-
لأول مرة خارج المسجد الحرام.. السعودية تعرض كسوة الكعبة في م
...
-
فرحي أطفالك.. أجدد تردد قناة طيور الجنة على القمر نايل سات ب
...
-
ليبيا.. وزارة الداخلية بحكومة حماد تشدد الرقابة على أغاني ال
...
-
الجهاد الاسلامي: ننعى قادة القسام الشهداء ونؤكد ثباتنا معا ب
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|