أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة - ريا الصانع - دروس من ال 48- حوار حول الصمت والتواطؤ والحشد الشعبي للفلسطينيين في الكيان الصهيوني















المزيد.....



دروس من ال 48- حوار حول الصمت والتواطؤ والحشد الشعبي للفلسطينيين في الكيان الصهيوني


ريا الصانع

الحوار المتمدن-العدد: 7840 - 2023 / 12 / 29 - 10:15
المحور: حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة
    


نشرت المقابلة في العدد 309 من مجلة MERIP، أجرتها ريا الصانع مع سهير أسعد، بتاريخ ١٣ كانون الأول/ديسمبر ٢٠٢٣

Riya Al’Sanah, Soheir Asaad “Lessons from ’48—A Conversation on Silence, Complicity and Popular Mobilization of Palestinians in Israel,” Middle East Report Online, December 13, 2023.

أثار التصعيد الاحتلال الصهيوني العنيف ضد الفلسطينيين في قطاع غزة إثر عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/أكتوبر [المجيدة]، موجة غير مسبوقة من التضامن العالمي مع فلسطين.

طوال شهرين، خرج المتظاهرون إلى الشوارع في مظاهرات حاشدة في كل أنحاء العالم. وقد أعلن العمال رفضهم لنقل الأسلحة. واحتل المتظاهرون مكاتب الممثلون السياسيون وأقفلوا مداخل شركات الأسلحة الصهيونية والدولية. ونظم الطلاب إضرابات، وأقفلت الشركات استجابة لإضراب تضامني عالمي. في سياق هذه الحركة الاجتماعية العالمية التي تقع فلسطين في صلبها، يبدو النقص النسبي في التعبئة السياسية بين فلسطيني الـ ٤٨، واضحاً.

وبهدف التفكير في هذا الصمت والديناميات التي يقوم عليها واحتمال بناء حركة مستدامة لتحرير فلسطين، أجرت ريا الصانع- وهي منظمة سياسية من النقب وطالبة دكتوراه في جامعة إكستر- مقابلة مع سهير أسعد: نسوية فلسطينية ومنظمة سياسية ومدافعة عن حقوق الإنسان. سهير تعمل مناصرة في منظمة روى (نحو بنية مجتمعيّة فلسطينيّة صامدة وتحرّريّة)، وتشارك في إدارة مشروع “حرية التمويل”. أجريت المقابلة عبر زووم يوم ٤ كانون الأول/ديسمبر ٢٠٢٣.

ريا: سهير، هل يمكنك التحدث عن الوضع العام في حيفا، حيث تقيمين، و[في الأراضي الفلسطينية المحتلة] عام ٤٨ بشكل عام منذ ٧ تشرين الأول/أكتوبر؟

سهير: منذ ٧ تشرين الأول/أكتوبر، شهدنا مستويات غير مسبوقة من الصمت والخوف في حيفا وفي [المناطق الفلسطينية المحتلة] عام ٤٨، إضافة إلى غياب حقيقي للعمل السياسي. ويختلف هذا الصمت بشكل ملحوظ عن العدوانات السابقة- عدوان تموز عام ٢٠٠٦ والعدوانات المتعددة السابقة على قطاع غزة. ويأتي هذا الصمت خلال ما لا يعتبر مجرد عدوان آخر، إنما فترة من العنف غير المعقول. يأتي ذلك في وقت لا تخوض فيه وحده الاحتلال حرب إبادة جماعية، إنما نشهد تواطؤ كامل البنية العالمية ونظام القمع العالمي، والنظام الرأسمالي بأكمله الذي يستفيد ويختبر [أسلحته] على أجساد الفلسطينيين في قطاع غزة. وفي الوقت عينه، يحصل ذلك في سياق عالمي غير مسبوق. إن غزة، تواجه كل هذا الإرهاب، تدفع إلى ردكلة العالم. إن صمود غزة ومقاومتها لأمر ملهم. وهو شكل من أشكال لما يمكن أن يفعله المضطهدون، في حين أن العنصرية والمستويات العالية من الاضطهاد ضد أولئك الذين يتضامنون مع فلسطين هي تذكير بدرجة الانتقام والاضطهاد التي يطلق العنان لها في اللحظة التي تتحدى فيها أسس السلطة هذه. وفي كل هذا المشهد غير المسبوق، تغيب الاحتجاجات عن [الأراضي الفلسطينية المحتلة] عام ٤٨.

ريا: إذا نظرنا إلى أيار/مايو ٢٠٢١، خلال انتفاضة الوحدة، كان المشهد في [الأراضي الفلسطينية المحتلة] عام ٤٨ مختلفاً تماماً. حيث انضم الفلسطينيون عبر كل فلسطين التاريخية في النضال ضد الكولونيالية الاستيطانية الصهيونية. كيف تفهمين مستويات التعبئة المتزايدة التي شهدناها عام ٢٠٢١ ومن ثم هذا التحول إلى الصمت التام؟

سهير: أعتقد أن الكثير مما رأيناه خلال انتفاضة الوحدة كان مظهراً من السيرورة التي كانت تتكشف فعلياً. وخاصة لأن القيادة السياسية الفلسطينية الرسمية قد باتت غير ذات أهمية بشكل متزايد، وكانت أساليب التنظيم في فلسطين تتحول من التنظيم الموجه من الأحزاب السياسية إلى التنظيم غير المركزي. بدأت هذه السيرورات في العقد الذي سبق انتفاضة الوحدة. ما شاهدناه في انتفاضة الوحدة، لم نعشه من قبل، هو دخول طبقة اجتماعية مختلفة إلى المشهد كقائدة. معلنة أن لها القدرة على تحديد ما تعنيه التعبئة السياسية في [الأراضي الفلسطينية المحتلة] عام ٤٨، وبطريقة ما أعادت تحديد ما يمكن أن تكون عليه اللحظة الثورية. وقد تابعنا كتابات وقرأنا بيانات سياسية مجهولة المصدر، وتبادل المواد الغذائية والإمدادات بشكل عفوي ومنظم بين المجتمعات خاصة إلى اللد (التي كانت محاصرة وأعلن [الاحتلال] فيها حالة الطوارئ وفرض منع التجول فيها) وغيرها من أنواع المساعدة على امتداد [الأراضي الفلسطينية المحتلة] عام ٤٨. طبعاً، شهدنا الإضراب العام الذي دعي إليه في كل أنحاء فلسطين التاريخية في ١٨ أيار/مايو، وهو مطلب شعبي قاعدي تبنته الأحزاب السياسية لاحقاً.

كان العنف والقمع الذي شنه الاحتلال رداً على ذلك شديداً. وقد نشر جيش [الاحتلال] لتفريق المظاهرات، وأطلق جنود [الاحتلال] الرصاص الحي على المتظاهرين، وفرض حظر التجول، وشنت حملة اعتقالات جماعية. إذ اعتقل [الاحتلال] أكثر من ٢٠٠٠ شخص. ووجهت التهم إلى ٥٤٥ منهم. (١) وقد جرت محاكمة الغالبية العظمى منهم باستعمال قوانين مكافحة الإرهاب وقوانين مكافحة الجرائم ذات الأبعاد العنصرية، وفي الكثير من الأحيان القانونين معاً. إن تهمة الإرهاب، كما لاحظت عدن ولانا طاطور مؤخراً، وهي تسمية معنصرة تهدف إلى تبرير العقوبات الأشد ضد التعبئة السياسية وتجريم المقاومة. في الوقت عينه، تلعب الاتهامات بارتكاب جرائم ذات بعد عنصري دوراً في محاولات الاحتلال المتزايدة للخلط بين العمل السياسي المناهض للكولونيالية ومعاداة السامية. وفي محاولة لتجريم المقاومة بشكل أكبر، ربط الاحتلال الانتفاضات مع تزايد معدلات الجريمة في المجتمع الفلسطيني، الأمر الذي أثر في محو الأسس المناهضة للكولونيالية التي حركت الناس. (٢) وكان الأشخاص المهمشون هم الذين انتهى بهم الأمر إلى دفع الثمن الأكبر. وقد حلل الباحث والأكاديمي خالد عنتباوي البيانات المتعلقة بالاعتقالات، ووجد أن متوسط دخل عائلات المتهمين كان أقل بنسبة ٣٠ بالمئة من معدل دخل الأسرة الفلسطينية في [الأراضي الفلسطينية المحتلة] عام ٤٨. ٣١ بالمئة من المعتقلين كانوا من عائلات تعيلها امرأة، ونحو ٦٤ بالمئة من عائلات تتلقى معونات اجتماعية. (٣) في الوقت عينه، انهارت البنى التنظيمية التي انتشرت في انتفاضة الوحدة- التضامن المذهل والمساعدة المتبادلة- بسرعة كبيرة جداً، وبالتالي، تركت هذه العائلات الضعيفة إلى التعامل مع نتائج الانتفاضة لوحدها منذ عام ٢٠٢١.

كان هذا القمع العنيف المستمر والمترافق مع غياب البنية التحتية السياسية المستدامة والشعور بالتخلي، بمثابة رادع حقيقي للتعبئة حالياً.

ريا: حسنا، بعد أيار/مايو ٢٠٢١، شهدنا حملة عدوانية للاحتلال لخنق أي عمل سياسي فلسطيني يؤطر كجزء من النضال ضد الكولونيالية، وجرى منع أبسط مظاهر الهوية السياسية الفلسطينية، مثل العلم الفلسطيني.

سهير: نعم. من الصعب وصف مدى جنون العظمة الذي أصاب الاحتلال تجاه أي علامة على تعبئة سياسية شعبية في [الأراضي الفلسطينية المحتلة] عام ٤٨ بعد انتفاضة الوحدة. مثلاً، بعد مرور عامين، في أيار/مايو ٢٠٢٣، أطلق أحد المستوطنين الرصاص على ديار العمري، الشاب الفلسطيني البالغ عمره ١٩ سنة، على الطريق المؤدي إلى المستوطنات المسورة القريبة لبلدته صندلة. بعد استشهاده، هبت كامل بلدته في عرض مذهل للدعم الثوري للعائلة، مطالبة بالعدالة لديار. رفضت عائلته والبلدة محاولات الاحتلال و[بعض] الفلسطينيين (مثل منصور عباس، زعيم القائمة العربية الموحدة) تصوير استشهاد ديار على أنه ناتج عن قضية جنائية حصلت إثر نوبة غضب على الطريق. كانت الخطوات التي اتخذها الاحتلال لوقف التعبئة في بلدة صندلة- وهي صغيرة الحجم يبلغ عدد سكانها ١٧٠٠ نسمة- قاسية بشكل لا يصدق. إذ هاجم الاحتلال البلدة حيث كان الناس يتظاهرون بالمروحيات وشرطة الحدود والمداهمات خلال الفجر. وشنت حملة اعتقالات موسعة استهدفت أصدقاء ديار وشباب البلدة. وكما قلت، حتى العلم الفلسطيني استهدفه الاحتلال. وفي كل ليلة تقريباً، داهمت شرطة الاحتلال القرية لإزالة العلم الفلسطيني من شوارعها، بل حتى كانت تداهم المقبرة وتزيل العلم الفلسطيني عن مقبرة ديار. ثم يعيد أصدقاء ديار وعائلته رفعه، وبعد عدة ساعات، يعود الاحتلال لإزالته، ويعيدون وضعه من جديد وهكذا دواليك. في الأساس، بعد انتفاضة الوحدة، لم يستطع الاحتلال التسامح مع أي نوع من التعبئة في إطار فلسطيني. لو وقف الناس إلى جانب ديار دون وصفه بالشهيد أو دون التجمع ضمن إطار سياسي فلسطيني- لو لم يصروا على اعتبار مقتله بأنه اغتيال سياسي- لا أعتقد بأن الاحتلال كان سيمانع إحياء ذكراه أو حتى تنظيم احتجاجات. كان دعم القادة السياسيون للعائلة خجولاً، وهو أمر له دلالته كذلك. ويعود ذلك تحديداً إلى إصرار العائلة على اعتبار أن ديار هو شهيد، وبذلك تضع اغتياله ضمن النضال الأوسع ضد الكولونيالية. إن قبول مثل هذا التصنيف كان سيضعهم في صدام مباشر مع الاحتلال.



ويتماشى هذا الأمر مع اتجاه طويل المدى للتعبئة السياسية في [الأراضي المحتلة] عام ٤٨، مثل انتفاضة الوحدة وقبلها الانتفاضة الثانية، مع النضال الأوسع ضد الكولونيالية الصهيونية. إن قيادتنا السياسية، ولكن كذلك منظمات المجتمع المدني، متواطئة. مثلاً، بعد أيار/مايو ٢٠٢١، ألقى الصندوق الصهيوني الجديد الأموال على المنظمات الفلسطينية وتلك المختلطة (“الإسرائيلية”-الفلسطينية) بحجة دعم المعتقلين الفلسطينيين، ولكن في الوقت عينه كانوا يؤطرون دعمهم- وانتفاضة الوحدة ككل- ضمن منظور النضال الضيق [الأفق] من أجل المزيد من الحقوق الديمقراطية لفلسطينيي [الأراضي الفلسطينية المحتلة] عام ٤٨. وقد أدى ذلك إلى فصل هبة أيار/مايو ٢٠٢١ عن إطار التحرير الفلسطيني الأوسع وأعاد تشكيله كجزء من الاحتجاجات “الإسرائيلية” المؤيدة للديمقراطية.

ريا: يبدو أن أحد الاختلافات الأساسية عام ٢٠٢١ يكمن في الطبقة الاجتماعية لأبناء [الأراضي الفلسطينية المحتلة] عام ٤٨ الذين أخذوا زمام المبادرة. مع ضعف البنى السياسية الرسمية، ظهرت قيادة عضوية جديدة طرحت تحليلاً سياسياً يربط بوضوح بين الظروف الاقتصادية والاجتماعية المحلية وقمع الكولونيالية الصهيونية. لقد تحدى هذا التحليل أغلب تحليلات الأحزاب السياسية، والتي أعادت توجيه النضال في المناطق المحتلة عام ٤٨، بعد أوسلو، بعيداً عن التحرير الفلسطيني الأشمل إلى مجرد نضال من أجل الحقوق المتساوية أو “حقوق المواطنة”. هل يمكنك التحدث عن كيف بات التركيز على المواطنة مسألة مركزية جداً ونتائج ذلك على التنظيم السياسي؟

سهير: منذ أوسلو، وعلى نحو أشد، بعد الانتفاضة الثانية، بقيت قيادتنا السياسية عالقة ضمن إطار المواطنة. بالطبع، لم يكن الوضع أفضل قبل أوسلو. ولكن أوسلو عززت انقسام الشعب الفلسطيني وشهدت تخلي منظمة التحرير الفلسطينية عن فلسطينيي الأراضي المحتلة عام ٤٨، ما جعل مصيرهم قضية “إسرائيلية”. في هذا السياق، تركت الأصوات السياسية القومية تحاول خلق إطار للنضال، وقد فعلت ذلك بدرجة كبيرة ضمن إطار المواطنة الضيقة. لقد حصلت اختلافات بين الأحزاب السياسية المختلفة في طريقة تعاملها مع الموضوع: بعضها، مثل القائمة العربية الموحدة، فضل التعايش المتطرف. في حين أراد غيرهم، مثل التجمع، العمل ضمن النظام الديمقراطي لتحدي الجوهر الصهيوني للدولة اليهودية “الإسرائيلية”، من خلال الترويج لدولة لجميع مواطنيها بغض النظر عن حقوق المجموعة الوطنية والهوية الفلسطينية. وما زال آخرون، مثل الجبهة- المنظمة السياسية لأيمن عودة- يقدمون خطاباً حول المصالح المشتركة للطبقة العاملة العربية-اليهودية، ما أدى إلى تبييض علاقات القوة الكولونيالية تحت غطاء التعايش “الإسرائيلي”-الفلسطيني. لكنني أعتقد أن الالتزام العام بهذا الإطار بين الأحزاب قد أفضى إلى ما نشهده اليوم: هزيمة كاملة، واستمرار تقلص الهوامش “الليبرالية” لما سمح به الكيان الصهيوني، وموافقة القيادة السياسية لمصلحة تجنب أي مواجهة مع النظام.

تفاقم هذا التوجه نحو الإندماج داخل النظام “الإسرائيلي” عام ٢٠١٥ مع إنشاء القائمة المشتركة. كانت الأخيرة عبارة عن تحالف انتخابي يجمع مختلف الأحزاب الفلسطينية وحزب عربي-يهودي. وقد كان تشكيل كتلة انتخابية موحدة مطلباً شعبياً فلسطينياً منذ فترة طويلة. كفلسطينيين، نخلط بين الإفتقارإلى القدرة السياسية والإفتقار إلى الوحدة، ولكن الوحدة يمكن لها أن تنزع فتيل الخلافات السياسية المهمة. ولكن عملياً، أدت “وحدة” القائمة المشتركة إلى تواطؤ أكبر مع النظام “الإسرائيلي”. بقيادة أيمن عودة، طور مشروع القائمة المشتركة تحولاً في التوجه السياسي نحو ما سموه “سياسات التأثير”. كانت تلك هي المقاربة التي اقترحت على الفلسطينيين القائمة على التركيز على الاندماج في وزارات الدولة “الإسرائيلية والمؤسسات الأخرى المرتبطة بـ”الدولة”، مثل المؤسسات الحكومية والمحاكم. كما ركزوا على اكتساب القوة الإقتصادية من خلال التقدم الفردي في القطاع الخاص “الإسرائيلي”.

اسبتعد أيمن عودة ٣ وزارات من الاندماج الفلسطيني هي: وزارة الخارجية، وزارة الدفاع ووزارة الهجرة والإندماج (الوزارة التي تنظم الهجرة اليهودية إلى الكيان الصهيوني)، لأن هذه الوزارات، بحسب وجهة نظره، كانت مظهراً للطبيعة اليهودية للدولة. عودة يعلم تماماً أن النواة الصهيونية العنيفة للدولة “الإسرائيلية” لا تقتصر على هذه الوزارات. ويتمظهر ذلك في كل شبر من أجهزة الدولة، بما في ذلك المحاكم والشرطة والخدمات الاجتماعية، وكل شيء. فلماذا إذاً، ادعى أن هذه هي الوزارات الوحيدة التي عليها إشكالية؟ أعتقد أن هذا ما يوضح الخيال الكامن وراء رؤية الاندماج الفلسطيني.

يجسد عودة الطموح الفردي ليكون جزءاً من عملية التنمية “الإسرائيلية” التي عززها الإحتلال بشكل كبير منذ الانتفاضة الثانية عن طريق إطلاق خطط حكومية لتحقيق المزيد من الإدماج الإقتصادي. جرى الإحتفال بكون فلسطيني بات مدير بنك أو مؤسسة حكومية- ليس متواطئاً مع الكولونيالية “الإسرائيلية” فقط، إنما كذلك مع سياسة اقتصادية رأسمالية نيوليبرالية متوحشة جداً تؤثر مباشرة على الفلسطينيين بشكل غير متناسب. (٤) وقد قدم هذا الاحتفاء النجاحات الفردية على أنها إنجازات جماعية. كما تجاهلت [الاحتفالات] حقيقة أن الاندماج يحصل وفق احتياجات الإقتصاد “الإسرائيلي، وليس احتياجات الفلسطينيين. وفي حين يشير قادة مثل عودة إلى الوجود الأكبر للعاملين الفلسطينيين في القطاع الطبي أو التكنولوجي باعتباره إنجازاً جماعياً، إلا أن الواقع على الأرض يخبرنا بقصة مختلفة تماماً. لقد فشلت هذه السياسات في سد الفجوة الاجتماعية والإقتصادية، ليس فقط بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين”، وهو أمر معترف به على نطاق واسع، ولكن كذلك الفجوة بين فلسطينيي الأراضي المحتلة عام ٤٨ أنفسهم، والتي ظهّرتها انتفاضة الوحدة. وفي عام ١٩٩٧، كان نحو ٣٨ بالمئة عام ١٩٤٨ يعيشون في الفقر. وبلغت النسبة ٤٥ بالمئة عام ٢٠١٨ (مقابل ١٣ بالمئة من العائلات اليهودية). (٥)



كما أيد عودة وسواه ممن وافقوا على هذه السياسات فكرة أن الفلسطينيين يمكنهم الإندماج في هذا النظام والحفاظ على هويتنا كهوية ثقافية. وأعتقد حقاً أن غزة اليوم قد هزت هذه الأسس تماماً كما فعلت انتفاضة الوحدة. إن الجهود المبذولة لتحقيق التكامل لا تنجح لأنها تتعارض مع الهوية الفلسطينية السياسية التي تجسدها المقاومة ولا يريد القادة السياسيون مثل عودة التعامل معها.

ريا: خلال الفترة نفسها، شهدنا كذلك قيام الاحتلال بتقويض العضوية الفلسطينية في كنيست الاحتلال عبر تمكين المجالس المحلية. هل يمكنك الحديث عن هذا، وكيف يتناسب مع المشروع الذي تحدثت عنه والذي يتمثل في هندسة الاحتلال لطبقة فلسطينية تتوافق مصالحها السياسية والإقتصادية مع مصالح الاحتلال؟

سهير: الكثير من عمل الأعضاء الفلسطينيين في كنيست الاحتلال – إلى جانب مطالبهم الواضحة بتحقيق المساواة أو إنهاء الاحتلال، والتي تبدو فعالة على مستوى الشعارات- كان على ما يعتبرونه مستوى الخدمة، وهو العمل الذي ينبغي تطبيقه من الناحية النظرية من قبل الوزارات: إذا خلت قرية ما من مكتب بريد، أو طريق تحتاج إلى صيانة، وسوى ذلك. في الواقع، بات النواب مجرد ناقلين لهذه المطالبات بتحقيق الخدمات وحاولوا تبرير دورهم في إطار الكرامة والحقوق المتساوية.

وفي السنوات الأخيرة، حاول الاحتلال على نحو متزايد تمكين المجالس المحلية- وهي قيادة تقنية وأقل سياسية- بدلا من العضوية في كنيست الاحتلال. هذه المجالس ليست أحزاباً سياسية، وهي تشتغل على مستوى محلي وتنتخب على أساس عائلي في أغلب الأحوال. وهي لا تقلق الاحتلال من خلال إثارة القضايا المتعلقة بالصراع معه، بصفته هذه. وقد باتت، إلى جانب بعض المنظمات غير الحكومية القريبة جداً من الإطار الصهيوني الليبرالي، بمثابة جسر بين المجتمع الفلسطيني وحكومة الاحتلال لتقديم الخدمات. وكنتيجة لذلك، انتقلت السلطة والثقل السياسيان من الأحزاب السياسية الكلاسيكية ولجنة المتابعة العليا (وهي منظمة مظلة خارج البرلمان تمثل فلسطينيي الأراضي المحتلة عام ٤٨) إلى هذه المجالس والمنظمات غير الحكومية. وقد باتت بمثابة قناة يوجه الاحتلال من خلالها الاستثمارات إلى المجتمعات الفلسطينية، ما أدى إلى نشوء متدرج لطبقة رأسمالية فلسطينية يعتمد وجودها المادي بالكامل على تمويل الدولة “التنموي”. السبب الأساسي لكل شر الاحتلال هو عبر تجزئة الفلسطينيين جغرافياً وسياسياً على مستوى الأطر القانونية، كل ذلك [يحصل] بالطبع، ولكن أعتقد أننا بحاجة إلى التحدث عن أنفسنا أكثر وكيف أرجعتنا سياسة الاندماج هذه إلى الخلف بشكل جماعي.

ريا: لقد أوضحت كيفية حصول ذلك، ولكن في هذه اللحظة التي يتكشف فيها العنف الكولونيالي وفي مشهد من الخوف والإسكات وإنعدام الرؤيا تجاه التحرر الجماعي الفلسطيني، كيف يحصل البناء [للحركة]؟

سهير: قبل الحديث عن سؤالك الأكبر، ينبغي قول كلمة عن الخوف. لا يمكننا تجاهل ما يفعله الاحتلال في الأراضي المحتلة عام ٤٨، إذ يعتبر ذلك هجوماً. يمكن القبض عليك بسبب تعاطفك مع مقاومة غزة أو حتى كتابة آية من القرآن على وسائل التواصل الاجتماعي أو تحليل الاجتياح العسكري. والآن، إذا نظرنا إلى عدد الاعتقالات في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ٤٨ منذ ٧ تشرين/أكتوبر، فهي أقل مقارنة مع انتفاضة الوحدة. نحن نتحدث عن ٢٠٠ اعتقال، مقارنة بالآلاف خلال شهر أيار/مايو عام ٢٠٢١. (٦) طبعا، الظروف مختلفة. في ذلك الوقت، حصلت اشتباكات. وقد كانت لحظة ثورية مختلفة. اليوم بات الحال هو اعتقال أشخاص لمجرد نشر تعليقات على هواتفهم، أغلبها نشر يوم ٧ تشرين/أكتوبر.

وترافقت هذه الاعتقالات مع تشريعات قمعية جديدة. في ٨ تشرين الثاني/نوفمبر، ناقش كنيست الاحتلال مشروع قانون استهلاك المواد “الإرهابية”، الذي يجرم استهلاك المواد الصادرة عن حماس أو داعش (لاحظي أنهم وضعوا حماس وداعش في هذا التشريع معاً، وهو أمر متعمد للغاية). كما هدد الاحتلال بسحب جنسية أولئك الذين عبروا عن تعاطفهم مع ما يعتبرونه إرهاباً وحاول تقديم تشريع جديد يسمح بإطلاق النار على الأشخاص إذا أغلقوا الطرقات التي يستعملها [الاحتلال] للإمدادات العسكرية، والتي يمكن أن تكون أي طريق. وتهدف مشاريع القوانين إلى ردع الفلسطينيين عن تشتيت تركيز الاحتلال أو عن مواجهته خلال حملة الإبادة الجماعية المستمرة في غزة. على الرغم من عدم إقرار مشروعي القانونين، إلا أنهما ثابتان في عقول الناس. بشكل ما، هذا الخوف هو دائرة يغذيها القمع الصهيوني والخطاب السياسيين. لو توفرت إرادة سياسية وبنية تحتية ملتزمة بكسر دائرة الخوف هذه، أعتقد أن الناس سيكون لديهم ملء الثقة للمشاركة في التعبئة، وسيفتح ذلك عملية جديدة.

المهمة اليوم في الأراضي المحتلة عام ٤٨، ولكن كذلك في الضفة الغربية (لأن غزة لا تحتاج إلى دروسنا. غزة تعلمنا دوماً درساً. على الرغم من العزلة التي تعاني منها في ظل الحصار، فإننا أطراً مختلفة للتنظيم هناك، والقدرة على الصمود والمساعدة المتبادلة، التي لم نشهدها من قبل) هو العمل على بناء ما يمكن تسميته البنية التحتية التحررية. وسيشمل ذلك بناء بنية تحتية تسمح بفك الارتباط عن التواطؤ مع الاحتلال، سياسياً وإقتصادياً. إضافة إلى التركيز على إعادة صياغة تحرير المجتمعات المهمشة في الأراضي المحتلة عام ٤٨ باعتبار ذلك مرتبطاً بالنضال الأوسع من أجل التحرير الفلسطيني. وفي حين إن فك الارتباط الاقتصادي الكامل مستحيل في ظل الكولونيالية، لا أعتقد أن العمل التحرري المستدام يمكن تطويره دون وجود بنية تحتي جديدة يمكنها الحفاظ على العمل الثوري. لا أعني هنا تطوير المنظمات غير الحكومية، إنما بنى المساعدة المتبادلة التي يقودها المجتمع والتي تنفصل عن إطار النمو الفردي والتنمية في ظل الدولة الكولونيالية، وتمكن من العمل الثوري المستدام. أنا أعني السيادة الغذائية، وتنظيم النقابات، وحماية المعتقلين، وسلامة المجتمع في التعامل مع الجريمة، وسواها من القضايا. وهذه ليست مهمة سهلة، إنما من الضروري البدء بالتفكير بهذه الطريقة، بجدية وإبداع.



ريا: بخلاف ذلك، كما وصفت انتفاضة الوحدة حيث شهدنا الانهيار السريع للبنية التحتية، سنواجه تصاعداً دائماً في التعبئة الثورية دون تحقيق مكاسب تراكمية. لقد عملتِ في مجال المناصرة الأممية لأكثر من ١٥ سنة. هل يمكنك التحدث إلى حركة التضامن الآن وما إذا كنت ترين أن هذه الديناميات نفسها ستستمر؟

سهير: لفترة طويلة، كانت حركة التضامن منشغلة بتحدي الاحتلال، وأعتقد أن ذلك أمر عظيم. نعم استمروا بذلك، ولكننا نريدكم كذلك أن تتحدوا النظام السياسي. ونحن نرى بعضاً من ذلك اليوم. الناس يعرقلون الحياة اليومية في العواصم العالمية، ويعطلون مصانع الأسلحة، ويعرقلون البرلمانات، والأوساط الأكاديمية، وكل المتواطئين. ولكن أتساءل، إذا حصل وقف لإطلاق النار، هل سينتهي كل ذلك؟ هل سنعبئ من أجل إطار عمل محدود؟ أو نسعى إلى بناء تضامن عالمي مادي فعلي؟ لأنه إذا نظرنا إلى الشوارع اليوم، على الرغم من أن الاحتجاجات تحصل اليوم في أوروبا والولايات المتحدة، فإنك ترين الكثير من المجتمعات المضطهدة تتظاهر من أجل فلسطين: مناضلو تحرر السود، ومناضلو السكان الأصليين، ومناضلو أميركا اللاتينية، والمناضلون ضد الاستغلال الإقتصادي والمنظِّمات النسويات الكويريات، وسواهم من الأشخاص الذين يحشدون بالفعل. إننا نرى التضامن من الأشخاص الذين يعرفون مكمن المشكلة أين، ويعرفون أن العنف ضد غزة هو شكل من أشكال العقاب الكولونيالي الإنتقامي والشديد. لكن خوفي الكبير هو أن يقتصر هذا التضامن السريع والمتنامي والواسع النطاق على شعار وزمن معين، وأن ينهار كل ذلك ما لم نقم ببناء بنية تحتية دائمة، وأعني بذلك القوة المادية التي يمكن أن تعطل القوة الهائلة التي يمتلكها الاحتلال وحلفاؤه، إن الأمر لا يتعلق فقط بالولايات المتحدة. إنما هو نظام إقتصادي عالمي. لا نريد ذلك لغزة وفلسطين فقط، نريد أن نكون قادرين على الحصول على شيء يتجاوز التضامن التفاعلي ويتجاوز هذه الشعارات.

عندما نتحدث عن المستقبل، إنني أؤمن صراحة، بادئ ذي بدء بقدرة الفلسطينيين على النضال من أجل تحرير أنفسنا. ولكنني أؤمن حقاً وصدقاً كذلك بالتضامن العالمي، وخاصة تضامن المضطهدين، وتضامن الجنوب العالمي. لقد بذلنا الكثير من الجهد لبناء هذا التضامن، هو أمر مهم. لكننا قمنا بعمل سيء في إنشاء بنية تحتية دائمة، التي نحتاج إليها.

الهوامش:

[1] Adan Tatour and Lana Tatour, “The criminalization and racialization of Palestinian resistance to settler colonialism,” in Chris Cunneen, Antje Deckert, Amanda Porter, Juan Tauri, and Robert Webb eds., The Routledge International Handbook on Decolonizing Justice (Routlede, 2023), pp. 91-102.

[2] Ibid.

[3] Khaled Anabtawi, “Uprising Amidst Liminality: A Study of the 2021 Karameh (Dignity) Uprising of Palestinians inside the Green Line,” Omran 12/46 (Fall 2023), p. 133.

[4] Majd Kayyal, “48 Capitalism: The Future,” As-Safir Al-Arabi, September 14, 2019.

[5] Nasreen Haddad Haj-Yahya, Muhammed Khalaily and Arik Rudnitzky, “Statistical Report on Arab Society in Israel 2021,” The Israel Democracy Institute (2022), p. 31.

[6] “Data since 7 October 2023: Interrogations, Arrests and Indictments of Palestinian Citizens of Israel over the last month,” Adalah, November 13, 2023.



#ريا_الصانع (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دروس من ال 48- حوار حول الصمت والتواطؤ والحشد الشعبي للفلسطي ...


المزيد.....




- رايتس ووتش: الدعم العسكري لإسرائيل يعتبر انتهاكا للقانون الد ...
- الأمم المتحدة تحذر جنوب السودان من -شلل سياسي-
- لافروف ووزير خارجية إثيوبيا يبحثان تعزيز التنسيق بينهما في ا ...
- هيومن رايتس ووتش تدعو الغرب لوقف بيع الأسلحة لإسرائيل
- الأمم المتحدة: غزة أصبحت كوم دمار
- بيروت.. RT ترصد معاناة النازحين
- الأمم المتحدة: 70% من ضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة من ال ...
- يين المحاكمات والاعتداءات.. أيّ مستقبل لحرية الصحافة في تونس ...
- الأمم المتحدة تؤكد ضرورة محاسبة إسرائيل على انتهاك القانون ا ...
- إسرائيل.. منظمة حقوقية تعلق على قانون ترحيل أفراد عائلات -من ...


المزيد.....

- الإعاقة والاتحاد السوفياتي: التقدم والتراجع / كيث روزينثال
- اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة / الأمم المتحدة
- المعوقون في العراق -1- / لطيف الحبيب
- التوافق النفسي الاجتماعي لدى التلاميذ الماعقين جسمياً / مصطفى ساهي
- ثمتلات الجسد عند الفتاة المعاقة جسديا:دراسة استطلاعية للمنتم ... / شكري عبدالديم
- كتاب - تاملاتي الفكرية كانسان معاق / المهدي مالك
- فرص العمل وطاقات التوحدي اليافع / لطيف الحبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة - ريا الصانع - دروس من ال 48- حوار حول الصمت والتواطؤ والحشد الشعبي للفلسطينيين في الكيان الصهيوني