في الوقت الذي مثّل البعث العراقي في تاريخ العراق الحديث، الشريحة القومية الأكثر تعصباً وتزمّتاً وعُنفا وشوفينيةً، التي حاربت القوى الديمقراطية واليسارية والقوميةالتقدمية، والأسلامية المتنوّرة، واحكمت ربط البلاد ونفطها بشتى الأساليب والنتائج بالمستعمر، والشركات المتعددة الجنسية .
فان عصاباته من ابن ماهية وناظم كزار لازم وابو العورة وجبار محمد على الملقب جبار كردي واخوانة ستار وفتاح كردي وسعدون شاكر العزاوي ورزاق لفتة وفاضل الشكرة وابواركية ووهاب كريم وعلي رضا باوة وصدام التكريتي ومحيي مرهون بطل مسرحية ابو طبروغيرهم ، والتي نشطت بأسم فرق مكافحة الشيوعية في بغداد، ايام الزعيم عبد الكريم، كانت تٌموّل من السفارة البريطانية آنذاك بواسطة التاجر (ع.ل) في الصالحية كما كشفت "وثائق السفارة" عام 1979 . (1) وتمّ تطوير تلك العصابات الى منظمة حنين الارهابية التي انضمت اليها مجموعات جديدة من الشقاواة والمجرمين، بقيادة صدام، والتي لعبت الدور الأكبر في مجئ البعث الثاني في 1968.
وبعد ان ركب صدام وعصاباته حزب البعث، حاول ركوب كل الموجات الفكرية والسياسية التي غزت الشارع وعارضته، وجهد للمحافظة على طاعة واضعاف وتحطيم الأحزاب والقوى والشخصيات الوطنية بتلك العصابات بالترغيب والوعيد ، وبشتى السبل، راح ضحيّتها المئات والآلاف من خيرة ابناء وبنات العراق، على اختلاف طيفه القومي والفكري والديني .
وبذل جهودا كبيرة لكسب تاييد غرب العراق وعشائره الكبيرة المعروفة بميولها وانغلاقها القومي والطائفي(2)، ذات الأمتداد في الأردن وسوريا والسعودية ودول الخليج(3) ، والتي بذل الجيش البريطاني ورجاله قبل ذاك جهوداً كبيرة لكسبها، وكسب وجوهها من الذين كانوا يشكلون اساس دواوينية الأدارة العثمانية ومؤسساتها في العراق، والتي وطّدت وامّنت له كسب العشائر العربية التي شاركت بالثورة العربية ضد الحكم العثماني وتحالفت معه بقيادة الشريف حسين في المنطقة، وشكّل منهم الدولة العراقية ومؤسساتها وقيادة جيشها، بالشكل الموالي له، يوم لم تكن للدول العربية حدود بل شكّلت اقليماً واحداً عملاقاً تحت النير العثماني.
تحرّك البعث على اساس (القومية، الدين، الطائفة، البداوة) لحشد المعارضة لحكم الزعيم عبد الكريم وبالتالي اسقاطه بالدعم الأميركي، بعد افول الهيمنة البريطانية بثورة 14 تموز 1958، ونزوع الولايات المتحدة لبسط نفوذها على العراق، في تلك المنطقة الأكثر حيوية في العالم بعد نجاحها باسقاط مصدّق في ايران 1953 . .
تحرّك البعث، مدعوماً، بتوطيد مرتكزات ثابته في تلك الأسس الأربعة، التي أخذت تشكّل مرتكزات قوى المحافَظَة والتخلف في مجتمعنا، والتي نظّرَ لها ميشيل عفلق في "البعث والتراث" يوم قال، "لايمكن ان تكون دولة البعث الاّ اسلامية وانه (أي عفلق) في الواقع لايمكن ان يكون الاّ مسلماً (؟!!)"، يوم اقيمت الندوات الأجبارية في المؤسسات ومناطق السكن في انحاء العراق، وكان اشارة البدء للهجوم الوحشي على القوى الديمقراطية آنذاك .
وطرح صدام مصطلح منطقة"المثلث ألعربي" الذي ضم مثلث الموصل ـ تكريت ـ الرمادي (نينوى ـ صلاح الدين ـ الأنبار) باعتباره جوهرة العراق وشرفه العربي (راجع "الثورة العربية" لسنوات 975 ـ 976 ) ، وشكّل لذلك "قوات الفارس"، كاحدى اصناف القوات المسلّحة لحماية المثلث، والمشكّلة من ابنائه العرب (الأقحاح)، والتي تطوّرت الى الفيلق الأوسط العربي الخاص، الذي أُمُن له التفاعل المتين، مع المنظمات الحزبية والجماهيرية للبعث في منطقة المثلث، ليشكّل منتسبيه العصب الأكثر حسّاسية في كل الأجهزة الخاصة المدنية والعسكرية، وعلى ارضية التسهيلات الهائلة لأبنائه من الموالين، في قطاع المقاولات وشراء العقارات والسمسرات المتنوعة ، مكوناً بذلك تشكيلة مالية ـ اجتماعية ـ عسكرية مافيوية مترابطة، تزعّمت التشكيلات المشابهة في انحاء العراق الأخرى . . وحكمت العراق بالحديد والناروتنعّمت بخيراته واحتكرتها، وتمتعت والى الآن، بروابط عربية وعالمية تُحسَد عليها، تحاول الحفاظ عليها ومقاومة أي تغيير يهددها، من اية جهة كانت، باسم الدين تارة وباسم القومية والوطن تارة اخرى.
ولم تكن مصادفة ابداً ان يخرج ذلك المثلث بـ(ابنائه) سليما معافى سواءاً من الحرب العراقية ـ الأيرانية او من حرب الخليج الثانية، بل خرج اكثر قوة وجشعاً . ولم تكن مصادفة ان ينتفض العراق بكل فئاته وقواه في آذار 1991، ضد الدكتاتورية والمثلث هادئ ـ رغم بعض التحركات التي قضي عليها فوراً ـ بل قامت وحداته آنفة الذكر باغراق الأنتفاضة بالدم، ولامصادفة ان تتخندق قوات النظام المقبور فيه لمقاومة التغيير .
العولمة وتطور العصابات
قد يتصورالبعض ، ان تطوّرات العولمة والتحديث، لم تشمل الطغم الدكتاتورية الحاكمة في الدول العربية وعلى رأسها دكتاتورية صدام، ففي الوقت الذي أمّن فيه التكنيك المتطوّر (المحظور على ابناء البلد) وسرعة الأتصال وتخطي الحدود الوطنية بتصدير رأس المال المالي واستثماره، وعقد الصفقات، واستخدام احدث طرق الحساب البنكي بل والتلاعب عليها بالنمط الآسيوي . . أمّن ويؤمن لصدام اخطبوطاً من العلاقات والمصالح المتشابكة متخطية الحدود، لايمكن اختصارساحة مواجهتها في الوطن العراقي، بل تمتد وتمتد الى الدول العربية والغرب ذاته كما في حالة بن لادن .
ويشير الباحثون الى المخاطر المتنامية لقطب السوق السوداء في العالم الذي يشكّل قطباً هائلا ملازماً لاقانونياً(؟) ، لتطوّر رأس المال في زمان العولمة الذي لم يُتمكّن بعد من وضع الصيغ القانونية الملازمة له باتفاق دولي، كما جرى لدى الأتفاق على انشاء منظمة الأمم المتحدة وعقودها ومواثيقها التي الزمت دول العالم على التقيد بها ضمن التوازن العالمي الضامن آنذاك ، الأمر الذي يهدد العديد من اقطاب السياسة والحكم بكشف علاقتهم اللامشروعة به، اذ ما هو مقياس الشرعية الآن ؟ حين تُكشف وتغطىّ الحقائق وفق مصالح وارادة المنتصر ؟
ان تنامي قطب السوق السوداء المتكوّن من العديد من الأقطاب المتصارعة /المتفقة التي تضم تجارة السلاح، اسلحة الدمار الشامل، المواد المشعة، النفط، اليورانيوم ، الرقيق الأبيض، المخدرات، تجارة الجنس(4) . . الخ وتداخل وسرعة اصطفاف عصاباته ومصالحه المالية اساساً في زمان العولمة من : بن لادن، المافيا الروسية، عصابات صدام، عصابات المخدرات اللاتينية والعربية والأفغانية، والمافيات الأميركية المتنوعة . .
هذه الأقطاب السوداء العربية والعالمية هي خط الأنسحاب والتقدم والمناورة لعصابات صدام التي تحاول التغلغل في الأوساط الأسلامية والقومية رافعة الشعارات الأكثر تطرفاً محاولة تثبيت نفسها باسم الدين . . مستغلة انعدام القانون وسلوك قوات الأحتلال التي اسقطت سلطة صدام واسقطت الدولة والجيش العراقي وتتجاوز القوى الوطنية العراقية.
ولمحاولة الأجابة على سؤال ماذا يريد الأميركان؟ والذي لا يعرف اجابته غير ادارة الرئيس الحالي جورج بوش او قسم منها على الأقل، (ولنترك موضوع النفط وسوقه الذي لايتحمّله هذا المقال الآن) من الضروري التذكير بأن الأدارة الأميركية تريد اقامة نظام ديمقراطي تداولي مستقرعلى حد طرحها . .
ومن مجريات الأحداث يتبيّن انها لاتريد بعد اسقاط صدام، ان تأتي القوى التي عارضت صدام وقدمت بذلك السبيل انواع التضحيات وكسبت تعاطف والتفاف اوساط شعبية لايستهان بها رغم ظروف القمع والحرب والحصار والتهجير!! في الوقت الذي يصرّح رجالها وبأكثر من تعبير، انهم ينوون اقامة( سلطة ديمقراطية ومعارضة متفاعلة معها)، ليس كمعارضة صدام التي لاتعرف سوى العنف للحلول محل السلطة . .
وينسى او يتناسى هؤلاء ماعانته القوى الوطنية العراقية ـ الأصيلة منها خاصة ـ في نضالها السلمي ضد صدام، وكم تحمّلت من قمع وقسر، الى ان فرض عليها صدام طريقاً واحداً لم يكن سوى العنف والتصفية الكاملة، الأمر الذي واجهته بالعنف دفاعاً عن شعبها وحقوقها وكيانها. الاّ انها عادت للنضال السلمي رغم كل الصعوبات، ونجحت في اقامة كيانات وادارات
ديمقراطية واعدة (رغم النواقص هنا وهناك) واخص بالذكرمنها تجربة الأدارة الكردستانية الديمقراطية وبرلمانها وهيئاتها لمدة اكثر من عشر سنوات ، بدعم من القوى المعارضة الوطنية الأخرى في عموم الوطن .
وفي الوقت الذي سعت فيه المعارضة الوطنية لنظام صدام لكسب الدعم الخارجي، بما فيه الأميركي، أعلنت الأدارة الأميركية الحرب واسقطت صدام لوحدها. وفي الوقت الذي تُشكر فيه على اسقاط الطاغية، الاّ انها وباجراءاتها لحد الآن، بتثبيت الأحتلال وتجاوز مؤتمرالقوى والأحزاب الوطنية الذي كان من المؤمّل ان يشكّل الحكومة المؤقتة، شلّت معارضة صدام ذات الخبرة والتجربة على مدى تاريخ العراق المعاصر . . وتحاول العودة للعشائر والطوائف وكأنها تريد محاربة صدام بسلاحه وتكريسه .
قال الجنرال فرانكس في بداية الحرب "لاخطة متكاملة لدينا، سندخل وسنعدّل خطّتنا وفق الواقع الموجود، وسنعمل كل ما من شأنه احراز النصر" . والآن وبعد سقوط صدام، يبدو ان قوات الأحتلال تسيروفق نفس الخطة العسكرية ولوحدها، شالّة الأحزاب والقوى الوطنية، بعد ان امَنت النفط وفرّقت قوة صدام لعسكرية . الأمر الذي يهدد بتصاعد الرفض لوجودها العسكري على ارضية انعدام الأمن ومؤسسات الدولة والبطالة . .
ان القوى الوطنية العراقية بالوان طيفها القومي والديني والسياسي مدعوّة الآن وبألحاح ان تبادرالى الأرتفاع بالأعمال التنسيقية الجارية حالياً ، وتحقيق جبهة القوى الوطنية العراقية، على اساس مواجهة مهام حل الكارثة الوطنية الشاملة، ضد التطرف، وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة ذات الصلاحيات التي تهيء لأجراء الأنتخابات العامة، وللتعامل مع الأحتلال بوجهة انهائه في الوقت المناسب.
16 /6 / 2003
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهي مجموعة الوثائق التي سقطت بيد الطلبة الأيرانيين لدى احتلالهم السفارة الأيرانية في واشنطن، ايام الثورة الأيرانية وكانت تتضمّن معلومات المخابرات الشاهنشاهية "سافاك" حول صدام التكريتي، وصدرت عام 1979بكتاب سمي "من هوصدام التكريتي؟"
(2) لقد تعرّض ابناء المنطقة المتنوّرون من رجال الأدب والفكر و الدين والسياسة، الى صنوف الملاحقات والأغتيالات وحرق المنازل والتهجيروالتشريد، ولعبوا والى الآن ادوارا مشرّفة ضد الدكتاتورية، وحتى من داخل مؤسسات النظام البائد كمحاولة الأنقلاب التي قادها"العميد محمد مظلوم الدليمي" التي أعدم كل القائمون بها .
(3) على سبيل المثال، تمتد عشائر الجبور من شمال اليمن وعلى طول الساحل الغربي لشبه الجزيرة العربية والبادية الغربية بين العراق والأردن وجزيرة عمرو في جنوب تركيا، وتمتد عشائر شمُر ـ ذات الفخذين العملاقين ؛ جربه و طوقة ـ من اليمن وطول الساحل الغربي للجزيرة وبادية العراق ـ الأردن وحتى معان والعقبة (راجع "صفحات من تأريخ العراق القريب " للمس بيل)
(4) بلغت نسبة تجارة الجنس الرسمية (من الأفلام السينمائية والفديو والأنترنت والكتب والمجلات والأذاعة والتلفزيون، شركات الأعلان والتصميم،العروض الحية، النوادي الليلية، البيوت . . ) نسبة تناهز نسبة تجارة النفط في حجم التبادل المالي في العالم ـ عن احصائية للجنة الأيدز العالمية التابعة للأمم المتحدة نوفمبر/ 2002 .